إذا أردنا دستوراً ينقلنا من التخلف إلى حضارة العصر، فربما علينا أن نوكل كتابته لأمة أخرى تعيش الحاضر وقيمه، فصياغة دستور بواسطة القوى والتيارات السياسية الحالية، وفي غياب رؤى مستقبلية واضحة وحداثية بحق، يجعل الصياغة عملية تحصيل حاصل، لتنتج دستوراً يعجز عن نقلنا حضارياً إلى واقع عالمي عجزنا طوال عقود وربما قرون عن الالتحاق به، بل وناصبناه العداء، باعتبار الحضارة المعاصرة تهدد بسلب هويتنا، ولا تتناسب مع خصوصيتنا، تلك التي نراها فريدة وثمينة، مما يستدعي الحرص عليها، بأكثر من حرصنا على حاضرنا وعلى مستقبل أولادنا وأحفادنا.
تصوري أن خروج الشعب في 30 يونيو وبهذا الحجم من الحشود كان يعني توصل الناس لوجوب الفصل بين الدين والسياسة، بعد أن اختبروا بأنفسهم نتيجة تسليم البلاد لأصحاب الشعارات الدينية، وكان يجب ترجمة هذه القناعة الشعبية الجديدة بتنحية رجال الدين بكافة تياراتهم جانباً في العملية السياسية، لكن تلوث فكر النخبة ذاتها، وجبنها عن الإقدام على هذه الخطوة تخوفاً من شعبية موجودة أو كانت موجودة للتيارات الدينية، أدى عملياً إلى إجهاض أهم ما تحقق في 30 يونيو. . كان الشعب بحاجة وعلى استعداد لدفعة للأمام، فإذا به يتلقى ركلة إلى الخلف، سواء من قبل العناصر المصرية المتلونة الفاقدة للإخلاص الوطني وللرؤى العلمانية الحاسمة، أو من قبل العالم الغربي رافع رايات الحداثة والديموقراطية.
مطالبات العالم الغربي بعدم استخدام العنف مع الجماعات الإرهابية التي تهدد الشعب والدولة المصرية، أقل خطراً على ثورة الشعب في 30 يونيو من المطالبة بإشراك هذه الجماعات في العملية السياسية، والأخطر مشاركتها في صياغة الدستور، فما سيعجزون عن تحقيقه بخناجرهم ومتفجراتهم، يمكن أن يحققوه كهذا بتواجدهم المقحم والشاذ على ذات المائدة مع الفصائل المدنية الوطنية. . الشعب الذي يعجز عن عزل وإقصاء التيارات المعادية للحياة والحضارة، سيظل أبداً أسير التخلف والزحف في قاع العالم. . قد يكون من السذاجة وحسن النية، أو الخداع وسوء القصد، أن نطلق على عمليات "الفرز" و"التطهير" الضرورية بعد ثورة لم يشهد العالم مثيلاً لها في 30 يونيو 2013، تسميات تلقي على المعنى ظلالاً مشوهة مثل تسمية "الإقصاء"، فبدون "الفرز" و"التطهير" يتحول الوطن لساحة من النفايات تسعى فيها العقارب والثعابين. . ألم تطارد إيطاليا المافيا، وتطارد أمريكا كوكلس كلان، كما يطارد العالم كله الآن تنظيم القاعدة، فلماذا يحرم على الشعب المصري وحده تطهير صفوفه بدعاوى ظاهرها الرحمة وباطنها سموم قاتلة؟!!
بموقفه الشاذ من الشعب المصري في حربه ضد الإرهاب، أضر العالم الغربي بقضية الحداثة في مصر أبلغ الضرر، فرغم الأيادي البيضاء للعالم الغربي وحضارته على الإنسانية بعامة، وعلى الدول المتخلفة كمصر بصورة خاصة، فإن شيوع أيديولوجية العروبة والإسلام السياسي، بما جلبا من نظرية المؤامرة، شاع تصور شيطنة الغرب، وكان أمل المستنيرين في المنطقة مجيء فجر الحقيقة، لنتجه بالشعوب نحو قبلة الحضارة الغربية الإنسانية، مخلفين مستنقعات التخلف الأبدي، أما وقد اختارت إدارات العالم الغربي ووسائل إعلامه ومؤسساته تقمص دور الشيطان بالفعل في مواجهة الشعب المصري، فلا حيلة لنا نحن دعاة الحداثة إلا أن نرفع راية الاستسلام، مؤقتاً على الأقل، وأن نحارب الإرهاب وحدنا متحدين إرادة السادة القابعين في سائر العواصم الغربية.
كيف نشرك في كتابة دستور المستقبل السلفيين الذي يعادون الحاضر ويديرون وجوههم للمستقبل محاولين اعتقالنا خلف قضبان الماضي؟!!. . بداية ننتظر من وزارة الداخلية أن تعلن لنا أسماء وانتماءات المتهمين بأعمال القتل والتخريب، لنعرف إن كان أغلبيتهم من الإخوان أم من السلفيين، ونرجو أن يتحقق هذا قبل جلوس زعماء السلفيين على مائدة لجنة الخمسين لتعديل الدستور. . إذا حضر سلفي واحد في هذه اللجنة، فإنني أشك في تمتع التسعة والأربعين الآخرين مجتمعين بالصلابة في التمسك برؤاهم، بالقدر الذي يتمتع به ذلك السلفي الواحد، فالإبقاء على هؤلاء ضمن المسيرة السياسية، وعدم فرزهم وإبعادهم عن تحديد خطواتنا وتوجهاتنا المقبلة، يعني بقاء الحالة المصرية تجمع سائر المتناقضات، التي يستحيل تفاعلها وانصهارها لتنتج لنا في النهاية خطاً حداثياً حضارياً يصلح لتحقيق آمال الشعب في حياة أفضل، ولقد سبق أن نشرت مقالاً قبل ثورة يناير أطلقت فيه على عصر مبارك "سنوات اللاحسم"، وأرانا الآن بالنزوع الاختياري أو الإجباري لمشاركة فصائل الإسلام السياسي في العملية السياسية، نتجه لذات العمود الفقري لسياسات مبارك وهي "اللاحسم"، لنظل نتأرجح مكاننا دونما قدرة على التقدم للأمام، أو حتى حسم أمورنا بالتقهقر إلى غياهب عصور التخلف، علماً بأن القول: "نوافق على ضم الإخوان والسلفيين والجهاديين إذا التزموا بالديموقراطية والمواطنة"، هو كقول: "نوافق على ضمهم إذا تابو عن فكر الإخوان والسلفية الجهادية"، فهذا شرط مستحيل، ومن يردده يخدع نفسه قبل أن يحاول خداع أو تضليل الآخرين.
الخلاف بين التيار المدني الممثل لإرادة جماهير 30 يونيو، وبين مختلف فصائل الإسلام السياسي، يتجاوز حدود الخلاف على كيفية إدارة الدولة، أو تحقيق العدالة والمساواة بين جميع أبناء الوطن باختلاف انتماءاتهم الدينية، أو حتى الموقف من الحضارة المعاصرة، فرغم أن هذه قضايا خلافية بالغة الخطورة، إلا أن صلب الخلاف وجذره يرجع إلى أن وظيفة الدولة المدنية وواجباتها محدودة ومحددة، وتنحصر في تنظيم العلاقات بين المواطنين، أما الدولة الدينية فتمتد مهامها، من تنظيم آداب دخول المرحاض إلى قواعد النكاح، وصولاً إلى اشتراطات دخول الجنة الإجباري، تلك هي المشكلة وليس مجرد الخلاف حول الديموقراطية وتبادل السلطة وما شابه.
يطالعنا مدع للحكمة بالقول: "علينا أن نضم الإخوان وحلفاءهم للمسار السياسي، حتى لا يعودوا للعمل تحت الأرض". . ولماذا لا نرفض فكرهم بوضوح وحسم، ومن أراد منهم العمل في النور فليعتنق آراء قادرة على الحياة في النور، ومن يصر على الظلمة فليتحمل مطاردة النور لخفافيش الظلام؟!!. . هناك فرق بين الآراء التي تتشدق بها طلباً للوجاهة الثقافية والاجتماعية والسياسية، وبين تلك التي عصرت فيها ذهنك وأعصابك بحثاً عن الأصلح لبلادك، فالجماعة التي تقدم نفسها للناس بشعار سيفين، هل لنا أن نصدقها إذا ادعت نبذ العنف؟!!. . "نبذ العنف" لدى التنظيمات الإرهابية، يعني تحولها من ممارسته إلى التهديد والتلويح به، لتحقيق نفس الأهداف. . قلت منذ سنوات طويلة لصديقي الإخواني: لماذا لا تستبدلون السيفين المتقاطعين وكلمة "وأعدو"، بكفين يتصافحان وكلمة "واعتصموا"؟. . لم يرد إلا بابتسامة لم أفهم معناها!!. . كانت حركة حسن البنا هي المشروع الضد لحركة النهضة والحداثة التي تبنتها أسرة محمد علي باشا، ويصح اعتبارها بمثابة تشنجات جسد يتعرض لنور الشمس وحرارتها للمرة الأولى، فراح يهرب إلى كهوف الماضي خوفاً من الجديد، ولعل 30 يونيو 2013 يكون نقطة نهاية ذلك المشروع الضد، وبداية جديدة للمسيرة نحو تأسيس الدولة العصرية، بعد أن أفقدتنا تلك الحركة ما لا يقل عن ثلاثة أرباع قرن من عمر الزمن والحضارة.
أرودوغان وحزب العدالة والتنمية التركي ليسوا إسلاميين معتدلين أو مستنيرين، لكي نتخذ منهم برهاناً على إمكانية تفهم وتجاوب التيارات الإسلامية مع حقائق العصر ومطالب الشعوب، فهم لم يتمكنوا ويسيطروا على تركيا بصورة تامة وجنحوا للاعتدال، لكنهم تسللوا بشق النفس إلى دولة علمانية شديدة الصرامة، واضطروا لمنهج الاعتدال اضطراراً بعد تجربة حزب الرفاه، الذي تم حله وسجن زعيمه نجم الدين أربكان. . فما يبدو استنارة من أمثال هؤلاء ليس أكثر من تكتيك وقتي، لايلبث أن ينقلب إلى الضد، بالتوازي مع تقدم خططهم للتمكين. . كلمة "إخوان" وحدها كافية، ولا يهم إن لحق بها كلمة "شباب" أو "منشق" أو "متشدد"، ومن يتصور غير هذا يخدع نفسه بداية، قبل أن يخدع أو يضلل من يوجهم لهم خطابه.
المصدر إيلاف