الفصل الثالث : هل يمكن تطبيق الشورى في عصرنا الراهن ؟؟
1 ـ المحصلة النهائية لما سبق ان تقوية المجتمع المدنى وقيامه على اسس الشورى هى السبيل الأمثل لمواجهة الأخطار الداخلية والخارجية ، ليس بالشعار الاستبدادى المأثور القائل بأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ، ولكن باستنهاض كل افراد الأمة واخراجهم من السلبية وتحويلهم الى مسئولين ، كل في موقعه ، وحينئذ فلن تستطيع قوة داخلية او خارجية ان تهدد ذلك المجتمع . إن الشورى الاسلامية ليست هى الديمقراطية الغربية القائمة على التمثيل النيابي وحكم النُّخبة الذى يغطي عورة الاستبداد الطبقى بالتمثيل النيابي ، فهذا يقترب من الاستبداد التراثى المعروف بأهل الحل والعقد و ( الملأ ) الفرعونى .إنّ الشورى الاسلامية هى ما يعرف الآن بالديمقراطية المباشرة ، ولكن تزيد عليها فى أنها فريضة تعبدية إسلامية لها أساس فى عقيدة الاسلام . لقد تاكد مما سبق ان الشورى الاسلامية فريضة كالصلاة ملزمة لكل فرد ولا تقبل الاعذار في المرض او السفر او الحرب او في السلام ، ولا يقبل فيها الاستنابة او ان يحضر احد بدلا عن أحد . وتأكد مما سبق ان المسلمين هذا النظام الشورى الكامل حقق المسلمون الأمن والحرية معا والانتصار على القوى المحيطة بهم . وهذه معجزة عسكرية وحضارية .. ولكن يبقى السؤال الهام .. هل يمكن تطبيق الشورى في عصرنا الراهن ؟؟
2 ـ هناك حُجّة كثرة السكان وانصراف أغلبهم الى امور معاشهم . ونردّ عليها بإنّ الشورى الاسلامية مجرد ملمح من ملامح المجتمع الاسلامي ودولته الاسلامية، يعمل باتساق مع السلام الاجتماعى والعدالة الاجتماعية والرقى الحضارى وحرية الفكر والرأى والدين ( وأن الدين لله جل وعلا وأن الوطن للجميع على قدم المساواة ) وثقافة المساءلة والشفافية واعتبار كل فرد فيه مسئولا ومشاركا في بناء المجتمع ، ومن الطبيعي ان الفرد اذا ضمن لنفسه حقوقه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها فلن يتخلف عن المشاركة في كل نواحى النشاط السياسي وغيره، ولن تكون هناك أكثرية صامتة او سلبية بمثل ما نعانى منه الآن .
4 ـ وقد يقال بأن هناك مناطق في السياسة والادارة والامور الحربية والأمنية لا يعرفها الا المتخصصون ومن الخطورة إفشاؤها لحماية البلاد ، ولابد من وجود هيئات وكودار لمباشرتها بعيدا عن الشورى التى تستلزم المشاركة الشعبية وابداء الرأى من كل فرد . وقد سبق ان اوضحنا ان الشورى الاسلامية تسمح بانفراد الخبراء المتخصصين في شئون الحرب وغيرها وان يكونوا مرجعية يؤخذ برأيهم وهم هنا " أولو الأمر" أي اصحاب الشأن او الموضوع المطروح للبحث او اصحاب التخصص فيه ، وطاعتهم في اطار المقاصد التشريعية الكلية للقرآن ، وهى العدل والتيسير والأحسان والمعروف وألا تتعارض طاعتهم مع طاعة الله حيث انه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .. وذلك هو المقصود بقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (59) النساء ) وفيما عدا مناطق التخصص فان الشورى الاسلامية تجعل المجتمع كله بافراده جميعا هم أهل الحل والعقد ، وتقدم لهم الاقتراحات او يقدمون الاقتراحات للبت فيها والاقتراع عليها ، ويعززها رأى الخبراء أولى الأمر اذا كان هناك ما يستدعى ذلك . كما يقومون بمساءلة ( المسئول ) من أصحاب الأمر أو الشأن أو الاختصاص فى أى موقع باعتباره خادما للمجتمع .
5 ـ وقد يتعللون بأن اجراء الشورى بين كل أفراد المجتمع عملية مستحيلة اليوم ، اذ كيف يمكن توفير المكان المناسب لتجميع الملايين ، واذا كان ذلك ممكنا في المدينة في عصر النبى فهو مستحيل في عصرنا . ونعيد التأكيد هنا على ان الشورى مجرد ملمح من ملامح المجتمع المدنى الاسلامي يعمل باتساق مع الملامح الاخرى الاقتصادية والسياسية والاخلاقية والحضارية . وفيما يخص ذلك الموضوع فان من المستحيل فعلا ان تقوم الشورى الجماعية في دولة مركزية تحتكر عاصمتها كل مقاليد الأمور وتدير الأقاليم بنظام الحكم الفردى حيث تتركز فى الرئيس كل الصلاحيات ، ويعمل الجميع طبقا ( لتوجيهات السيد الرئيس ) . لا يمكن تصور ان تقام آلية الشورى الاسلامية في ذلك النظام المركزى المستبد ، وانما الذي يتناسب الشورى هو النظام المتكامل للادارة المحلية الذي يصل الى كل قرية وضاحية وحى ، فكل مجتمع صغير يدير ويباشر شئونه بنفسه ، فى جمعية عمومية تتكون من كل افراده البالغين من الذكور والاناث ، هو مجلس الشورى ، وهم الذين يعينون الوظائف الادارية من الخفراء والأمن وباقى الوظائف ، وهم الذين يحاسبونهم ويعزلونهم ، اما الشئون العامة للدولة من العلاقات الخارجية والأمن والحرب فهو مقسوم بين أهل التخصص " أهل الذكر أولو الأمر " وبين المشاركة الشعبية بالرأى اى ترسل قرية او كل ( حى ) بالرأى الذي ترتضيه في الأمور المطروحة للمشورة الجماعية فيما يخص الوطن كله .ولا ريب ان التقدم التكنولوجى في وسائل الاتصال والاعلام المرئى والمسموع والمقروء قد الغى المسافات بين الدول وليس فقط بين بلاد الوطن الواحد ، وعليه فان عصرنا الراهن هو انسب العصور للمشاركة الشعبية الكاملة ، حيث أصبح من الصعب اخفاء الحقائق عن الشعب ، وحيث اصبح من السهولة بمكان معرفة اتجاهات الرأى العام في اسرع وقت ، واذا تدخلت وسائل الاتصال الحديثة في اجراءات الشورى الكاملة لكل ابناء الوطن فسيكون ذلك سهلا وميسورا ومتاحا في نفس الوقت لكل بلد . اذن فالشورى الاسلامية التى لا تقبل التمثيل النيابي هى التى توافق عصرنا الراهن المفتوح ، عصر الفرد العادى وحقوق الانسان الذي لم يعد فيه مقبولا أن يفكر أو يتحدث شخص او جماعة بالنيابة عن الشعب .
6 ـ وقد يقال اننا نتحدث عن الشورى الاسلامية ، وليس هناك مجتمع كله من المسلمين ، فماذا عن الأخوة الاقباط وغير المسلمين من ابناء الوطن ؟ اليس ذلك تجاهلا لهم وتغريبا لهم عن وطنهم ؟ . وتقول ان الأمر يحتاج الى تأصيل للمفاهيم الحقيقية للأيمان والاسلام واستقائها من القرآن ، واذا صححنا مفاهيمنا الاسلاسية بالقرآن نجونا من التطرف والأرهاب والتخلف والاستبداد .
ان الاصل في كلمة الايمان هو (الأمن ) والى هذا يشير قوله تعالى ": (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) الانعام ) ، فالذين (آمنوا بالله ) " ( وآمن لهم الناس ) أى وثق وإطمأنّ اليهم الناس ،و لم يختلط ايمانهم بظلم لله وللناس اولئك لهم "( الأمن ) عند الله ، اى الجزاء من جنس العمل ، او ان الايمان من الأمن والأمن من الايمان . لذلك فالايمان له استعمالان في اللغة العربية والقرآن الكريم ، فكلمة "آمن بـ" أي اعتقد وكلمة "آمن لـ" بمعنى وثق واطمأن وشعر بالأمن ، ان الأغلب على كلمة الأيمان ومشتقاتها ان تأتى بمعنى الاعتقاد ومنها : (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285 البقرة ). لأن تصحيح الاعتقاد هو الهدف الأول للقرآن الكريم . ومع ذلك فان الاستعمال الثانى لكلمة الايمان بمعنى الأمن والأمان جاء كثيرا في القرآن ، حيث يتخصص معنى الأمن بالتعامل بين البشر ، ونأتى ببعض الأمثلة السريعة . في قصة نوح قال له الملأ المتكبرون : (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ (111) الشعراء ). أي كيف نؤمن لله ونثق فيك ونطمئن لك وقد اتبعك الفقراء ؟ . وفى قصة يوسف قال أخوته لأبيهم : (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) يوسف 17) . اى انت لا تثق فينا ولا تطمئن الينا . وقال اليهود " (وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ) (73) آل عمران ) . أي لا تطمئنوا الا لمن كان على دينكم ، وقال تعالى للمؤمنين عن اليهود : ( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ) (75) البقرة ) . أي كيف تطمعون ان يثقوا فيكم ويطمئنوا لكم ؟.
ان الدين له جانبان ، جانب خاص بالعلاقة بالله تعالى وهو الايمان به وعبادته ، وجانب خاص بالتعامل مع البشر ، وهو عدم الظلم للناس ، او شيوع الأمن والأمان وأن يأمنك الناس ويثقوا فيك ويطمئنوا لك . والذين آمنوا بالقرآن في عصر محمد عليه السلام جمعوا بين الأيمان العقيدي والايمان السلوكي ، واذا كان الأيمان العقيدي قلبيا لا يعلم حقيقته الا الله تعالى فقد كان ايمانهم السلوكي بمعنى الأمن او الاعتداء ظاهرا في تصرفاتهم حيث تحملوا الاضطهاد وكفوا ايديهم ، وبعد ان هاجروا للمدينة كرهو الأمر بالقتال حين فرضه الله عليهم فقال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) البقرة ) . لذلك أمر الله تعالى رسوله بأن يحرضهم على القتال دفاعا عن انفسهم ، فقال تعالى : (وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (84) النساء ) . والمهم ان الايمان يعنى الأمن في التعامل مع البشر والاعتقاد والتصديق في التعامل مع الله ، ونزلت آيه تحوى المعنيين معا وتصف النبى بأنه : (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ )( التوبة 61 ). أي يؤمن بالله تعالى ويصدق به ويثق في المؤمنين ويأمن لجانبهم . وعلامة الايمان الظاهرى ان يكون الانسان مأمون الجانب لا يعتدي على أحد ، اما يخص ايمانه الباطن او عقيدته فذلك مرجعه الى الله تعالى علام الغيوب ، وسيحكم فيه يوم القيامة او يوم الدين ، حيث تأجلت الأحكام على عقائد البشر الى ذلك اليوم : (قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46 ) الزمر ). واذن فكل البشر مؤمنون طالما يعيشون مع بعض في أمن وسلام والذي يخرج عن ذلك ويقتل مؤمنا مسالما فجزاؤه غضب الله عليه ولعنه وعذاب خالد في جهنم : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93) النساء ) ، وهذه الاية حكم عام ينطبق على كل من يقتل انسانا مسالما مأمون الجانب سواء كان القتيل منتسبا للأسلام او المسيحية او اليهودية او البوذية او اللادينية .. لذلك تقول الآية التالية تحدد مفهوم ذلك المؤمن الذي ينبغى الحرص على حقه في الحياة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) (94) النساء ) ، أي اذا كانوا في حرب فلابد ان يتبينوا حتى لا يقتلوا بريئا مؤمنا ، وعلامة الإيمان ان يلقى أو يقول كلمة ( السلام عليكم ) .!، وحينئذ يحق دمه ويصير مؤمنا في الظاهر بمجرد القاء السلام ، اما عقيدته فمرجعها الى الله تعالى يوم القيامة .
7 ـ والاسلام في التعامل مع الله تعالى هو الاستسلام القلبى والفعلى لله تعالى وحده : ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) الانعام ) اما الاسلام الظاهرى فهو السلام والمسالمة او السلم مع الناس، يقول تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً )البقرة 208 )، والحرب في الاسلام هى لرد الاعتداء فقط ، وسبق ان اشرنا الى ان الذي يلقى بالسلام فى المعركة يكون مؤمنا ينبغى حقن دمه . والحديث يطول ، ولكن نكتفى منه بتقرير حقائق القرآن فى ان الاسلام والايمان في العلاقة بالله هما التصديق والايمان والاستسلام له وحده ، وفي التعامل مع البشر هما الأمن والأمن والسلم والسلام .. والحكم على البشر فيما يخص علاقتهم بالله وعقيدتهم فيه مرجعه الله تعالى يوم القيامة . اما فيما يخص التعامل بيننا فكلنا مسلمون مسالمون مؤمنون مأمونون، وان الذي يعتدي على الناس انما يخرج عن الاسلام والايمان بمقدار إعتدائه مهما رفع من شعارات .
8 ـ وبتطبيق حقائق القرآن على اى مجتمع فكل الناس فيه آمنون مؤمنون مسلمون مسالمون بغض النظر عن عقائدهم طالما يتمسكون بالأمن والسلام ، ولا يلجأون للحرب الا للدفاع عن انفسهم ضد المعتدين من المجرمين و الغزاة . وبتطبيق هذه الحقائق القرآنية على المجتمع المصرى بالذات فان أرض مصر دار امن وسلام وأيمان واسلام ، واهلها اشهر الناس بايثار السلام والسلامة ، فهم مسلمون مؤمنون بغض النظر عن عقائدهم وتصنيفاتهم الدينية .. ان مصر هى المكان الوحيد في الأرض – بعد المسجد الحرام الذى جاء وصفه بالأمن ، وقد جاء ذلك في قصة يوسف حين استقبل اياه يعقوب وأخوته وقال لهم : (وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) يوسف ). والذي يخرج عن هذه الحقائق القرآنية فيقتل الآمنين المسالمين اى المؤمنين المسلمين من المصريين المسلمين والأقباط انما هو خارج عن دين الله تعالى ومستحق للعذاب واللعنة طبقا لمنطوق الآية(93) في سورة النساء ، سواء كان المقتول يحمل اسما اسلاميا او اسما قبطيا . وطبقا لحقائق القرآن السابقة فأهل مصر مسلمون مؤمنون ينطبق عليهم تشريع المشورة الاسلامية وليست غريبة عليهم وهم احق بها ، وكل المصريين تحت جناحها سواء ، وليس هناك أغلبية واقلية وانما هم جميعا امة واحدة تعيش في أمن وسلام في اقدم وطن واحد ، وينبغى ان يتكاتفوا جميعا ضد من يعتدي على امنهم وسلامهم تحت اى ادعاء . واذا كان بعضهم يرى ان كلمة "قبطي" تعنى"مصرى" سواء كان مسلما او مسيحيا فاننا نرى من واقع الحقائق القرآنية ان كل مصرى هو مؤمن مسلم طالما لا يرفع السلاح في وجه أخيه ، وطالما سلم الناس من أذاه ، ويكفي ان القرآن اكد في عشرات الآيات ان اختلاف العقائد والمذاهب حتى في اطار الدين الواحد مرجعه الى الله تعالى يوم القيامة ولا شأن لنا نحن بذلك " البقرة 113-يونس124-آل عمران 55- المائدة 48- الزمر 3" وتلك مجرد امثلة . بل أن حقائق القرآن تؤكد ان اختلاف العقائد يدعو الى حسن الصفح والغفران وليس للبغضاء والحقد ."الحجر 85- الزخرف 88،89" .
9 ـ وفى النهاية فان اسس المجتمع المدنى في القرآن لا تنحصر فقط في الشورى الكاملة التى يمارسها كل افراد المجتمع ، وانما تشمل الى جانب ذلك سماحة دينية وعدالة اجتماعية اقتصادية ورعاية لكل بيوت العبادة ، وحرصا على الدفاع عن كل تلك القيم الحضارية ضد أى معتد من الداخل او الخارج ، وتكاتفا بين ابناء المجتمع يصل به الى الصدارة على مستوى العالم والى درجة انعدام السلبية في الداخل . ومن الطبيعي ان المجتمع المدنى القرآنى يرفض الحكم الطبقى المستتر خلف شعارات التمثيل النيابي او الديمقراطية المنقوصة التى تعبر عن اصحاب الثروات الذين يفكرون بالنيابة عن المجتمع في الظاهر ويفكرون في مصالحهم الخاصة في الحقيقة .
10 ـ حين قام المجتمع المدنى في المدينة كانت العصور الوسطي تعتنق الاستبداد الديني السياسي ، وكانت دولة النبى بهذه المفاهيم الشورية خارجة عن ايقاع العصر السياسي والاجتماعى والاقتصادي ، لذا كان سهلا بعد ان وصل المسلمون الى الشام والعراق ومصر وفارس وورثوا كنوزهم ان يتأثروا بنبض العصر فضاعت الشورى واندثر المجتمع المدنى وحل محل الخلافة الراشدة الملك الوراثى العضوض القائم على القهر والقوة واحتكار الثروة ، وكان الخليفة الأموى يحكم بمعرفة أهل الحل والعقد من شيوخ القبائل ، ثم جاء الخليفة العباسي يحكم بمعونة ملأ جديد من كبار القادة وشيوخ بنى هاشم العباسيين وكان الملأ- أو اهل الحل والعقد – يفكرون فيما يرضى الخليفة بنفس ما كان يفعل ملأ فرعون موسى ، ثم جاءت الخلافة الفاطمية بمفهوم النص الألهى على اختيار الخليفة فأصبح الخليفة الفاطمى معصوما من الخطأ لا يحتاج الى ملأ يفكر له ، بل هو – طبقا للعقيدة الشيعية – يعلم التفسير الالهى والعلم اللدنى والغيب الالهة ، وقراراته معصومة عن الخطأ ..
11 ـ وتاريخ الخلافة –عند المسلمين لا يختلف عن تاريخ الاستبداد في القرون الوسطي ، فكل الحكام كانوا يحكمون بالحق الالهى المقدس سواء كان ذلك الحاكم خليفة عباسيا او فاطميا او امبراطورا للدولة الرومانية المقدسة او ملكا انجليزيا او فرنسيا . ثم افسحت الطبقة البرجوازية " المتوسطة" لنفسها مكانا تحت شمس اوروبا على حساب الأكليروس الأوربي " الملك والكهنة والأمراء والنبلاء".. وقادت الصراع للحصول على الدستور الذى تقضى به على استبداد النظام القديم ، وخدعت البرجوازية جماهير الفلاحين والعمال بمقولة الانتخاب والتمثيل النيابي لتكرر بها نفس مقولة أهل الحل والعقد ، ولتكون هى نفسها في موقع الصدارة بعد ازاحة النظم القديمة ، وساعدها في ذلك دخول العالم في عصر المكتشفات الجغرافية والاستعمار وعصر البخار والصناعات والتجارة العالمية ثم المخترعات والتقدم العلمي ، وفي ذلك العصر تحولت البرجوازية الى رأسمالية دولية وشركات عالمية أصبحت الآن" شركات متعددة الجنسية تحكم العالم في النظام العالمى الجديد ، بعد اضمحلال الاتحاد السوفيتي والعالم الشيوعى . وفي هذا النظام العالمى الجديد اصبحت الرأسمالية تتحكم في الثروات القومية وفي ادوات الاتصال ، أي اصبحت تسيطر على المعدة والمخ والسمع والبصر ، واصبح نظام الرأسمالية الديمقراطي النيابي هو المثل الأعلى والحلم الذى يتطلع اليه مثقفو العالم الثالث الذين يعانون من استبداد الحكم العسكرى او الحزبى او الديني . بينما تختلف النظرة الواقعية عن تلك الصورة الوردية التى ترسمها الدعاية الغربية الرأسمالية لنظامها الديمقراطي ، فهى تلهى الجماهير بتمثيلية الأنتخاب التى تأتى برئيس يعبر عن النخبة الحاكمة التى تتحكم في الثروة ، ولا يستطيع الرئيس المنتخب ديمقراطيا ان يخرح عن النص والا تمت تصفيته كما حدث لرؤساء امريكين مثل لينكولن وجون كيندي .
12 ـ ان الذي يملك الثروة هو الذي يحكم ، والفقير الذي ليس في بيته دقيق وخبز ليس لديه متسع للتفكير في الشورى او حال الأمة والمجتمع ، والقرآن الكريم كما فرض الشورى على كل مؤمن فأنه حارب قيام طبقة مترفة تتداول الثروة وتتحكم فيها ، فاحتوي القرآن على مبادئ اقتصادية تتيح توزيعا عادلا للثورة وتمنع تركزها في يد فئة قليلة وكان من مقاصد القرآن التشريعية للثروة والمال : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) (7) الحشر ) اى حتى لا يحتكر الاغنياء الثروة وتتكون منهم طبقة تتسبب فى إهلاك الوطن ، كما حدث من ملأ فرعون الذى كان يزعم انه يملك الأرض ومن عليها .
13 ـ ان الاستبداد السياسي لا يمكن ان يوجد مع عدالة اجتماعية ، انما يمكن ان يوجد شكل من أشكال الخداع تقوم فيه الطبقات المترفة الحاكمة بغسيل مخ الفقراء الأكثرية بأن تلهيهم بمواكب الأنتخاب والتمثيل النيابي باعتباره الطريق الأوحد للوصول للحكم او تغيير الواقع الكئيب ، وتضيع اجيال " في انتظار جودو" او المهدى المنتظر، دون جدوى ، والنتيجة ان تلجأ الطبقة المترفة الثرية للدفاع عن مكانتها وتروتها بالتحكم السياسى لأن الثروة والسلطة وجهان لعملة واحدة . لذا تقوم هذه الطبقة التى تتحكم في الاعلام والموارد بتكلفة الحملات الإنتخابية وتبيع صورة وهمية للمرشح وتنفق على غسيل مخ للجماهير حتى يصل احد المرشحين من المرشحين الذين تقدمهم الطبقات المترفة ، ويظل الحكم تديره تلك الطبقات الثرية من خلال الانتخاب والتمثيل النيابي ويمنعون كل "دخيل" من الاقتراب من دائرة الصفوة ، وحتى لو وصل من بين الكادحين شاب متحمس الى بعض تلك المجالس النيابية فسيضيع صوته بين ضجيج الأغلبية المتحكمة والمتآمرة ، واذا علا صوته وأصبح مؤثرا استطاعوا شراءه وابعاده عن قواعد الشعبية او استطاعوا تصفية ماديا او معنويا ، ويبقى الحال على ما هو عليه ، ظلم اجتماعي تستر عورته نظم سياسية خادعة ترفع لواء التمثيل النيابي ، والنتيجة اجهاض لكل أمل المطحونين في مكان تحت الشمس . ويستمر النظام الديمقراطي الحر عنوانا براقا للحالمين من مثقفي العالم الثالث . وأحوال العالم الثالث اسوأ ، فالنخبة العسكرية او الحزبية تحكم وتعمل ضدها نخبة دينية ، وكل ثورة تأتى للحكم لا تلبث ان تحوز على الثروة ويظل الفقراء كما هم في حرمانهم وسلبيتهم ، والثوار من كل اتجاه ديني او حزبى او عسكرى يتاجرون بمتاعبهم ويرفعون شعارات براقة للاستهلاك المحلى وعيونهم في الواقع على الثروة والسلطة .
14 ـ إن الاسلام القرآنى الحقيقى هو (الحل ) بديمقراطيته المباشرة وبعدله الشامل وبحريته المطلقة فى الدين. ومن أسف أن هذا الاسلام العظيم يتم إستغلاله أسوأ إستغلال فى السعى لإقامة دولة دينية تعيد فظائع العصور الوسطى فى عصرنا الراهن. وهذا الاسلام القرآنى تتم مصادرته الآن . والله جل وعلا هو المستعان .
الخاتمة : كيف يمكن إقامة الشورى الآن ؟
الشورى الاسلامية وتحت مسمى الديمقراطية المباشرة يتم تطبيقها الان فى بعض مناطق فى اوربا وأمريكا وكندا . أى ليست الشورى الاسلامية يوتوبيا خيالية بل ممكن تطبيقها الآن كما أمكن تطبيقها فى عصر الرسول فى المدينة و اليونان القديمة . أى إن المشكلة ليست فى الشورى ولكن فى الانسان إذا لم يقم بتغيير ما فى نفسه من ثقافة الخنوع والخضوع والسلبية الى ثقافة الحرية والعدل والايجابية فى السلوك وشجاعة المبادرة .
وفى مصر توارثنا ثقافة العبيد التى تجذّرت عبر عشرات القرون، وفيها تكلمت ثقافة العبيد هذه بكل اللغات التى تكلم بها المصريون من الهيروغلوفية والديموطيقية والقبطية واليونانية ، ثم العربية . وتحكم بها فى المصريين فراعنة مصريون وهكسوس وفرس ويونانيون ورومان وعرب ومماليك واتراك واخيرا مصريون بعد يولية 1952 ، وقد أرتكبوا فى حق المصريين ما يتفوق أحيانا على الفراعنة الأجانب والمتمصرين . ثقافة العبيد هذه هى العائق الأكبر الذى يحول دون تطبيق الشورى أو حتى الديمقراطية الناقصة (النيابية التمثيلية ) .
فى ثقافة العبيد هذه تسود عبادة الأبطال وتقديس الفرعون مهما بلغت وضاعته ، كما يُعتبر الأحرار والمصلحون المُسالمون خونة وأعداء للشعب ، ولكى يظل الفرعون مستبدا لا بد أن يخلق عدوا فى الداخل يشغل به الناس ، ويجعله فزّاعة لهم حتى يكون الخوف وإنعدام ( الأمن ) مبررا للتنازل عن الحرية . كما يخلق المستبد عدوا خارجيا يسهل إتهامه بتدبير المؤامرات ، لتكون (عُقدة المؤامرة ) شمّاعة يعلق عليها الفرعون كل أخطائه وفشله ، فكل ما يحدث من نكبات ليس سببها إستبداده وفساده وأعوانه الفسدة والفشلة من أهل الثقة ، ولكن السبب هى تآمر الأعداء فى الخارج وتعاون الخونة معهم فى الداخل .
وبهذه المنظومة الشريرة تسير مصر وغيرها من بلاد العرب والمسلمين ، حيث يصطحب الاستبداد الفساد والفشل وقهر المواطنين الذين تتعاقب فيهم الأيام والسنوات بلا أمل فى التغيير ، بل يكون البديل المنتظر فى التغيير أفظع وأبشع ، حيت يتمترس الاستبداد بالدين ، فى دولة دينية تنشر الخراب وتتحكم فى الناس فى الدنيا وتزعم تحكمها بهم فى الاخرة أيضا . وتستعمل إسم الله فى ظلم عباد الله ، والله تعالى لا يريد ظلما للعالمين .!
المعضلة الكبرى فى تطبيق الشورى الاسلامية هى تدمير هذه الثقافة البغيضة الراسخة فى المجتمع . وتدميرها لا يكون إلّا بإرادة شعبية حديدية . وهذه الارادة تحتاج الى وعى شعبى وجمعى وفردى . وهذا الوعى يخلقه إصلاح تشريعى يؤسس حرية الفكر ويمنع تجريم الفكر ، ويؤكد حرية الدين لكل فرد ، ويغلّ يد السلطة التنفيذية عن التحكم فى الاعلام وحق المعرفة ، بجانب إصلاح تعليمى حقيقى يتم به صياغة العقل على أسس معرفية تعترف بحق الاختلاف فى الرأى وتراه دليل ثراء معرفى وعقلى ، وتجعل له أخلافياته وآدابه ، ومعه إصلاح دينى يمنع أن تكون المساجد أداة للصراع السياسى وخلط الدين بالسياسة كما نشهد الان فى مصر . وهذا الاصلاح التشريعى التعليمى الدينى يحتاج هو الآخر الى إرادة شعبية حديدية . بمعنى أن البداية والنهاية هى الارادة الشعبية فى التغيير الى الأصلح أخذا من قوله تعالى ( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ) .
هذا الاستعداد للتغيير وممارسته يستلزم نضالا ويحتاج تضحية ووقتا ، لأنه تغيير لثقافة متجذرة يبلغ عمرها عشرات القرون . وكما يقال ( ما لا يُدرك كله ..لا يُترك كله ) ، فلا بأس من التدرج على مراحل يتم بها تقليص معالم الاستبداد شيئا فشيئا وتمكين الشعب من قوته شيئا فشيئا ، الى أن يتم تأسيس ديمقراطية نيابية تكون مقدمة للديمقراطية المياشرة ، أو الشورى الاسلامية .
هو حُلم قابل للتحقيق .. فهل نحاول ؟
أحمد صبحى منصور
المطرية ـ القاهرة ـــ مارس 1990