من ميناء كوبنهاجن في يناير1761 خرجت بعثة علمية في رحلة إلي اليمن بناء علي دعوة المستشرق الألماني ميشائيلس .. بهدف تصحيح معلومات الغرب عن الشرق بطرق علمية كشفية تتيح شرح عبارات الكتاب المقدس بطريقة واقعية مستمدة من المسرح الجغرافي للمناطق العربية .. وكان كارستن نيبور أبرز أعضاء البعثة...
وسجل نيبور رحلة في ثلاثة مجلدات ضخمة باللغة الألمانية، وقد ترجم الدكتور مصطفى ماهر الجزء الأول من الرحلة والخاص بمصر في كتاب "كارستن نيبور : رحلة إلي مصر 1761ــ1762".ووعد بترجمة ا&aa;لأجزاء الباقية ونشرها .
والكتاب يعتبر تحفة نادرة من الناحية التاريخية، إذ عرض فيه لمشاهداته وملاحظاته الواقعية عن أحوال مصر السياسية والاقتصادية في العام الذي أقامه فيها ، كما قام برسم أول خريطة دقيقة للدلتا ، ونسخ عددا كبيرا من النقوش الهيروغليفية ، وحوي كتابة رسما لكثير من الأدوات والمناظر والوجوه المصرية ؛ رسمها الرسام الخاص بالبعثة .
ولم يخل أسلوب نيبور من الدقة العلمية والنزاهة والحيدة العلمية مع الطرائف والنوادر التي حكاها بصدق وواقعية ...
علي أن نيبور التزم في منهاجه في كتابة رحلته بمنهج كتاب الرحلات من الحرص علي تدوين المشاهدات وتسجيل أخبار الرحلة وتفصيلاتها ومسالكها وطرقها ومسافاتها ووصف المدن والشوارع والصعوبات التي تواجه الرحالة ومظاهر الحضارة والعمران ، وان فاق نيبور غيره في استخدام أدواته العلمية كالبوصلة والمنظار المقرب والمزاول وغيرها مما كان يعتمد علية في قياس المسافات وتحديد المواقع ، مع حرصه علي توضيح جهد رفاقه ودورهم فيما تخصصوا فيه من مهام البعثة ..
ويبقى بعد ذلك أن ننوه باهم ما امتاز به نيبور وهو حيدته العليمة في نظرته للمسلمين ، وهو المسيحي المخلص المبعوث من لدن مفسري الكتاب المقدس في رحلة دينية مسيحية ، فقد كان أقرب للعدل في أحكامه ، يعترف بما يجده تقدما فى مصر عن مثيله فى اوربا ؛ فقد أشاد مثلا بانتشار صناعة تفريخ الفراريج فى مصر واعترف بأنها لم توجد فى أوربا ، ودعا لنقلها إلى هناك ، ثم ينبه على ما يراه خطأ كالتفرقة فى التعامل بين المسلمين وغير المسلمين ، وما يلمسه من اوجه التخلف فى مصر كانعدام الصحف والجهل بالآلات المكتشفة فى أوربا والتى يحملها معه فى رحلته..
وعموما فكتب الرحلات تحفل دائما بالشيق والجديد فى وصف المجتمعات، الأمر الذى يجعلها فى مقدمة المصادر التاريخية ، بما للرحالة من نظرة خاصة باعتباره غريبا يسجل ما يراه وما يعجبه وما يدهشه ، مما قد لا يثير انتباه مؤرخى البلد نفسه ، وقد اعتادوا على رؤيته وعاشوا على أنه أمر عادى لا يستحق التسجيل . وكلما تباعدت الأواصر بين موطن الرحالة الذى عاش فيه والبلد الذى يزوره ويكتب عنه كلما كانت كتاباته أروع ، إذ أنه يحمل معه ثقافته وموطنه أينما سار ، ولا ينسى ان يقارن ــ بوعى أو بلا وعى ــ بين ما يراه فى رحلاته وما عاش عليه فى موطنه , وكلما كان الفارق بين الإثنين بعيدا كانت ملاحظاته ومشاهداته أجمل وأغزر ..
وينطبق هذا على نيبور الآتى من أقصى شمال ألمانيا مسيحيا متديـِّنـَا إلى العالم الإسلامى فى وقت قامت فيه السدود والحروب بين العالمين الإسلامى والمسيحى وخلفت جبالا من الشكوك وعدم الثقة بين الطرفين .. فالتناقض والتباعد بين موطن نيبور ونشأته وبين ما رآه فى رحلته أفاده كثيرا فيما سجله من دقائق الحياة المصرية الذى اغفله المؤرخون المعاصرون ولولا نيبور وأمثاله لظل عنا غيبا مستورا ...
وهذا بالإضافة إلى حيدة نيبور وثقافته واستعداده العلمى المسبق ــ مما يجعل لرحلته مكانتها الخاصة التأريخ لمنطقة الشرق الإسلامى فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر ..
لقد كانت رحلة نيبور بعثة دينية , وكان نيبور مسيحيا ورعا , وزار فى رحلته مجتمعات (دينية) أى يسيطر عليها الشعور الدينى الذى يقترب من التعصب , تماما كما هو الحال فى أوربا , وعلى هذا فبحث الحياة الدينية فى العصور الوسطى من خلال آراء نيبور ومشاهداته يعد جانبا مثيرا للإهتمام , بل ربما يكون أكثر ما يستحق البحث فى هذه الرحلة ..
ويظهر بين ثنايا السطور توتر العلاقة بين المسلمين والأوربيين الأجانب كأثر من آثار الحروب الصليبية خصوصا فى مدينة دمياط التى شهدت خلال العصر الأيوبى مقدم حملتين صليبيتين , وبرغم مرور نحو خمسة قرون على حملة لويس التاسع التى رست فى دمياط واندحرت فى المنصورة فإن أهالى دمياط لا يزالون يحتفظون بحقد تاريخى ضد الأوربيين (الفرنجة) لـَمـَسَهُ نيبور حين دخل المدينة واحتك بأهلها , فروى أنه ليس فيها تاجر أوربى واحد رغم كونها ميناء تجاريا هاما , وأن أهل دمياط قتلوا الأوربيين المقيمين بها فمنع ملك فرنسا رعاياه من الإقامة بها حتى البحارة أنفسهم , وكان الأوربيون يوكلون عنهم فى المدينة من يقوم بالأعمال التجارية , ولم يلق نيبور عنتا فى المدينة التى تتفنن فى إيذاء الأوربيين لأنه كان يرتدى الملابس التركية ويتحدث مع الأهالى بالعربية (1)..
واختلف الحال فى الاسكندرية ورشيد (2)بسبب الرواج الإقتصادى فى المدينتين واعتماد اهلها على التبادل التجارى مع الأروبيين وكون المدينتين الساحليتين لم تتعرضا للحروب الصليبية كدمياط ..
وذكر نيبور الإهانات التى كان يلقاها الأوربيون فى القاهرة فى العصر العثمانى، إذ لم يسمح لهم ــ هم والمسيحيون واليهود ــ إلا بركوب الحمير دون الخيل , وأن عليهم أن ينزلوا من فوق الدابة إذا أقبل عليهم أحد الكبار الذين يتقدمون فى الشوارع راكبين للخيل ويتقدمهم خدم يجبرون الأوربيين وأهل الذمة على النزول من على الدواب ، وإلا فالضرب والإيذاء ، وهذا ما تعرض له الدكتور كرامر طبيب الرحلة . كما يمنع أحدهم من المرور ـ ولو سيرا على الأقدام ـ أمام مسجد السيدة زينب ومساجد أخرى فى القرافة , وأظهر نيبور ضيقه بهذا الوضع فامتنع عن الركوب وآثر السير على الأقدام (3)..
ويشير نيبور إلى أن الأوربيين فى أوطانهم يعاملون اليهود نفس المعاملة التى يذيقها المسلمون للأروبيين و(الذميين ), فيحكى أنه أثناء رحلته فى سيناء أقبل عليهم شاب أعرابى مخمور واخذ فى التعرض لهم , يقول ( فلما سمع أننا أوربيون ومسيحيون ابتلى صبرنا وتهكم علينا كما يتهكم الأوربى الأرعن عندما يكون مخمورا على واحد من اليهود ) (4)ــ ويبدو حياد نيبور وتعقله فهو يصف الأوربى الذى يأتى نفس الفعل بأنه (أرعن) ويثبت أن الأوربيين يفعلون نفس الشىء الذى ينكره على المسلمين ..
وتكرر نفس الوضع على السفينة التى أقلتهم مع مسلمين من السويس إلى جدة , وكان فوق السفينة كثير من الحجاج المسلمين ( الذين كانوا ينظرون إلى المسيحين نظرة التحفز والغضب التى ينظر بها الرهبان الفرنسيسكان المتعصبون إلى من يعتبرونهم كفارا ملحدين وهم مسافرون للحج إلى القدس ) أى أنه يثبت أن تعصب المسلمين الحجاج المسافرين إلى جدة ونظرتهم الحانقة للمسيحين على السفينة تشبه نظرة الرهبان الفرنسيسكان الحجاج إلى بيت المقدس حين يشاركهم فى السفينة أحد من غير ملتهم , ثم يقول نيبور بعدها ( ولما لاحظ المسلمون خوفنا ، ظهر من بينهم من وجدوا متعة فى الاستهزاء بنا , يدفعهم إلى ذلك ما يدفع عامة المسيحين كثيرا للإستهزاء باليهود , عن علم بأن اليهودى لا يجوز له ان يرد, وأن عقلاء المسيحين لا يتدخلون لحماية اليهودى طالما لزم العامة حدود التمتع بالضحك عنه ولم يتجاوزوا ذلك إلى ما هو أشد خطرا ) (5).
والواقع ان التعصب الدينى كان سمة الحياة الدينية فى العصور الوسطى فى المجتمعات المسيحية والإسلامية على حد سواء , وكانت الحروب الصليبية أكثر ما يعبر عن هذا التعصب , ومع مرور زمن طويل على انتهاء تلك الحروب فان اثارها لا تزال موجودة حتى العصر العثمانى ، وكان شاهدا عليها نيبور فى رحلته ، حتى كان من الظواهر المألوفة فى أوربا وبلاد المسلمين أن يتخذ بعض المتسولين من الشعور الدينى المتعصب طريقا لاستعطاف العامة , يقول نيبور حاكيا عما شهده فى بلاده وفى مصر ( وإذا كان العوام من الأوربيين يسمعون من البحارة ومن غيرهم من السابلة الذين يكونون قد قضو بضعة أعوام أسرى فى بلاد البربر تصويرا مفرطا فى القبح لمسلك المسلمين مع المسيحين عامة , فهناك فى مصر أيضا أناس يحكون عن الأوربيين وفظاعتهم مالا يقل عن ذلك , ولست أريد أن أذكر إلا على نحو عابر أننى شاهدت عدة مرات رجلا اعتاد أن يجلس فى الطريق العام ويعرض أغلاله الغليظة التى كان يرسى فيها فى مالطه , ويحكى لمواطنيه بصوت مؤثر على هيئة الإنشاء عما تعرض له فى أثناء الأسْـر هناك .. وكان العقلاء من المسلمين ينظرون إلى هذا المتسول كارهين ، أمـَّا العامة فكان كثيرون منهم يحيطون به ويتأثرون غاية التأثر ويغدقون عليه النفحات ويصبون اللعنات على الهمج الأوربى فى رأيهم ) (6)
ولم يقتصر الأمر على استغلال التعصب الدينى فى التسول بل استثمره بعض ( القرداتيه ) فى التندر بالأوربيين، إذ كانوا يُلبـِسُونـَها الملابس الأوربية استجلابا لرضى العامة ونقودهم , ويقول نيبور فى حديثة عن حفلات القرداتية التى تقام فى الشوارع ( ولما كانت الثياب الشرقية لا تصلح للقرد لأنه فى أغلب الأحيان يسير على الأربع فانهم كثيرا ما يـُلبـِسُون فى مصرالقرود المدربة على الرقص الملابس الأوربية , ويحفز هذا العوام من المسلمين على مقارنتنا بهذه الحيوانات خاصة عنما يرون رجلا أوربيا حسن الهندام يسير عارى الرأس وقد تدلى سيفه رأسيا على نحو يذكرهم بذيل القرد الذى يبرز من بين الثياب ) (7).
لم يكن كشف الرأس مستحبا بين المسلمين كما كانوا يكرهون الملابس الضيقة , وهذا ما يميز الزى الأوربى , فاذا سار الأوربى بزيه الضيق ورأسه المكشوف وسيفه الذى يتدلى خلف ارديته استحق من العامة ان يقارنوه بالقرود التى يلبسها أصحابها نفس الزى وتتمتع بذيل يعوض السيف الذى يتحلى به الأوربى ..
لقد كان التعصب الدينى العملة السائدة فى دنيا التعامل بين المجتمعات المسيحية والإسلامية , إلا أن النظرة الفاحصة للحياة الدينية فى العصور الوسطى تظهر تشابها بل تطابقا فى المعتقدات الدينية والطقوس الدينية بين المسلمين والمسيحين على الرغم من وجود التناقض الظاهرى بينهما , ونرجو ان يتسع المقال التالى لبحث هذه القضية من خلال ما سجله وشاهده نيبور فى كتابه ( رحلة إلى مصر )
المصادر ــ
رحلة إلى مصر , كارستن نيبور .. ترجمة ـ د. مصطفى طاهر
(1) الرحلة 141, 142
(2) الرحلة 120 , 127
(3) الرحلة 254 , 255
(4) الرحلة 419
(5) الرحلة 430 , 431
(6) الرحلة 335
(7) الرحلة 334 , 335
التعليقات (3) |
[48856] تعليق بواسطة فتحي مرزوق - 2010-07-04 |
كتابات الرحالة تسد النقص عند المؤرخين .
|
كتابات الرحالة تسد النقص عند المؤرخين المحليين إذ أن المؤرخ بحكم التعود على مشهد ما فإنه يرى ذلك طبيعيا ولا يرى أهمية لتسجيله وذلك لأنه يحكم على أهمية الخبر بمقياس عصره .. وبالطبع هو لا يعرف أن سيأتي اليوم أن ذكر هذه التفاصيل التي تعود عليها وسأم منها سيكون لها أهمية .. وهذه الأهمية ربما تفوق ما كان يعتقد بأهميته.
|
[48878] تعليق بواسطة عبدالمجيد سالم - 2010-07-05 |
ميراث الكراهية بين الشرق والغرب من خلال رحلة نيبور
|
الشرق والغرب ونظرة كلا منهما للآخر وضحت بين سطور الرحالة نيبور كما اوضح الدكتور احمد في مقاله البحثي الأول.
|
[48898] تعليق بواسطة نورا الحسيني - 2010-07-06 |
حيادية نيبور العلمية
|
بالرغم من أن نيبور كان مسيحيا وأتى في مهمة علمية لبحث الأماكن التي ذكرت في الكتاب المقدس أي انها مهمة دينية مسيحية إلى أنه كان محايد إلى أبعد درجة حيث ان الدراسة العلمية أساسا لابد أن تكون محايدة ولو سقط شرط الحياد سقط معه ان تكون هذه الدراسة علمية ..
|