لعل أهم وأكبر الأحجار التي تقف عثرة في طريق تقدم شعوبنا وتقبلها لحضارة العصر هو مفهومنا للهوية أو "الخصوصية"، ذلك المفهوم الذي ننفرد به عن سائر الشعوب التي تعتز بخصوصياتها، دون أن يضعها ذلك الاعتزاز في موقف الرفض والعداء للتطور وللاندماج في تيار الحضارة العالمية سريع السريان، ومن الطريف أن خصوصيتنا الثمينة الفريدة هذه تمنعنا من قبول الثقافة الغربية، لكنها لا تمنعنا من استهلاك منتجاتها بشراهة، كما لا تمنعنا أيضاً من الوقوف في طوابير أمام سفارات الدول الغربية الصليبية المنحلة أخلاقياً، لتسول تأشيرة دخول للزيارة أو الهجرة، ناهيك عن هرولة أساطين شيوخ التكفير والعداء والكراهية إلى تلك البلاد للسياحة والاستجمام والعلاج!!. . هكذا مازلنا سياسياً واقتصادياً واجتماعياً نحتاج لإعادة إطلاق صيحة "طه حسين" قبل أكثر من نصف قرن "إلى الشمال والغرب انظروا"، حيث تجدون الحضارة والإنسانية والحرية.
عداء الإخوان المسلمين لدولة الإمارات العربية المتحدة على سبيل المثال أمر طبيعي، فالإمارات تسير منذ زمن في الاتجاه المعاكس تماماً لأيديولوجيا كل من الإخوان المسلمين واليسار المأفون، فلقد انفتحوا على العالم، وتحولت دبي لمركز عالمي للتجارة والمال، وهم يوغلون بالتنمية البشرية في الدخول إلى العصر وحضارته، مقابل نجاح قوى الانغلاق بكافة صنوفها في ضرب النموذج اللبناني للحداثة والديموقراطية والانفتاح على العالم وحضارته، مرة بواسطة العصابات الفلسطينية التي استوطنت لبنان، وأخرى بواسطة "حزب الله" الذي حقق نجاحاً كبيراً حتى الآن في تحويل نموذج الدولة اللبنانية إلى شراذم متنافرة، بينما يتعشم الإخوان واليسارجية السقوط بمصر والمنطقة كلها في هاوية الماضي البعيد أو القريب. . هل يأتي يوم فيه "ننفض" من رؤوسنا هلاوس الخصوصية بمفهومها المتكلس المعاند لحركة التاريخ ولسُنَّة التطور الكوني، ونتجه مباشرة لتحقيق حياة أفضل لنا ولأولادنا وأحفادنا؟
تنفرد الولايات المتحدة الأمريكية بأنها ليست وطناً قومياً لعرق جنسي محدد، فهي في الحقيقة "أمم متحدة" من مختلف الهويات والخصوصيات، نجحت بقيادة الرواد الأوربيين الأوائل في التطور ليصيروا أمة متجانسة الأداء رغم تنوعها العرقي والثقافي، ودون أن تسلب هويات وخصوصيات مكوناتها، لكن دون أن تعوقهم تلك الخصوصيات عن الانصهار في الروح الأمريكية، أو تمنعهم من اعتناق "الحلم الأمريكي" وتبني ذات "نمط الحياة الأمريكي"، واستطاعوا بفضل قدراتهم العقلية الابتكارية وروحهم الشجاعة الطموحة المغامرة توظيف الثروات الطبيعية الهائلة بالقارة الأمريكية، لكي يصيروا أعظم أمة على سطح الكرة الأرضية، ويصبحوا قاطرة للحضارة الإنسانية، نقول هذا بكل ما لهذه الحضارة وما عليها، وفي مقابل هذا النموذج الإنساني الرائع للنجاح، تتجسد أمامنا قصة فشل أمة من أعرق الأمم حضارة في الالتحاق بالعصر الحديث.
فقد بدأ خط الصعود للدولة المصرية بصيغتها الحداثية ومعها المناطق الحضرية من مصر مع بداية القرن التاسع عشر على يد المغامر الألباني "محمد علي باشا" وأسرته، كان ذلك بمبادرة شخصية من الحاكم (الأجنبي) بدافع من طموحه الشخصي، وبمعزل عن حقائق وملامح الواقع المصري من حوله، وظل منحنى التحضر المصري في حالة صعود بطيء ومتعثر نسبياً، حتى بدأ في الهبوط منذ بداية الخمسينات من القرن العشرين مع انقلاب يوليو 1952، ولم يكد يبدأ في صعود نسبي في عصري السادات ومبارك، حتى انكفأ ثانية متجهاً نحو هاوية لا نعلم بالتحديد مداها، وما يبدو ظاهرياً على الأقل أن مرحلة الصعود تلك كانت قد فُرضت على الشعب المصري بطريقة تعسفية، فمالبث أن ظهر تيار "حسن البنا" معبراً عن عما يرهص به المصريون من تشبث بمواقعهم ومواقفهم من تيار الحضارة الغربية الذي يطرق أبوابهم ويكاد يقتحم عليهم كهوفهم، فانتشرت دعوته "انتشار النار في الهشيم" كما يقولون، مقابل ضياع أصوات التنوير التي ظهرت في مصر بعد الحرب العالمية الأولى سدى في الصحراء المصرية، حيث كان رموزها أصواتاً فردية غريبة بثقافتها الغربية، ومنقطعة الصلة بأي إرهاصات فكرية قد تتواجد في التربة المصرية، ونغامر بالقول أن "حسن البنا" ربما كان هو الرد المصري الأصيل على مشروع "محمد علي باشا" الحداثي التعسفي، وإن صحت هذه الرؤية فإن المصير الذي سنؤول إليه هو "الاستقرار" أو "الفناء" في قاع المدنية والحضارة الإنسانية. . فهل نرى من الشعب المصري اليوم وغداً ما يطيح بهذه الرؤية المظلمة، أم سيثبت أنها الصواب؟!!
ربما يكون من قبيل المبالغة في تبرئة الذات المصرية أن نذهب بالأمر بعيداً في التاريخ، إلى نصف قرن قبل الميلاد، حين غزا قمبيز الفارسي مصر، منهياً حكم الأسر المصرية الفرعونية صاحبة الحضارة التي تذهل العالم حتى الآن، فمن بعدها سقط الإنسان المصري في هاوية تصور الذات كرعية مغلوبة على أمرها، تساق إلى حيث يدفعها سوط الحاكم الجلاد، فتصحرت حضارتها وروحها وعقلها، والعقلية الصحراوية تختلف اختلافاً جذرياً عن العقلية الزراعية المستقرة والمنتجة، فهي لا تعترف بالجغرافيا، كما أنها لا تدرك معنى للتاريخ، إذ تتمحور حول ثروتها المنقولة من قطعان الغنم والإبل، تجوب بها بحثاً عن الكلأ والماء، وهي تدور هكذا في حلقة مفرغة أبدية لا تعرف التطور، ومن ثم لا تستشعر وقع الزمن، وتظل في المساحات الخالية بين مراكز المدنية الحضرية، حتى تجد فرصة لتمارس الإغارة والنهب مضاعفة لثرواتها. . هي عقلية مفارقة لا تعرف الاندماج والمشاركة، وإنما فقط المغالبة والأخذ دونما استعداد لعطاء، وهذا ما نشهده من سلوك لأصحاب تلك العقلية عندما يهاجرون إلى مراكز الحضارة في الغرب، والذي نشهده منهم إذا ما تمكنت قبيلة منهم من السيطرة على مقدرات أمة متحضرة صانعة حضارة كالأمة المصرية، هم ينصرفون إلى التهامها كما تلتهم قطعانهم الكلأ في المراعي التي يهبطون عليها، فتحيلها إلى صحراء جرداء، لينتقلوا منها بعد ذلك إلى مراع جديدة لتلقى على أيديهم ذات المصير.
قلنا في الماضي حتى مللنا من التكرار، أن الكراهية والعداء الذي نستزرعه في بلادنا للعالم ولما يسمى العدو الصهيوني الإمبريالي، لابد متى ترسخ في العقول والقلوب أن يستشري كما النيران في حياتنا، فيلون مزاجنا وميولنا، لنستدير على بعضنا البعض مشبعين بروح الكراهية والتوجس وفكر المؤامرة الذي ملك علينا جوارحنا، وها هو كل ما حذرنا منه يتحقق، وشعوب ما يسمى "أمة عربية" تأكل وتطحن وتقتل نفسها بنفسها، فمن كان يتصور أن الشعب العراقي فور تحرره من طغيان صدام حسين سوف يتفرغ لقتل بعضه بعضاً بكل تلك الوحشية وذلك الإصرار والاستدامة، ومن كان يتصور أن الشعب السوري عريق الحضارة والمدنية سوف يستدير ليطحن بعضه بعضاً كما يحدث الآن؟!!
الكراهية وممارسة العنف أو الحض عليه تشير لحالة خصام داخلي للإنسان مع ذاته، فهو يضيق بشهواته وأهوائه التي تحاصره ولا يجد لها إشباعاً أو متنفساً، فيتجه تخفيفاً للتوترات التي تعتمل بداخله إلى تحويل نقمته على الذات إلى نقمة واستهداف للآخر. . في الحلقة الأخيرة من برنامج المواهب الغنائية "أراب أيدل" التليفزيوني وكان الفائز باللقب فلسطيني، قيلت كلمات كثيرة جميلة وطنية وقومية، وقيل كلاماً عن التوحد وعن سفير لنوايا حسنة، لكن كلمة "السلام" لم تأت على أي لسان. . "ويل لكارهي السلام، فإنهم أبناء الشيطان يدعون"!!. . هل لنا الآن من أمل في الشفاء، أم توطنت الكراهية ولن تبارح حتى تتحول المنطقة من الخليج إلى المحيط إلى صحارى قاحلة عامرة بشواهد القبور؟!!
أ المصدر ايلاف