السَّبَبُ كلُّ شيءٍ يُتَوَصَّلُ به إِلى غيره؛ وكلُّ شيءٍ يُتَوَسَّل به إِلى شيءٍ غيرِه،وكلُّ شيءٍ يُتَوصّلُ به إِلى الشيءِ فهو سَبَبٌ.
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا. فَأَتْبَعَ سَبَبًا [84-85 الكهف]
فالسبب هو الوسيلة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [٥:٣٥]
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ۚإِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [١٧:٥٧]
فاتباع السبب والوسيلة لنيل شيء ما هو من السنن الإلهية التي تعرف بالبديهة.
ولكن إذا دققنا النظر في السبب الذي نتبعه، نجد أنه مشروط بتوفر أسباب أخرى ليست في متناولنا. الطفل مثلا يأكل لينمو ولكن هذا مشروط بوجود معدة هاضمة وأمعاء للامتصاص ثم أجهزة التمثيل الغذائي وهي تعمل لا إراديا. كذلك إذا أردت الذهاب إلى مكانٍ ما فإني أذهب إلى محطة الأوتوبيس، ثم هناك أسباب أخرى خارجة عن إرادتي مثل وصول الأوتوبيس إلى المحطة، والأوتوبيس بدوره يحتاج إلى وقود ولابد من سائق له،...إلخ.وهناك كلمة شهيرة يقولها الأطباء: احنا عملنا اللي علينا والباقي على ربنا.. وهكذا.
لكن يحدث أن يتعلق الإنسان بالسبب الذي في متناوله فقط وينسى أن الله يسبب الأسباب الأخرى التي تتمم وصول هذا السبب إلى غايته. أي أن الإنسان ينسى ما يمكن أن نسميه بتوفيق الله تعالى بمشيئته وقوته. وهذا خطأ فادح، وقد وقع فيه المسلمون حين ظنوا أن كثرتهم ستنصرهم على عدوهم:
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙوَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙإِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [٩:٢٥]
لقد نسوا قوله تعالى:
....وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [٣:١٢٦]
فإن كنا مأمورين باتباع الأسباب فلا ينبغي لنا أن نتعلق بها من دون الله سبحانه وتعالى.
وهذه قصة من اغتر بالأسباب وافتخر بها على صاحبه:
(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا. كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۚوَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا. وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا. وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا. وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا. قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا. لَّٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا. وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚإِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا. فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا. أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا. وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا. وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا. هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ۚهُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا.) [32-44 الكهف]
ولقد نصحه صاحبه بقوله: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ...
وللأسف نحن نكرر هذه الكلمة كثيرا عند ذكر النعم منعا للحسد ولا نفهم معناها:
فمعناها هو (لولا مشيئة الله ولولا قوته لما توفقت إلى هذه النعمة) فمعناها هو الأهم من مجرد النطق بها.
وهناك أمثلة أخرى:
(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖوَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ. وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖوَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖوَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖوَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚأَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚوَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ. فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖقَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ. فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ. وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖلَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖوَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ. تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚوَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.)
[76-83 القصص]
ويقول الله تعالى:
(فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ۚبَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ. فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ۚوَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَٰؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ. أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚإِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.) [49-52 الزمر]
فالبلية والفتنة كلها في: إنما أوتيته على علم:أي بشطارتي!
ففي الحقيقة أن فعلنا للسبب هو ضئيل تماما إلى جانب الأسباب التي هو مشروط بها والتي هي بيد الله سبحانه وتعالى. ولذلك فنحن دائما في حاجة إلى الدعاء دائما لكي يكلل الله تعالى مجهوداتنا بالنجاح. كما لا ينبغي أن نقع في الخطأ الفادح بالاعتقاد في السبب دون مسببه. وليكن معنى: (مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) في ذهننا دائما عندما نرددها وهو أنه لولا مشيئة الله وقوته ما وصلت إلى ما أنا فيه من نعم. وقد قال الله تعالى في سورة النحل:
وَمَا بِكُم مِّن نِّعۡمَةٍ۬ فَمِنَ ٱللَّهِۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيۡهِ تَجۡـَٔرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنكُمۡ إِذَا فَرِيقٌ۬ مِّنكُم بِرَبِّہِمۡ يُشۡرِكُونَ (٥٤) لِيَكۡفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيۡنَـٰهُمۡۚ فَتَمَتَّعُواْۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ (٥٥) وَيَجۡعَلُونَ لِمَا لَا يَعۡلَمُونَ نَصِيبً۬ا مِّمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡۗ تَٱللَّهِ لَتُسۡـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمۡ تَفۡتَرُونَ (٥٦)
والحمد لله رب العالمين.
أسألكم الدعاء.