يجتمع فى الصراع السورى التاريخ والجغرافيا والمستقبل أيضا، فكأن كل الصراعات التاريخية الدينية والمذهبية والعرقية فى المنطقة التى حدثت على مدى قرون تم بعثها حية مرة أخرى فى هذا الصراع،أما الجغرافيا والجغرافيا السياسية فهى حاضرة بقوة فى هذا الصراع المتداخل،أما المستقبل فقد بدأ يتحدد جزء من شكله بناء على التحالفات الجديدة التى ظهرت بعد ما يسمى بالربيع العربى ،وخاصة بعد تعقد الصراع السورى وسقوط الاخوان فى مصر.إن هذه المحاور هى جزء من طبيعة الصراع الدائرعلى شكل الشرق الأوسط القادم والذى يعاد تشكيله فى اللحظة الراهنة. ويجرى الصراع حاليا على شرق أوسط إسلامى اخوانى، وشرق أوسط تقليدى محافظ راكد ومستبد، وشكل أوسط مقسم على أساس الهوية الدينية والمذهبية والعرقية يسوده الاقتتال الاهلى وعدم الاستقرار،أما من يحلمون بشرق أوسط ديموقراطى حر فأقول لهم أن هذا الحلم بعيد المنال فى ظل تصدر الدين كعامل للصراع وسيطرة الايدولوجية الإسلامية على عقول معظم قاطنيه. ولنبدأ بشكل هذه المحاور كما تداولتها الدراسات الحديثة ثم نتحرك لتحليل هذا التغير الجديد والعميق فى مجريات الشرق الأوسط.
المحور الأول هو المحور الشيعى،وهذا المحور تشكل بعد سقوط صدام وظهور هلال شيعى قوى يضم العراق وسوريا وحزب الله،كما أن كل الأقليات الشيعية فى العالم يؤيدون ويساندون هذا المحور، وقد حاولت إيران ضم بعض الجيوب السنية المتطرفة مثل حماس والجهاد الإسلامى لكى تبعد المذهبية عن هذا المحور، واخترعت له أسم محور الممانعة والمقاومة، ولكن لم تنجح حتى فى احتواء هذه الجيوب السنية، ولم تستطع اخفاء مذهبية المحور.
المحور الثانى هو محور اخوانى بقيادة أوردوغان،ويشمل تركيا الاوردوغانية وقطر والنهضة التونسية واخوان ليبيا ومصر واليمن والجيوب الاخوانية حول العالم وكذلك التنظيم العالمى للاخوان المسلمين، وقد نجح أوردوغان بضم كردستان جزئيا إلى هذا المحور عبر تفاهمات مع البرزانى بتأييد محاولاته لضم كركوك العراقية الغنية بالنفط والتى يسكنها بعض التركمان فى مقابل التبريد الكامل لقضية اكراد تركيا، وهذا المحور تعطل تقدمه فى سوريا واصيب بضربة قوية بعد سقوط الاخوان فى مصر.
المحور الثالث بقيادة السعودية ويضم دول الخليج ،ما عدا قطر ،وكذلك الاردن وبعض الانظمة المحافظة الأخرى، وتحاول السعودية جذب مصر بعد 30 يونيه إلى هذا المحور.
والمتأمل لهذه المحاور الجديدة يجد عدة تحولات وتغيرات كبيرة فى مسار التحالفات والعلاقات السياسية الأقليمية والدولية.
الملاحظة الأولى أن محاولات السعودية لتوحيد السنة فى مواجهة تمدد الهيمنة الإيرانية الشيعية فى المنطقة اضعفها رغبة الاخوان فى قيادة العالم السنى،ولهذا يعتبر الاخوان قد قاموا بتقسيم السنة فى الشرق الأوسط فى مواجهة التوحد الشيعى خلف إيران.
الملاحظة الثانية : رغم الصفة المذهبية للمحاور فأن مسلمى أسيا، ويمثلون الكتلة الكبرى من مسلمى العالم ومعظمهم سنة، مازالوا بعيدين عن هذا الاستقطاب.
الملاحظة الثالثة أن أمريكا فى عهد أوباما مالت أكثر للتحالف مع المحور الاخوانى بقيادة أوردوغان على حساب فتور علاقتها الممتدة مع المحور المحافظ بقيادة السعودية.
الملاحظة الرابعة أن كل محور سعى لتقوية نفسه بتحالفات مع القوى الكبرى فى العالم،ففى حين اتجه المحور السنى الاخوانى إلى أمريكا واوروبا الغربية فأن المحور الشيعى اتجه إلى روسيا والصين، حتى أن هناك نكتة تتردد حول هذا الموضوع تقول أن السنة فى الشرق الأوسط لهم أمريكا والشيعة لهم روسيا أما الملحدون فلهم الله.
الملاحظة الخامسة أن العامل المذهبى ظهر بشدة فى سياسة المحاور والحروب الجديدة،ففى عام 1965 عندما كتب رئيس الجامعة الأمريكية فى بيروت كتابه الشهير (الحرب الباردة العربية) كان الصراع وقتها بين جبهة قومية بزعامة عبد الناصر وجبهة محافظة بزعامة السعودية،وكل طرف كان جزءا من لعبة دولية اكبر وهى الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتى. اليوم الموقف مختلف فقد كانت إيران الشيعية بزعامة الشاه وتركيا الكمالية بقيادة الجيش كلاهما مع الولايات المتحدة،الآن كلا منهما يقود مجموعة تسعى للهيمنة. وقتها كان الاخوان المسلمين فى حضن السعودية والآن يعادون بعضهم البعض. وقتها كانت مصر الناصرية ضد السعودية والآن هم فى خندق واحد.
الملاحظة السادسة:لأول مرة فى تاريخ الإسلام يظهر لشيعة على بن ابى طالب قدرا واضحا من القوة والتماسك لإحداث توازن قوى مع سنة المنطقة، فالشيعة طوال تاريخهم مضطهدين من الأغلبية السنية، وقد دمر صلاح الدين خلافتهم الفاطمية فى القاهرة ولم يظهر لهم صوت إلا مع تأسيس الدولة الصفوية الإيرانية،أما مع الهلال الشيعى الحالى فقد برزوا كقوة قادرة على التعامل مع تحديات إضطهاد الشيعة ومجابهتها، وهذا اغضب السنة المتشددين بزعامة السعودية.
الملاحظة السابعة أن الثلاثى القوى الذى يحكم السعودية فعليا وهم وزير الداخلية محمد بن نايف ووزير الحرس الوطنى متعب بن عبد الله ورئيس المخابرات بندر بن سلطان قد اتفقوا جميعا على اعتبار إيران والاخوان هم اعداء السعودية حاليا ،وهم من يمثلون خطرا على أمنها القومى وأمن الخليج العربى.
الملاحظة الثامنة أن تعافى مصر أو نكستها سيشكل عاملا حاسما فى تفوق أو تراجع المحور السعودى وفى توازن القوى بين المحاور،فبالرغم من أن المحور السعودى قد انتصر فى الحرب العربية الباردة القديمة فأن هذا لن يحدث ثانية بدون تعافى الوضع فى مصر وانطلاقها للامام، ولهذا تتجسد سياسة التنظيم العالمى للاخوان المسلمين حاليا فى بذل كل مجهود من آجل افشال نظام ما بعد 30 يونيه، وسوف يتفننون فى كل الطرق التى تؤدى إلى هذا الافشال، وعلى المسئولين فى مصر أن يعوا أن هذا الهدف الاخوانى لا يقل خطرا عن خطر إرهابهم. فنكسة مصرية أخرى لا قدر الله ستكون عواقبها وخيمة على الاستقرار والسلام الاجتماعى والوضع الأقليمى وأمن الخليج.
الملاحظة التاسعة : كما أن الاخوان قد قسموا العالم السنى فأن قطر قسمت منطقة الخليج وبات دورها شاذا ومنفرا وغير مفهوم وغير مقبول، ورغم تراجع الدور القطرى عموما فى الشهور الأخيرة إلا أن قناة الجزيرة مازالت تمثل بوقا تخريبيا لمساندة المحور الاخوانى على حساب قيم المهنة واخلاقياتها ،وعلى حساب الأمن القومى لمصر ودول الخليج.
واخيرا فأن الصراع بين هذه المحاور وحلفائهم الدوليين سيحدد شكل الشرق الأوسط القادم،وسوريا فى القلب من هذا الصراع ولهذا يحاول كل محور تحقيق نصرا فيها.ولكن وجب التأكيد على أن سيناريو الديموقراطية غير مطروح اصلا فى الصراع الدائر حاليا فى الشرق الأوسط ، وفى هذا الوضع المضطرب يكون الحفاظ على الدولة من الأنهيار وعلى تماسك جيشها وعلى وحدتها الوطنية أهم اهداف الأمن القومى.