الاغتيال السياسي وذاكرة سليمان الحلبي

سامح عسكر في الإثنين ٣٠ - سبتمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

في فتوى شهيرة للشيخ صفوت حجازي قال فيها أن قتل بشار الأسد فرض عين على كل مسلم، وأن القاتل في الجنة، وقد جاءت هذه الفتوى بعد مشاهد قتل القذافي الشهيرة التي كشفت عن حجم المأساة"الثورية"وكيف بمن يدعون لأنفسهم الثورة أن يكونوا بتلك الوحشية، يقتلون رئيساً وهو أسير.. ليس هذا فقط بل كانت تلك الفتوى عاقبة لفتوى الشيخ القرضاوي الذي أحل فيها دماء الأسد..بما يُوحي أن تلك الفتاوى تخرج الآن من تيار واحد، وأن التيارات الأخرى التي نهجت أسلوب الاغتيال السياسي ربما تكون قد امتنعت أو عقدت مراجعات.

في تقديري أن حادثة قتل البراهمي وشكري بلعيد في تونس تتطابق مع الدعوات لقتل الأسد، فالخلفية واحدة والأسلوب واحد، إنسان يظن في نفسه الإيمان والخير المُطلق وأن عليه أن يقتل فلاناً كي تحظى البشرية بالنعيم، والمثير أنه ما من حادثة اغتيال سياسي إلا ورافقتها حوادث مشابهة تعكس الانتقام، أو قلاقل سياسية تُعطي القيادة لجهة جديدة، وأشهر حوادث الاغتيال السياسي التي أنتجت لنا ما يُشبه الانتصار هي حادثة قتل سليمان الحلبي للجنرال كليبر القائد المنوب لنابليون، واعتقد البعض حينها –وإلى الآن-أن قتل القائد الفرنسي هو السبب في رحيل الحملة الفرنسية عن مصر.

فلو كان ذلك حقا ما كانت ستُعقد المحاكمات للحلبي ورفاقه بأريحية، أو أن يُعدموا في مصر دون انتفاضة شعبية، بل انتقلت القيادة للجنرال مينو كانتقال السلطة من القديم إلى الجديد، أي أنه لو فَرضنا خسارة كليبر في الانتخابات فما الفارق بينه وبين قتله؟..وهل اغتيال القادة العسكريين يهزم الجيوش؟..وما هي أحوال دولة فرنسا التي أجبرت نابليون على سحب حملته العسكرية بعد الاغتيال بعام؟..أسئلة مهمة يجب إجابتها قبل الادعاء بأن قتل كليبر هو ما تسبب في هزيمة فرنسا وانسحابها من مصر، خاصةً وأن التاريخ يُثبت أن اغتيال القادة العسكريين قليلاً ما يُحدث تأثير في جانبي القوة والأداء القتاليين.

هناك فارق مسجل بين القيادة الشعبية الملهِمة وبين القيادة العسكرية المجهولة، وربما كان ذلك في صالح من يدعو لقتل بشار بوصفه قائداً شعبياً وسياسياً بل وعسكرياً قوياً، بيد أنه وبعد قتل وزير الدفاع السوري ومعاونيه لم يتأثر أداء الجيش السوري الحكومي، بل وفي تقديري أن قوته قد تطورت وتحسن أداؤه القتالي بشكلٍ كبير، ورأينا ذلك في معارك حمص والقصير واللاذقية الأخيرة، وظهر أن الهدف الأول للمعارضة الدينية هو اغتيال بشار لإنهاء الحرب دون مزيد من الضحايا كما يظنون، فلو كان كذلك فلماذا دعا البعض منهم لاغتيال حتى مشايخ الدين الموالين للسُلطة؟!

أظن أن رغبة الاغتيال السياسي -أياً كانت دوافعها ومبرراتها- هي جريمة تضر أكثر مما تنفع، وهي تخلق دوافع الثبات والتماسك لدى الخصوم، فالقوة العسكرية تأتي من القوة المعنوية بالأساس، ولا قوة معنوية دون وجدان جماعي يرى العدو بأوضح صورة، ودليلي في ذلك هي حادثة قتل كليبر نفسه، فبعد قتل الجنرال لم تكن سلطة نابليون في فرنسا ضعيفة بل كانت قوية وتتمدد على حساب الخصوم..وينقل وول ديورانت في قصة الحضارة كيف لنابليون أن يغلق 60 صحيفة من بين ثلاث وسبعين كانت تُصدر في فرنسا في هذا الوقت، وأن سطوة نابليون امتدت لتحجيم أي أعمال فكرية أو درامية معارضة، مما يعني تماسك قوته الأمنية في مواجهة الخصوم.

فلو كان الجيش الفرنسي ضعيفاً لتفكك بعد قتل كليبر وتلك المعركة التي كان يُديرها نابليون من باريس بعد رحيله من القاهرة، وغاية ما حدث أن نابليون أراد استثمار جيشه وقوته الأمنية في الداخل المتمرد، وأن ما يحدث في القاهرة سهل السيطرة عليه ولكن لو تبقى الأمور في فرنسا على ما يُرام.

لكن لو عقدنا مقاربة قصيرة بين قتل كليبر وقتل الرئيس المصري أنور السادات سنرى أن دوافع القاتلين واحدة، وأن الحلبي كان يرى كليبر مستعمراً قاتلاً وكافراً بالضبط كما رأى الإسلامبولي السادات،ونحن هنا نُحسن الظن بدوافع الحلبي التي يرى البعض دوافعاً أخرى تمثلت في ابتزازه من أجل تسديد ديون أبيه..كذلك فهي نفس الصورة التي رآها من قتلوا بلعيد والبراهمي في تونس مع متغيرات بسيطة، ولكن الجميع يتفق على أن أسلوب الاغتيال السياسي هو قرين الصراع على السلطة بالأساس، وربما كانت بعض النزعات الطائفية أو العِرقية هي الدافع الآخر للاغتيال، ويتفق الجميع أيضاً أن الاغتيال يأتي في العادة بعد فشل الحوار السياسي أو رفضه من أحد الأطراف، مما يعني شيوع العدوان والنزعات الانتقامية بدلاً من السلام ولُغة العقل.

على جانبٍ آخر يرى الباحث عصام عبدالفتاح في كتابه.."أهم وأخطر وأشهر الاغتيالات السياسية في التاريخ"..أن الاغتيال السياسي هو تجسيد لحالة الخواء الفكري والسياسي لمرتكبي هذه الجرائم، وأنهم لا يمتلكون أي أدوات مقنعة تحقق أهدافهم فيسعون إلى إزالة الآخر وتصفيته جسدياً، وأن القاتل يعاني من شخصية مضطربة عقلياً ونفسياً واجتماعياً وأخلاقيا.. لكن بهذه الرؤية يضعنا عبدالفتاح أمام مفارقة اغتيال الحلبي لكليبر، وهل يمكن تصنيفها تحت هذا الباب أم أن مقاومة المستعمِر لا تدخل في هذا التحليل السيكولوجي السابق؟..ومن هو المستعمر وما هو الاستعمار؟..بل من هو الكافر أو المجرم الذي يستحق الاغتيال؟

في ظني أنها إشكالية فكرية وأزمة معلومات بالأساس، فالمعلومة تزرع في النفس الشكوك، وأن ما يدفع القاتل لارتكاب جريمته هو يقينه بأن الآخر شرُ مطلق لا خير فيه، فلو توفرت لديه المعلومة التي تنجح في مناقشة هذا اليقين فسيشك القاتل في نفسه ليس فقط في ما يفعله، وهذا لن يحدث إلا بعد أن يفهم القاتل منظومة الوجود بالأساس، وكيف أن الإنسان وبمجرد عضويته في تلك المنظومة فهو يخضع لقوانينها الثابتة، وأول هذه القوانين أن الإنسان متعدد على الأرض، وأنه وبتعدده يرى صوراً مختلفة عن الآخر، فلا يُمكن –حينها-اختزال هذه المنظومة الوجودية في صورة الذهن عن الآخر.

بمعنى أن القاتل لابد وأن يُعطي الفرصة للضحية كمبدأ اعتبار بصورة الآخر الذهنية، وفي تقديري أن هذا لا يحدث، لأن الاغتيال السياسي –خاصةً في المنطقة العربية-يأتي بعد تراكبات وعمليات شحن نفسية تؤدي إلى التهور، وليس للاغتيال عند العرب ثقافة خاصة تُخرجه من سياق التهور إلى سياق البرامج، لأن وجود البرنامج يعني أن الاغتيال سيكون عبر طريق العدالة ، وقد حدث وأن حُوكم بعض الرؤساء والزعماء وتم إعدامهم، فجرى العُرف أن المعارضة تعتبره اغتيالاً وأن السلطة تعتبره قصاصا، والمقصود بإعطاء الفرصة ليس لتسويغ جريمة الاغتيال بل محاكمة القاتل لمبادئه، فلو نظر في نفسه أو شك في قدراته أو في براءة الضحية سيُعطي الفرصة مرة واثنين وثلاثة، وهذه في العموم علامة من علامات العقل والرحمة في القلوب.

أخيراً فالاغتيال ليس عملاً وفِكراً جماعيا، حتى أن الجماعات التي تضع الاغتيال السياسي في برامجها لا تقوم به ولا تعلمه سوى مجموعات صغيرة مُكلفة بتلك المهام، وبعضهم ربما لا يعلم بطبيعة المسألة إلا في حينه، فالاغتيال هو عمل فردي قيادي مزدوج، ولو لم يُرِد القادة الاغتيال فسيحاربونه، وهذا يعني أن جل الخطاب الديني في أواخر زمن السادات قد استمع لدعاوى القتل ولم يواجهها، ثم حدث وأن دخلت مصر في دوامة من العنف تحملت أوزارها تلك الجماعات التي رفعت هذا الخطاب ولم تنتبه لطبيعته.

اجمالي القراءات 9591