ثانيا :
1 ـ رأينا إشارة قرآنية لعظمة الدولة المصرية منذ ا&aatilde;ية منذ القدم من خلال ورود كلمة (مصر) في القرآن ومن خلال الإشارة إليها علي أنها " الأرض " ، ومن الطبيعي أن هذه العظمة الدنيوية تتجلي أساسا في نظام الحكم السياسي وقوة الدولة المصرية القديمة .
ويمكن أن نتخيل شخصية الملك الهكسوسي من خلال قصة يوسف ، فهو ملك له " ملأ " أي مجلس مشورة يستشيرهم ، وإن كانت علاقته بذلك الملأ لا ترقي إلي العلاقة العضوية التي كانت بين فرعون موسي وملائه، فبينما يجد فرعون موسي كل التأييد من ملائه نري الملك الهكسوسى يفتقد حماس أتباعه حين قص عليهم رؤياه (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ، قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ) " يوسف 43 "
ومن دراسة النصوص القرآنية التي تتناول علاقة فرعون موسي بملائه يمكننا أن نتوقع رد فعل مناقضا ، فلو تخيلنا أن فرعون موسي قص علي ملائه رؤياه وقال لهم : (يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) لسارعوا بتفسير للرؤيا يعرفون أنه يتفق مع هوي الفرعون ، ولربما أحضروا له سريعا السحرة والمنجمين والعرافين . وما كانوا بالتأكيد سيقولون له في تثاؤب وكسل " قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ.. يوسف: 44 "
* * *
ومع ذلك فالملك الهكسوسي فى قصة يوسف كان لا يخلو من فراسة صادقة ومعرفة بأقدار الرجال ، ويتجلى ذلك في اختياره ليوسف الذي تم بعد تفكير ودراسة نعرفها من خلال الآيات . فالملك حين خاب أمله في الملأ الذي عجز عن تعبير رؤياه رشح له الساقي ـ زميل يوسف في السجن من قبل ـ يوسف ليأخذ منه تعبير الرؤيا ، وأرسله الملك إلي حيث يوسف في السجن ، ثم عاد الساقي بتفسير الرؤيا ، وعرضها علي الملك .
وأرسل الملك رسولا خاصا من لدنه إلي يوسف في السجن ، وذلك تكريم خاص ليوسف لا يحلم به سجين في تلك العصور . ولكن يوسف أصر أن يخرج من السجن وصفحته نقية من تلك التهمة الكاذبة التي ألصقوها به ظلما . وأدي ذلك الموقف من يوسف إلي تصعيد جديد آثار اهتمام الملك بيوسف أكثر ، ولا ريب أن الساقي قد حدث الملك من قبل عن شخصية يوسف من خلال احتكاكه به في السجن ، ثم جاء رفض يوسف للخروج من السجن إلا بعد إثبات براءته ليجعل الملك يقوم بنفسه بالتحقق من ملابسات الحادث الذي مضي عليه سنوات .
ولذلك فالملك يستدعي النسوة ويحقق معهن ويبدأ التحقيق باتهامهن بأنهن اللاتي راودن يوسف عن نفسه ، أي يبدأ التحقيق باتهامهن بدلا من اتهام يوسف ، أي أنه من البداية نصب الملك نفسه مدافعا عن يوسف البريء، ولذا يعترفن ببراءة يوسف وتعترف امرأة العزيز أمام الملك بأنها المذنبة .
* * *
4 ـ ويقول مؤرخو مصر القديمة بأن الهكسوس لم يعاملوا المصريين إلا بالعنف والقسوة ، ولكن هذا الاتهام يعوزه الدليل الحاسم ، ولكن القرآن يعزز ذلك الرأي ..
فهناك شخص بريء دخل السجن ظلما ليستر فضيحة امرأة العزيز والنسوة المترفات في المدينة، وكل الذنب الذي وقع فيه يوسف عليه السلام أنه تمسك بالعفة مع تهديدهن له بالسجن إن لم يستجب لنزواتهن. "ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ : يوسف 35 "
وكان من الممكن أن ينسوا يوسف في السجن فيظل فيه إلي أن يموت لولا أن مسار الأحداث اتجه إلي رؤية الملك والتداعيات بعدها ..
لقد رأي كلاهما رؤيامستوحاة من مهنته الأصلية ، فالخباز رأي أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه ، والساقي رأي أنه يعصر خمرا.
وانشغل الساقي بهموم الطبقة العليا وحياة القصور ونسي ذكريات السجن والسجين المظلوم الذي كان يستضيء به في ظلمات السجن ، ولم يتذكره إلا عندما اقتضت مصلحة الملك ذلك عندما عجز الملأ عن تفسير الرؤيا. "وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ.. يوسف 45 "
والذي يعنينا هنا أن الساقي الذي ينتمي للطبقة الحاكمة قد خرج من السجن ووجد وظيفته في البلاط بجانب الملك ، هذا بينما الخباز المسكين يلقي حتفه مصلوبا ،والخباز بحكم مهنته لابد أن ينتمي للطبقة الشعبية . والمفهوم أن جريمته قد لا تتعدي السرقة مما تقع عليه يداه من دقيق وخبز . وذلك ما يعكسه المنام الذي رآه وهو يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه ، أي أنه جوزي بسرقته الخبز فصلبوه بسبب ذلك ..
وإمرأة العزيز تهدد يوسف بالسجن أمام زوجها " قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : 25 يوسف "
وتهدده بالسجن أمام النسوة " وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ.. يوسف 32 "
ويرضي يوسف بالسجن "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ: يوسف 33 "
وتظل رابطة السجن قوية في نفس يوسف فيخاطب رفيقيه بقوله: "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ : يوسف 39 " وحتى بعد أن أصبح يوسف عزيز مصر وله فيها مطلق السلطات فإن ذكريات السجن ظلت تلاحقه ، وهو في تمام النعمة يقول : "وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ :100 يوسف "
وارتبط السجن بالعذاب الجسدي والنفسي وذلك ما تلحظه في قول امرأة العزيز. "إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : يوسف 25 " ".لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ: 32 يوسف"
ويكفي في قسوة السجن أن يوسف قال للساقي الذي تنبأ له بالخروج. "اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ: 42 يوسف "
ونسي الساقي فلبث يوسف "فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ : 42 يوسف " .
وظل السجن المصري مرعبا بعد يوسف . ففي قصة موسي نري الفرعون يهدده قائلا:
"لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ.. الشعراء 29 " .
6 ـ وإلي جانب الملك الهكسوسي نلمح وظيفة سياسية أخري رفيعة المنزلة وهي " عزيز مصر" وجاء هذا اللقب مرتين في حديث القرآن عن المرأة التي راودت يوسف عن نفسه وهي امرأة العزيز، وجاء مرتين وصفا للمكانة التي احتلها يوسف بعد أن مكن الله له في الأرض .
لقد عبر القرآن الكريم عن تخاذل شخصية عزيز مصر الذي تربي يوسف في بيته فجعله يتوارى خلف شخصية زوجته اللعوب "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ.. يوسف 30" "قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ.. يوسف 51"
وعبر القرآن الكريم عن قوة شخصية يوسف حين تولي هذا المنصب بجدارة ، فقد قام يوسف بأعباء المنصب إلي درجة أن أخوته حين دخلوا عليه لم يعرفوه بينما عرفهم . "وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ : يوسف 58"
وقد أخذتهم هيبة يوسف فأخذوا يرجونه حين أخذ أخاه "قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ : يوسف 56 "
ثم حين رجعوا له قالوا خاضعين . "يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ: يوسف 88."
ومن خلال المهام التي قام بها يوسف تعرف أن منصب عزيز مصر هو الإشراف الكامل علي شئون مصر الزراعية والاقتصادية ، فبذلك المنصب مكن الله تعالي ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء . أو أن يوسف كان يشارك في حكم المملكة ونلمح ذلك من قوله وهو يشكر ربه تعالي: "ربِّ قَدْ آَتََيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ: يوسف 101" .
وكان المصريون في عصر يوسف يقولون عنه باللغة المصرية القديمة" عزيز مصر" وإلي عهد قريب كان من ألقاب التشريف أن يقال بالعربية التركية ( عز تلو) وبالعربية الفصيحة " صاحب العزة" .
ونفهم من ذلك أن الحدود المصرية الشرقية كانت لها بوابات متفرقة . وأن عليها حرساً شديدي الملاحظة ، وقد خشي يعقوب عليه السلام أن يرتابوا في أبنائه فيحدث لهم مالا تحمد عقباه فنصحهم بما يستطيع ولم يبق عليه إلا أن يتوكل علي الله ويسلم أمره إليه .
وحين قدم يوسف نفسه لأخوته وقال لهم " "وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ :يوسف 93 " سافر بعدها ينتظرهم عند الحدود المصرية الشرقية ، وهناك استقبل يوسف أبويه وأهله وساروا معه إلي مصر آمنين ، حيث لم يعد مجال للخوف من يعقوب علي أبنائه "فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ.. يوسف 99 " ،أي كانوا يطلقون علي العاصمة اسم ( مصر) .
تعديل | To English |
التعليقات (7) |
[43044] تعليق بواسطة ايناس عثمان - 2009-10-16 |
ايعد غياب الطبقة الوسطى دليل على الظلم
|
حذف التعليق |
تعديل التعليق |
ما أروع هذه اللمحات القرآنية فهي ترسم صورة لحياة المصريين القدماء الذين اكتووا بنار الهكسوس برغم من أن الهكسوس كانوا يتعاملون بطيبة وعفوية أو ديمقراطية مع الطبقة العليا أو الحاشية . وهذا كما ورد في المقال في قصة الرؤيا وتفسيرها وأنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن التفسير مع كل هذا الاهتمام من الملك بالرؤيا وقلقه الشديد منها ، بل وصفوا الرؤيا بأنها ( أضغاث أحلام ) وصرحوا بأنهم غير قادرين على تفسيرها .
|
[43062] تعليق بواسطة عائشة حسين - 2009-10-18 |
هل تم إكراه المصرييين في دينهم في زمن الهكسوس
|
حذف التعليق |
تعديل التعليق |
هذا الجزء من مقال للدكتور منصور منشور على الموقع ( الكفر السلوكي وملامحه )
|
[43063] تعليق بواسطة أيمن عباس - 2009-10-18 |
ما الذي يعنيه غياب الطبقة الوسطى من المجتمع .
|
حذف التعليق |
تعديل التعليق |
لقد أثارت الأستاذة /إيناث عثمان سؤال عن غياب الطبقة الوسطى، وحسب فهمي المتواضع أن غياب الطبقة الوسطى من أي مجتمع أن هناك ظلم بيّن واقع فالطبقة العليا ( طبقة الحكام ) تستبد بالطبقة الدنيا ( طبقة المحكومين) وهذا يعني الظلم والجور وغياب العدل،والذي نفهمه أن بداية اختفاء الطبقة الوسطى كان من عصر الملك ،أيام يوسف عليه السلام ،واستمر إلى يومنا هذا مع زيادة مطردة وهذا ما أصبح واضحاً في مجتمعاتنا العربية ، وفي مصر على وجه التحديد .
|
[43095] تعليق بواسطة نورا الحسيني - 2009-10-20 |
بعض خطوط للإجابة
|
حذف التعليق |
تعديل التعليق |
لا أستطيع الإجابة على عموم الإكراه في الدين في عهد الهكسوس والذي عاصر يوسف عليه السلام ، فلم أذكر أن القرآن قد حكى لنا عن هذا الإكراه كما حكى لنا عمه في أيام موسى عليه السلام والفرعون الذي ادعى الألوهية كما ورد في التعليق السابق ولعل ذلك هو السبب أنه احتكر الألوهية لنفسه وشاط غضبا من موسى لأنه قال بوجود إله آخر غيره، وحاول أن يأخذ مجموعة من رعاياه بني إسرائيل، لكن ملك الهكسوس لم يدعي الألوهية ولم يرصد لنا القرآن هذا الادعاء بل نراه يرصد لنا صفات ليست سيئة في مجملها مثل الشورى وإن كانت خاصة بحاشيته كما أنه لا يخلو من فراسة صادقة ومعرفة بأقدار الرجال لكن فرعون لم يمنعه علمه بأن نهايته ستأتي على يد أحد أبناء بني إسرائيل كما كان شائعا أن يتخذ لنفسه طريقا للرجعة بأن لا يعادي موسى وقومه كما فعل ملك الهكسوس مع يوسف وأهله ونصره في قضيته وأصبح يباشر التحقيقات بنفسه . هذا بحسب علمي والله أعلم
|
[43110] تعليق بواسطة عائشة حسين - 2009-10-21 |
هل تم صهر بني إسائيل في قومية أو قبيلة ما
|
حذف التعليق |
تعديل التعليق |
الدكتور أحمد صبحي يقول : وبنو إسرائيل لا علاقة لهم ـ من حيث الأصل العرقى ـ باليهود البيض في دولة إسرائيل اليوم الذين يمثلون في الحقيقة سلالة قبائل الخرز التي اعتنقت اليهودية في العصور الوسطي ثم هاجرت لأوربا ثم كونوا في العصر الحديث عماد دولة إسرائيل الراهنة .
|
[43113] تعليق بواسطة أيمن عباس - 2009-10-21 |
لكن رؤيا الملك غير مستوحاة من مهنته أو حياته
|
حذف التعليق |
تعديل التعليق |
كلا من الخباز والساقي رأى رؤيا مستوحاة من مهنته الأصلية فهل هذه قاعدة في تفسير الرؤيا لا تخرج عنها ؟ لكننا في رؤية الملك نراها غير مستوحاة من حياته لآنه لم يكن يعمل في زراعة الأرض وما يخص السنبلات فجاءت الرؤيا غير مستوحاة من حياته على ما أظن فما تفسيرك لذلك جزاكم الله خيرا
|
[43125] تعليق بواسطة طارق سلايمة - 2009-10-22 |
هل الأرض التي طلب
|
حذف التعليق |
تعديل التعليق |
أستاذنا الفاضل
|