-1-
برز رواد الاتجاه الليبرالي في مصر ، بعد الحرب العالمية الأولى . وكانت جذورهم تمتد الى الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني. وكان أبرز هؤلاء الرواد الذين لعبوا دوراً حيوياً في اطراد الخط الليبرالي المصري وتطوره، لطفي السيد، وتلميذه طه حسين، ومحمد حسين هيكل. وكان طه حسين في مطلع القرن العشرين هو الحادي والمنادي - دون أدنى شك – لمسيرة وقافلة "الليبرالية الإسلامية". فكان يدعو الناس الى التمسك بالشريعة الإسلامية – كما يقول مصطفى عبد الغني في كتابه ("طه حسين والسياسة"، ص 17) وكان في الوقت ذاته يدعو إلى الديمقراطية، إلى درجة أنه فكر بوضع كتاب بعنوان (الديمقراطية). وكان يُحذِّر دائماً من استغلال السياسة لعواطف الجماهير. وهذا الفهم الصريح لليبرالية، نجده في كثير من كتب طه حسين، ككتاب "فلسفة ابن خلدون"، و "في الصيف"، و "أديب" وغيرها.
-2-
كان التعليم من أبرز مظاهر ليبرالية طه حسين الإسلامية. وهذا ما أكده طه حسين لشرط قبوله منصب وزير المعارف لأول مرة، في حكومة الوفد، برئاسة النحاس باشا، عام 1950.
وكان الإيمان بقيمة العقل، من أهم مظاهر ليبرالية طه حسين كذلك. وكان يرى، أن سبب تأخر الشرق، قناعته في فهم الطبيعة، وتفسيرها. وسبب تقدم الغرب، أنه سلك مسلكاً فلسفياً في فهم هذه الطبيعة، وتفسيرها.
ويرى مصطفى عبد الغني في كتابه، أن طه حسين لم يرتد عن الليبرالية في الثلاثينات كما أُشيع، وبعد أن أصدر عدة كتب في تاريخ الإسلام، أهمها "على هامش السيرة (3 أجزاء)، و "الشيخان"، و"علي وبنوه"، وغيرها. كما يرى عبد الغني، أن طه حسين يكاد يكون الكاتب الوحيد، في 1938 ، الذي أخرج كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" وهو الكتاب الذي يعتبر أعلى ذروة في الموجة الليبرالية في ذلك الحين.
وما زال هناك الكثير للحديث عن "ليبرالية طه حسين الإسلامية".
-3-
استهجن "القوم" قول المفكر السعودي المعاصر إبراهيم البليهي عندما سُئل، فقال:
- أنا ليبرالي مسلم.
فهاج "القوم"، وماجوا، وقالوا:
كيف يكون المسلم ليبرالياً؟!
فالليبرالية هي الإباحية، وهي الكفر، وهي الزندقة، وهي (الفلتان) الاخلاقي.. الخ.
فجاء ردنا:
لا تعريف عاماً لليبرالية، إلا إذا خصصنا السؤال، وقلنا ما هي الليبرالية الأمريكية، أو الفرنسية، أو الألمانية، أو المصرية، أو المغربية.. الخ؟
كما يجب تخصيص الفترة، لأن الليبرالية كأي مفهوم إنساني، تتغير وتتبدل من فترة زمنية لأخرى. فما نعتقد اليوم بأنه قيمة ليبرالية، ربما لن يصبح غداً كذلك، أو بعد قرن أو قرنين من الزمان.
إن كل ليبرالية تأخذ مواد تكوينها الأولية من المجتمع الذي تنبت فيه. لذا، فإن من يهاجم الليبرالية العامة، ويرميها بأقذع الأوصاف، هو كمن يحارب طواحين الهواء، أو يحارب أشباحاً لا وجود لها، وهو لا شك مخطئ علمياً. فليست هناك ليبرالية سيئة وليبرالية جيدة، أو ليبرالية مؤمنة بدين، وليبرالية كافرة بدين آخر. والأصوليون المتشددون والمتطرفون في الشرق العربي، ينظرون إلى ليبرالية الغرب نظرة توجس، وحذر، وخوف.
فلماذا كل هذا؟
إن الليبرالية الغربية للغرب، وليست لنا.
والليبرالية المسلمة لنا، وليست لهم.
والغرب لم ولن يُجيّش الجيوش، لكي يفرض علينا ليبراليته، كما فعلنا نحن في الماضي!
-4-
إن أكبر الظن، أن الأصوليين الدينيين والسياسيين المتشددين والمتطرفين، استقوا أفكارهم حول الليبرالية، مما كتبه الغربيون، وخاصة ما كتبه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار في كتابه (المصطنَع والاصطناع (Simulacres et Simulation . ولكنهم لم يدركوا أن بودريار كان يتحدث عن الليبرالية الغربية الجديدة، وليس عن الليبرالية العربية أو الإسلامية. وأن أهمية نقد بودريار لليبرالية الغربية الجديدة، يتأتى من كون بودريار ينتقد هذه الليبرالية من داخلها وليس من خارجها، كما نفعل نحن حين ننتقد الليبرالية الغربية الجديدة، ونتحدث عنها من خارجها.
إذن، فهم يتحدثون عن الليبرالية العربية/الإسلامية – إن وُجدت - عن غير علم، وعن غير معرفة. وحديثهم عنها بهذا الشكل، لا يتعدى أن يكون حديثاً سياسياً كيدياً، أو خطاباً دينياً متعصباً.
-5-
لقد أكد بعض المعاني السابقة، مقال الليبرالي السعودي عبد الرحمن الراشد (ذموا الليبرالية كما تحبون) ("الشرق الأوسط"، 17/12/2010)، وقال فيه:
"الليبرالية مفهوم إنساني بسيط، يؤمن بحرية الاختيار فقط، وهذه الحرية تضيق وتتسع، وفق رؤية كل فرد.. فإن اختارت الأغلبية أن تكون محافظة، فهذا حقها وخيارها، وإن فضَّلت العكس، فالأمر لها. لهذا تسمح هولندا بتدخين الحشيش، في حين تسجن الشرطة البريطانية من يتعاطاه. فحرية الفرد مقيدة في النهاية باختيار الجماعة، فإذا كانت أغلبية المجتمع محافظة، فخيارها هو الذي يسود. لهذا فالليبراليون، من الناحية النظرية، أقرب الناس إلى الجميع، حيث يفترض أنهم يؤمنون بحق الإسلاميين، والشيوعيين، والقوميين، والمحافظين الاجتماعيين."
ونحن نزيد على هذا بالقول، إن الليبرالية – بكل بساطة – هي الحرية في إطار العقد الاجتماعي، والسياسي، والديني، للفضاء الذي نعيش فيه.
-6-
الليبرالي الإسلامي السعودي، يوسف أبا الخيل، كان جزاؤه على ليبراليته الإسلامية، إهدار دمه بفتوى دينية، صدرت في 14/3/2008 من أحد الشيوخ المتطرفين المتشددين. وطلب هذا الشيخ محاكمته مع زميله الليبرالي الآخر عبد الله بن بجاد العتيبي. فإذا لم يرجع أبا الخيل عن أقواله "وجب قتله مرتداً، فلا يُغسل، ولا يُكفَّن، ولا يصلى عليه، ولا يرثه المسلمون." وقد أيّد فتوى الشيخ المتطرف المتشدد هذا، عشرون من المشايخ والأكاديميين. بينما أصدرت مجموعة من الليبراليين السعوديين بياناً تضامنياً، (لا للتكفير.. نعم لحرية التعبير، 31/3/2008). رافضين هذه الفتوى، التي قالوا إنها تهدد السلم الاجتماعي.
وكان أبا الخيل، قد كتب مقالاً قال فيه: "إن الإسلام لا يُكفِّر مَن لا يَدِين به، إلا إذا حال بين الناس وبين مُمارسة حرية العقيدة التي يَدينون بها."
وأبا الخيل، من الذين يرفضون مقارنة الليبرالية بأية أصول مذهبية، لأنها لا تلتقي والتمذهب من وجهة نظره أبداً. ويقول:
"إن الليبرالية نشأت في أساسها ضد التمحور حول المذاهب."