أولى المسائل التي ينبغي أن تكون ضمن الحوار هي الدين وأصوله وفروعه، نزولاً لما قلناه بأن الدين هو مكون رئيسي للشخصية القروية، وعند ذكر الأصول يطرأ على الذهن ما يعتقده البعض أصول وليس المتفق عليه بين عموم المسلمين، كمثال من يرى بأن الجهاد أصل من أصول الدين، وهو بذلك يضعه ضمن الفرائض المتفق عليها وهذا غير صحيح، فالحوار القروي ينزع نحو تفسير الدين بأنه دعوة وليس جهاد، إنما الجهاد هو فريضة مؤقتة ومقيدة بأحوال الزمان والمكان، ولم يكن الله ليشرع الجهاد إلا للدفاع عن النفس وليس للاعتداء وسلب حقوق الآخرين، والأخير هو فهم الجماعات الدينية بالعموم نظراً لضرورة إقامة.."الدولة الإسلامية"..بفهمهم، فيُشرّعون الجهاد لإقامتها وليس للدفاع عنها.
هذه جزئية هامة، لأن تعريف.."الدولة الإسلامية"..لدى الجماعات مختلف عما يراه القرويون، ولكن بدعوة تلك الجماعات-وحضورهم الدائم- تتحد الصورة لتلك الدولة المزعومة شيئاً فشيئاً حتى تصير فكرة الجهاد لدى القرويين متطابقة أو متشابهة مع الجماعات، وبذلك تكون المسألة مترابطة لديهم كالتالي:
1-دولة إسلامية لإقامة العدل ونشر الرخاء
2-جهاد ضروري لإقامة تلك الدولة
مبدأياً فالحوار بين أهل القرية لن يُجدي قبل التعرض لمفهوم الدولة ، ثم مفاهيم المجتمع والفرد والسلطة، ثم العلاقة بينهم أو بين كل اثنين على حِدا، فالحوار حول المفهوم الواحد يُدخله في مفاهيم أخرى تنزع عنه الصفة المقدسة والاعتبار بما يجري حوله من شكوك وأفهام، كمثال من يُجري الحوار حول مفهوم.."الدولة الحديثة"..وما تشتمل عليه من مؤسسات متعددة ومستقلة لها أدوار في طريق العدالة بخلاف ما يتصوره الذهن القروي.."بالحاكم الفرد"..أو ما يرونه في صورة.."العمدة"..الآمر الناهي، وهم بذلك لا يتصورون فصلاً بين الصفتين الأمنية والإدارية، فالأولى يمثلها العُمدة، والثانية تُمثلها تلك المؤسسات التي يتعاملون معها يومياً.
لو عَلِمَ القرويون بأن طبيعة علاقتهم بمؤسسات "الحكومة" والخدمات التي تقدمها للمواطن هي في حقيقتها علاقتهم.."بالدولة"..لوقفوا على صورة ذهنية لتلك الدولة مخالِفة عما في أذهان الجماعات، ولاستطاعوا الفصل بين.."الدولة والسلطة"..فصلاً يؤهلهم لفهم الحاجز ما بين الوظيفة الأمنية للدولة وبين وظيفتها الإدارية، وأن الجانب الإداري في الدولة هو الأصل الذي عن طريقة سينتخب المواطن قيادته الأمنية...وهكذا، أي أنهم ليسوا مجبرين على اختيار الأمن، بل هو إرادة حرة لهم إذا شاركوا في الانتخابات واهتموا أكثر بالسياسة..
وهذا يعني أنه وكلما تعددت علاقتهم بتلك المؤسسات كلما كانت الدولة قوية وحاضرة، وبالمنطق العكسي يجوز لمجموعة من الناس أن يعيشوا بلا دولة، وهم المحرومون من تلك الخدمات والتنظيمات الإدارية، وعليه فمفهوم الدولة ستحوم حوله الشكوك إذا مسّ الجانب المقدس لدى الناس، أي أنه لا يصلح أن نقول.."دولة إسلامية"..لأن في ذلك يقينُ بأداء تلك الدولة على النحو الصحيح دائماً، وهذا مُحال أن يحدث، فلا يوجد شئ على الأرض يسير بلا أخطاء، والأصلح أن نقول.."دولة المسلمين"..كتخصيص صفة للأشخاص، لا لتخصيص صفة للدين هي معرضة للزوال، فالدين قائم ودائم أما الصفات فهي متغيرة.
الهدف من الحوار القروي هو صناعة شخصية ريفية مستقلة لا تتأثر بأقرب الجماعات الدينية لديها، فالتنظيم الديني الواحد-أياً كان شكله-هو متحد في موضوعه مع التنظيمات الدينية الأخرى، وهذا يعني أنه وبمجرد نجاح هذا التأثير لتنظيم واحد فسينتقل آلياً ليشمل كافة التنظيمات الدينية التالية..وهذا يعود بالأصل إلى طبيعة الفكرة القائمة على فهم تلك التنظيمات للدين، أي أن جميع هذه التنظيمات هي في أصلها واحدة ولكنها أخذت أشكالاً مختلفة فظهرت لنا بصور شتى كالإخوان المسلمين والدعوة السلفية وتنظيم القاعدة والجماعة الإسلامية والجماعات الجهادية..إلخ..لابد وأن يفهم القروي بأن هذه الجماعات في مضمونها جماعة واحدة ، وهم يحوون جميعاً في داخلهم فكرة واحدة، لأن أكثر المنتمين لهذه الجماعات هم يفصلون بينها إرضاءً لأنفسهم بأن لا يكون فيهم ما يرفضونه من التنظيمات الأخرى...فتتكون القاعدة البشرية لتلك الجماعات اعتباطا.
البُعد التاريخي له دور مهم في إيصال تلك الفكرة، وذلك لشموله على عدة تجارب قد تُقنع أهل القرية بأن الحاصل لديهم ليس جديداً بل قد رأته البشرية قبل ذلك وذاقت من تحت رأسها الويلات، كمثال ما حدث لجماعات وتنظيمات أخرى أخذت نفس المسلك كتنظيم الخوارج وجماعة الحشاشون، واخترت هذين التنظيمين بالذات لقيامهم على نفس الفكرة الأصلية القابعة من ورائها تلك الجماعات..وهي فهم هؤلاء للدين وتوظيفه في الشأن السياسي، ومن الخطأ أن نعبر إدراك أهل القرية لتلك التنظيمات، فبعضهم -أو جُلهم- على دراية بأسمائهم، ويظنون أن هؤلاء أرادوا الشر من وراء ما يفعلون، وأن لفظ الحشاشين لا يقبله عقل القروي أو وجدانه، فكيف يقعون تحت تأثير من تُشبه جماعته جماعة الحشاشين ثم لا ينتبهون لخطورة أمرهم؟
هذا يعود إلى قاعدة غاية في الأهمية، وهي أن البشر بالعموم مخلصون لمعتقداتهم، ويأنسون لها وترتاح لها سرائرهم، ولديهم من الدلائل والمعطيات لتبرير تلك المعتقدات، وفي تقديري أن الثقافة العامة لأهل القرية لا تعي تلك القاعدة، بل يظنون-وحسب تلقين الشيوخ لهم-أن ما يعتقدونه هو الحق المُطلق، وأن المخالف يعلم أنه على باطل ولكنه يُكابر ويُعاند، وهذا المفهوم نابع من فهمهم لقضية الكُفر بالأساس، فيعتقدون بأن الكافر هو الذي يعلم الحق ثم يُنكره، هكذا دون إضافة، وبما أنهم على الحق فغيرهم بالضرورة هو كافر لعلمه بالحق الذي بحوزتهم..وهذه نكبة بشرية تحط على أي تنظيم أو جماعة أو تيار فكري تعتقد في نفسها الحق الإلهي أو الإنساني، فالنازيون لم يكونوا على دين ولكنهم حاربوا الغير لاعتقادهم بأنهم على الحق الإنساني ، أي أن كل فكرة ليست بالضرورة أن تكون قائمة على الدين.
فاعتقاد الحق واعتباره مُطلقاً يُهدر من قيمة العقول بل والدماء، فترى من يعاني من تلك المصيبة لا يُلقي اعتباراً للحياة أو للنجاة، فيُلقي بنفسه ومن معه إلى التهلكة وهو يظن أنه شهيد قدّم نفسه قُرباناً إلى الله، وهذه سمة عامة من سمات الجماعات، الخوارج كانوا كذلك والحشاشون كانوا كذلك، بل وصل الأمر إلى تحذير أحد قساوسة ألمانيا إبان الحروب الصليبية في رسالة للملك فيليب السادس -ملك فرنسا- يحذره فيها من جماعة الحشاشين، وكيف أن تلك الجماعة مُنظّمة تربوياً وتعليمياً على السمع والطاعة لكُبرائهم، وأنهم يمتلكون هيكلاً تنظيمياً شديد القوة يسمح لهم بتدمير كل شئ في سبيل إرضاء القادة، وأن لديهم قدرات على التخفي والتلون بما يسمح لهم أن يعيشوا في أي مجتمع.
من الوهلة الأولى سنرى أن تجربة الحشاشين تتكرر الآن بالكربون في صورة جماعة الإخوان، فجميع الصفات والمزايا السابقة لجماعة الحشاشون يمتلكها الإخوان..."سمع وطاعة-تخفي-تنظيم قوي-نظام تربوي خاص"..وهذا يجعلهم أشداء على الحُكام، وإذا تسلطوا كانوا أشداء على المجتمعات والشعوب، وحين يقتلون فلا فرق لديهم بين مسلم وغير مسلم، الفارق الوحيد بين الإخوان والحشاشين هو أن الإخوان سنة أما الحشاشين فهم شيعة، لذلك فالجماعات بالعموم تمتعض من هذا التشبيه، فهم يكرهون الشيعة، ولا يدرون بأن ما لديهم من صفات كانت قد امتلكتها في الماضي أحد أقوى وأعنف الجماعات السياسية.
ضرب الأمثلة للقياس والمقارنة مهم جداً في إحداث عملية التغيير، فالحوار القروي لن يقوم دون رأي آخر قائمُ وثابت على معلومات، والإعلام المصري مُقصّر في هذا الجانب، فهو لا ينشر الثقافة بل جامد إلى حد الركود، وموجه إلى حد التحريض، وكذلك فالكوادر التي تصل بلُغتها إلى لُغة الشارع قليلة أو معدومة، وليكن الحوار القروي هو البديل عن هذا الإعلام، أما كيفيته فربما نناقش ذلك في مراحل تالية للمشروع ونكتفي هنا بوضع اللمسات الإنشائية والجوانب الفكرية المحيطة بالعملية الحوارية.