كان من الممكن أنْ لا أصدق أخباراً يتناقلها المصريون وغير المصريين عن مليارات نهبها مبارك ورجاله وقاموا بتهريبها لولا أنني استمعت بأم أذني إلى الرئيسة السويسرية وهي تتحدث في 17 يوليو 2011 عن الأموال الهائلة باسم مبارك التي لا يطالب المصريون باستردادها من السلطات والبنوك السويسرية.
حفنة متشابكة من الطلاسم غير القابلة للفهم أو الاستيعاب أو العرض على العقل أو الاستعانة بالمنطق لفك جزء منها!
كل مصر، من عهد المشير إلى الآن، وكل من حمل في صدره ضمير الوطن من قضاة ومستشارين وعسكر وأكاديميين ومثقفين وإعلاميين وسياسيين وحزبيين ومتمردين وثوريين ورجال دين أغمضوا عيونهم عن سرقة القرن، وكلما قرأوا عنها أو أشار أحد إليها صكــّـوا وجوههم، وصموا آذانهم كأن في الحديث عن جريمة الجرائم ثعبانا يلدغ اللسان والعين والأذنين في نفس الوقت.
كل المصريين، مع استثناءات لا تراها العين المجردة، يخشون أو يترددون أو يحجمون عن الاقتراب من المنطقة الحمراء، وهي أموال شعب تم نهبها خلال ثلاثين عاماً فأفقرته، وضيّعته، وأوقفت التنمية، وأبطأت عجلة الحياة، وضاعفت جائعيه، وخرَّبت مؤسساته.
كأن عفريتا من الجن الأزرق يلتصق بكل ورقة خضراء نهبها لصوص في عهود سوداء، فإذا لمستها أو أشرت إليها أو حرضك ضمير يقظ، لســَــعـَـتك فلا تدري أهي نار جهنم قبل موعدها أم نار السلطة تحرق القلوب ولا تحرق أوراق النقد!
إجماع عجيب من شعبنا في مصر على عدم الخوض في هذا الأمر، حتى القضاة وهم يجلسون تحت شعار يحثهم على العدالة، ويستمعون لاتهامات النيابة وهي تعرض جرائم الرجل وعائلته وحكمه القميء لثلاثة عقود، تغض الطرف بعدها عن أموال الشعب المنهوبة.
في الشهور الأولى بعد ثورة 25 يناير سمح المشير طنطاوي لعائلة المخلوع بالاستجمام في شرم الشيخ، وتحريك وتهريب وتحويل والتلاعب في الأموال المنهوبة قبل أن يأتي يوم المحاكمة.
في المحكمة كان الشيطان جالساً كأنه يوم عيد له، فالشعب الثائر وافق على محاكمة الطاغية عن ثمانية عشر يوماً، وصمت، وسكت، وخرس، عن لعنة ثلاثين عاماً.
الدول التي تحتفظ مصارفها بأموال المصريين المنهوبة تظن أننا بلهاء، أغبياء، حمقى، متخلفون، نتوسل من أجل قرض بسيط مقارنة بأموالنا المنهوبة، ونترك لحيتان مصّ دماء الشعوب أموالا تكفي لو عادت لنصف فقراء مصر أن يرقصوا فرحاً حتى الصباح.
وقام المشير بتسليم السلطة للاخوان، والتزمت الجماعة بالخط الأحمر:
ممنوع الحديث أو الاقتراب أو المطالبة باسترداد أموال المصريين، والخط الأحمر يمتد للسيدة سوزان مبارك لتتمكن من التحويل والتحايل واخفاء ما نهبه زوجها وعائلته ورجاله.
أموال المصريين كالثلاثين عاما القاتمة في حُكم الطاغية، أي أن الضمير المصري عليه أن يبتلع كرامته وإيمانه وعشقه لوطنه، فالخطوط الحمراء المرسومة له لا يدري كنهها وكود طلاسمها وحل ألغازها إلا العلي القدير.
كتبت ونشرت عشرات المرات منذ خلع الطاغية، واشعر في كل مرة أن قضية محاكمة مبارك عن ثلاثين عاما ومعها أموال المصريين تذوب مع حبر قلمي بعد دقائق معدودة، وقبل أن تلتصق بموطن الذاكرة في أدمغة قرائي الكرام.
أيها المصريون،
لصوص مصر ومجرموها وطغاتها في كل العهود يبلغونكم شكرهم الجزيل على الخرس الطويل، والصمت المريب، والعمى الذاتي، والضمير الزئبقي، والإيمان المتلون، والتمرد المزيف!
أتحدى أن يتألم أحد لكلامي لأكثر من دقيقتين قبل أن يتسرب الحزن على مصر من الثقب الآخر للضمير.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 4 سبتمبر 2013