هذا الاعلان الدستورى المصرى ينصّ على شريعة الوهابية وليس على شريعة الاسلام ( 5 )
المبدأ الرابع من مبادىء الشريعة الاسلامية : العدل والقسط

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٩ - يوليو - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 

قلنا إنّ مبادىء للشريعة الاسلامية هى : (1 ) المساواة ،و(2 ) الديمقراطية المباشرة أو الحرية السياسية وحّكم الشعب ، وتحريم الاستبداد ، و(3 ) الحرية المطلقة فى الدين ، و (4 ) العدل ، و( 5) حق الحياة ، و (6) التخفيف والتيسير فى إصدار التشريعات .   ونتوقف الان مع المبدأ الرابع : العدل والقسط

أولا : العدل والقسط  مقصدا وهدفا لكل الرسالات السماوية :

1 ـ القسط هو تمام العدل، والقسط هو الهدف من إرسال الرسل والأنبياء وإنزال الكتب السماوية، يقول تعالى ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد 25) فإقامة الناس فى أى مجتمع للقسط والعدل هى إقامة لشريعة الله التى جاءت بها الرسالات السماوية فى كل عصر. ومعنى ( لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ ) أن الرسالات السماوية تحرّض الناس على ان يتعاونوا جميعا فى إقامة أو تأسيس دولة القسط ، وكلمة ( الناس ) شاملة للرجال والنساء والأغنياء والفقراء ، أى كل أفراد المجتمع ، كلهم مُطالبون بأن يقيموا دولة العدل والقسط للجميع على قدم المساواة . إن لم يحدث هذا وظلت دولة الظلم والاستبداد قائمة فإن البديل للرسالات السماوية هو ( الحديد ) الذى فيه بأس شديد ومنافع للناس، وتكلمة الاية الكريمة تشير الى وجوب الثورة المسلحة على الظلم بهدف إقامة العدل والقسط ونصر دين الله جل وعلا ، وهو الذى يعلم بالغيب أنصار العدل والقسط : ( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ). إنّ المستبد لا يتنازل عن سلطانه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فلكى يستمر مستبدا لا بد له من قهر الناس وإرهابهم بالتعذيب ، وتحصين نفسه ونظامة بترسانة من الأسلحة وترسانة أخرى من القوانين سيئة السُّمعة . وهذه هى خبرة البشرية مع كل مستبد ، لذا يظل أساس المواجهة مع المستبد بالوعظ ونشر الوعى بين الناس بقيمة العدل والحرية كجوهر للدين السماوى ،فإن لم يستجب المستبد فالبديل هو اللجوء الى الثورة المسلحة عليه بالحديد ذى البأس الشديد . ولنقرأ الآية الكريمة كاملة : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد )

2 ـ لذا فإن إقامة القسط  هى إقامة للشرع الالهى ، أو إقامة لجوهر الدين الالهى ، وهذه هى أُسُس الشريعة التى نزلت فى كل الرسالات السماوية من رسالة نوح عليه السلام  الى نزول القرآن الكريم خاتم الرسالات السماوية ، وهذا ما يرفضه عُتاة المشركين الظالمين فى كل عصر ، يقول جل وعلا : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) الشورى ). بإقامة العدل والقسط مع الحرية الدينية للجميع بالمساواة لا تحدث إنقسامات تهدد كيان المجتمع إذ لا سيطرة لأحد على أحد ، فالكل يأخذ حقه بالعدل فى هذه الدنيا ، والاختلاف فى الدين مرجعه لله جل وعلا ليحكم فيه يوم القيامة . 
ثانيا : أنواع القسط والعدل :
 فى التعامل مع الله جلّ وعلا :  


فالقسط فى التعامل مع الله يكون بالإيمان به جل وعلا إلهاً واحداً لا شريك له ولا نظير، ولم يلد ولم يولد. ومن هنا فإن الإشراك بالله تعالى ظلم عظيم للمولى جل وعلا وهو وحده الخالق لكل شىء :﴿ إِنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان 13). وهذه قضية يختلف فيها البشر، ومرجعها إلى الله تعالى يوم القيامة. وهذا من تمام العدل ، لأننا خصوم فى موضوع الالوهية والاعتقاد ، وتتجسّد هذه الخصومات فى ظهور الديانات وما يتفرع عنها من مذاهب وطوائف ، كل منها يعتقد أنه الذى يملك الحقيقة المطلقة ويتهم الآخرين بالكفر والهرطقة وإنكار الحق ، والحق عنده هو مايؤمن به فقط . ومن المتعذّر فك الاشتباك الدينى بين الخصوم المتشاكسين ، لذا فإن من الظلم أن يكون الخصم حكما وقاضيا على اقرانه من الخصوم الآخرين . ومن العدل أن يكون رب العزة جل وعلا هو الذى يحكم بين الناس فيما هم فيه مختلفون ، فهو صاحب الشأن ، وقد أعد لهذا اليوم يوما هو ( يوم الدين ).

القسط مع البيئة:
1 ـ يأتى القسط فى التعامل مع البيئة والطبيعة فى تدبر كلمة قرآنية هى الميزان، وهى تشير الى القسط . و( الميزان ) تعنى فى ثقافتنا المعاصرة التوازن الطبيعى، و(الميزان) أو (القسط ) أو ( التوازن )هو أساس خلق الكون وأساس الرسالات السماوية، وهو أيضاً أساس الحساب يوم القيامة.. وإليكم التفصيل..
2 ـ عن خلق السماوات والأرض وفق ميزان دقيق يقول تعالى ﴿وَالسّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلاّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن 7: 9) فالسماء ـ وهى كل ما يعلونا من غلاف جوى وأجرام سماوية ـ  تقوم على أساس دقيق من التوازن، وعلينا ألا نطغى على ذلك التوازن فى العالم الكونى من الغلاف الجوى أو فى ذرات الأرض وهندسة الجينات وعناصر التربة ومعادنها، وإلا فإن الطغيان على ذلك التوازن الطبيعى يفتح الباب للفساد، ويحدث هذا بين الناس إذا ضاع القسط فى التعامل فيما بينهم، لذا يقول تعالى يربط التوازن الطبيعى بالتوازن العادل فى التعامل بين البشر ﴿أَلاّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ﴾.
3 ـ إن الميزان الإلهى فى خلق المادة تجده فى أوزان العناصر والذرات والمعادلات الكيماوية بنفس ما نجده فى حسابات الفلك والنجوم والكواكب، وعن طريق الحسابات الرياضية توصل أينشتين إلى نظريته فى النسبية قبل أن تتحقق بتفجير القنبلة الذرية، وعن طريق الحسابات الرياضية يتوصل علماء الفلك إلى اكتشاف بعض الأقمار والمجرات قبل أن يتعرفوا عليها بالمراصد. والله تعالى يقول عن منازل القمر ﴿وَقَدّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ (يونس 5) ويقول عن التقويم القمرى والشمسى ﴿وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً﴾ (الأنعام 96) ونفس الميزان المحسوب فى المواد أشار إليه القرآن الكريم :﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَيْءٍ مّوْزُونٍ ﴾ ، ﴿وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مّعْلُومٍ﴾ (الحجر 19،21).
4 ـ وهذا الميزان الدقيق فى المخلوقات الحية وغير الحية يستلزم عدم المساس به حتى لا يفسد النظام فى الذرة والعناصر والخلايا والغلاف الجوى. ومن أجل ذلك فإن الله تعالى خالق هذا الكون ( الموزون ) أو ( المتوازن ) ينزل أيضاً كتاباً سماوياً فيه (الميزان) العادل الذى يهتدى به الناس فى تعاملهم مع الكون والبيئة وفى تعاملهم مع بعضهم البعض. يقول تعالى عن ذلك الكتاب السماوى الذى نزلت به الرسالات السماوية ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد 25) ففى الآية الكريمة يأتى إرتباط الكتاب السماوى بالميزان (وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ )، وذلك بهدف أن يقوم الناس بالقسط . أى بالكتاب الذى هو الميزان يعتمد الناس القسط فى تعاملهم مع الله تعالى وفى تعاملهم مع أنفسهم وفى تعاملهم مع البيئة.

5 ـ ولأن الميزان واحد فكل رسالة سماوية كانت تنزل واحدة لكل نبى ، فلكل نبى رسالة سماوية واحدة ، فلا يقال أن له ( كتاب وسُنّة ) بل هو الكتاب فقط . ولآن كل الرسالات السماوية تؤكد أنه لا اله إلا الله وتؤكد قيم القسط والعدل والحرية والرحمة فإن الله تعالى يجعل الكتب السماوية كتاباً واحداً جوهرها القسط والعدل. والله تعالى يأمرنا بالعدل والاحسان ( أى العفو وهو درجة فوق العدل ): ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) ( النحل )، ويأمر خاتم النبيين ـ عليهم جميعا السلام ـ أن يقول لأهل الكتاب الذين أتوا ليحكم بينهم : ﴿ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ (الشورى 15) .ونزل القرآن خاتم الرسالات السماوية قبل قيام الساعة، يقول تعالى عن القرآن الذى جاء ميزاناً محفوظاً إلى قيام الساعة ﴿اللّهُ الّذِيَ أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّ السّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ (الشورى 17). أى نزل القرآن (بالحق وبالميزان ). ومصطلح ( الحق ) فى القرآن الكريم يعنى رب العزة ، ويعنى الصدق ويعنى القرآن ويعنى العدل . وكما أنزل الله جل وعلا كل الكتب السماوية ووصفها بالبينات والميزان فالقرآن الكريم موصوف بالحق والميزان .

6 ـ ويوم القيامة يتم وزن الأعمال بالقسط وعلى أساس الذرة، يقول تعالى ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ (الأنبياء 47) وتوزن الأعمال فى مقابل الكتاب السماوى الذى كان الميزان الذى ينبغى أن يحتكم إليه الإنسان فى الدنيا ويقيس على أساس حياته، يقول تعالى ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾ (الأعراف 8: 9) فآيات الكتاب هى الميزان فى الدنيا، وستكون هى الكفة فى ميزان الآخرة مقابل كتاب الأعمال لكل فرد يوم الحساب ، وكل ذلك بالقسط. القسط الذى ينبغى مراعاته فى التعامل مع الله تعالى ومع الناس ومع البيئة.

7 ـ والفساد هو عكس القسط، وإذا تحكم الفساد فى علاقات البشر فلابد أن يصل إلى البيئة، ولعل ذلك ما أشار إليه القصص القرآنى فى حديث النبى شعيب مع قومه الذين اشتهروا بخيانة الكيل والميزان، لذا اقترن خطاب شعيب لهم بالنهى عن تطفيف الكيل والميزان وعن الفساد فى الأرض (الأعراف 85، هود 85) بل أن الله تعالى يجعل حدوث الفساد فى الأرض ناشئاً عن فساد العلاقات بين الناس، يقول تعالى ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُواْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم 41) ومن المعروف أن موسم الجرد يرتبط فيه إحراق المخازن والمنشئات للتغطية على السرقات، أى تدمير البيئة بعد جرائم السرقة.

8 ـ ومن هنا كان القسط أساس الدين وأساس الشرع وأساس الخلق فى الكون، وفى النهاية هو أساس الحساب يوم القيامة. لذلك يقول تعالى يؤكد شهادته ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (آل عمران 18) هنا تأكيد على أن شهادة الاسلام واحدة ( لا اله إلا الله ) هى لله الواحد الخالق وحده دون شريك معه ، ويؤكدها أن هذه الشهادة ب( لا اله إلا الله ) فقط هى قيام بالقسط يشهد به الله تعالى والملائكة وأولو العلم . ومن الظلم وإنعدام القسط أن تكون شهادة التوحيد مثناة يرتفع فيها إسم ( محمد ) متميزا دون الأنبياء وفوق رسل الله ليكون الى جانب الواحد القهار جل وعلا ويتم تفضيله على باقى الأنبياء ، فهذا يناقض القسط المنصوص عليه فى الآية الكريمة التى تكررت فيها عقيدة الايمان الاسلامية ( لا اله إلا الله ) مرتين .

القسط والعدل مع الناس :

1 ـ وليس من القسط أيضا أن تنعدم المساواة بين المسلم والمسيحى، أو أن يكون غير المسلم أهل ذمة. فذلك من تشريعات الأديان الأرضية للمسلمين، ولم يعرفه عصر النبى عليه السلام، وإنما هو مصطلح لم يعرفه القرآن، ولكن أوجدته دولة المسلمين بعد أن فتحت ممالك وشعوباً وعاملت أبناء الأمم المفتوحة على أنهم أقل مكانة من المسلمين يدفعون الجزية وفق المفاهيم السائدة فى العصور الوسطى وقتها. وهذا ينافى تشريعات القرآن القائمة أساساً على القسط والعدل.

2 ـ إنّ القسط فى التعامل مع البشر يكون بالتعامل بالعدل مع الناس جميعاً سواء كانوا من الأهل والأقارب أو كانوا من الخصوم والأعداء. ومن هنا جاءت الأوامر فى القرآن بالعدل والقسط داخل البيت، مع الزوجات أو الاكتفاء بزوجة واحدة ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً﴾ (النساء 3).ثم القسط والعدل فى التعامل مع الأقارب حتى لا تؤثر القرابة على القيام بالقسط فتقع المحاباة والظلم، لذلك يقول تعالى ضمن الوصايا العشر ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ﴾ (الأنعام 152) ويقول تعالى ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَىَ بِهِمَا فَلاَ تَتّبِعُواْ الْهَوَىَ أَن تَعْدِلُواْ﴾ (النساء 135) فالأمر الإلهى هنا للمؤمنين بأن يقوموا بالعدل والقسط، وأن يكونوا بذلك شهداء لله تعالى حتى على أنفسهم وأقاربهم إحقاقاً للعدل وابتعاد عن الهوى. فهنا القيام على القسط لوجه الله حتى لا تؤثر محاباة الأقارب عليه. ويتكرر نفس المعنى فى القيام بالقسط حتى لا يتأثر العدل والقسط بكراهية الأعداء فتحكم عليهم ظلماً، يقول تعالى ﴿يَا أَيّهَآ الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ للّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىَ أَلاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ﴾ (المائدة 8) أى أن يقوموا ابتغاء مرضاة الله تعالى بالقسط فلا يؤثر فيه كراهيتهم لقوم فيحكموا عليهم ظلماً. وبالتالى فإذا كان أولئك المختلفون فى العقيدة قوماً مسالمين لم يضطهدوا المؤمنين ولم يطردوهم من ديارهم ولم يساعدوا العدو فى اضطهادهم، فإن من حقهم على المؤمنين أن يعاملوا ليس بالقسط فقط ولكن بالبر والإحسان. يقول تعالى ﴿لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة 8) والواضح فى هذه الآية أنها تتحدث عن قوم من طبيعتهم الحرب والعداء إلا أنهم لم يحاربوا المؤمنين ولم يعتدوا عليهم، وقد أوجب القرآن القسط والبر فى التعامل معهم لأنهم كفوا أيديهم عن اضطهاد المؤمنين وقتالهم. وبالتالى فإن الأقباط (وهم أصلاً مسالمون امتلأ تاريخهم بالصبر على الاضطهاد وإيثار الاستشهاد على المقاومة للظلم) هم أولى الناس ببر المسلمين وعدل المسلمين، وإلا فمن يعتدى عليهم بالظلم والعدوان فقط استحق نقمة المولى عز وجل.
2 ـ ثم هناك القسط فى التعامل التجارى وفى الأسواق وفى كتابة الديون ﴿وَلْيَكْتُب بّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾.. ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بِالْعَدْلِ﴾ (البقرة 282) وفى الكيل والميزان ﴿وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ (الأنعام 152) والقسط مع اليتامى وحقوقهم ﴿وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَىَ بِالْقِسْطِ﴾ (النساء 127) والقسط فى التقاضى بين الناس ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ (النساء 58) وفى الحكم بين القوم الآخرين ﴿وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ (الشورى 15) والقسط فى الشهادة ﴿وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مّنكُمْ﴾ (الطلاق 2) والقسط فى الحكم بين دولتين متصارعتين ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوَاْ﴾ (الحجرات 9).

القسط فى السياسة :

1 ـ العدل السياسى هو بالديمقراطية المباشرة التى تؤسس المساواة بين المراطنين ، وتمنع أن ( يعلو ) أحد فوق أحد ، لأن ( العلوّ ) لا يكون إلا لله جل و ( علا ) سبحانه و ( تعالى) . ولذا فلا توجد فى الدولة الاسلامية طبقات مميزة أو مناصب سامية عُلوية يُقال لأصحابها ( صاحب السّمُوّ ) أو ( صاحب الجلالة ) أو ( صاحب الرفعة ) أو ( صاحب المعالى )أو  أو ( سيادتك ) أو ( معاليك ) أو ( فخامتك ) ..الخ . هذه الألقاب تأليه للبشر وتكريس للظلم وتقنين له برفع أفراد فوق مستوى الأغلبية من الشعب بالتناقض مع شرع الله جل وعلا القائم على القسط والمساواة بين الناس . هذه المناصب العُلوية بأوصافها الضخمة تتّسق مع ثقافة الدولة الدينية وأديانها الأرضية ، فمن مخلّفات الدولة الدينية فى مصر أن يُقال عن شيخ الأزهر ( الامام الأكبر للمسلمين ) فإذا كان فلان هو الامام الأكبر للمسلمين فماذا نقول عن خاتم النبيين محمد عليه السلام ؟!، ومنها أن يقال فى دين التشيع ودولته الدينية ( آية الله، روح الله). فهل نزل عليهم منشور من رب العزة يعطيهم هذه الصفة ؟   هو إفتراء على الله جل وعلا ، وتدمير للعدل بين الناس بتمييز قوم عن قوم بالافك والبهتان .

2 ـ فى دولة الاسلام ترى أولى الأمر هم أصحاب الاختصاص والخبرة ، وهم خدم للمجتمع ويتعرضون للمساءلة والثواب والعقاب ، وهو نفس الوضع فى الدول الديمقراطية الغربية . فى دين الاسلام لا تمييز للنبى عن قومه فى المسئولية والمساءلة مع أنه يُوحى اليه . وقد كان الناس يخاطبون أنبياءهم بأسمائهم المجردة  قائلين يا موسى ويا عيسى :(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى) (55) (61)( البقرة )(قَالُوا يَا مُوسَى )(22) المائدة) ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ) (112) المائدة ). لم يقولوا لموسى يا صاحب الجلالة ولم يقولوا لعيسى يا أية الله وروح الله أو سعادتك أو معاليك أو فخامتك أو قداستك .!!. أكثر من هذا ففى الدعاء لرب العزة نقول له جل وعلا ( أنت ):(أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) البقرة )( أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) الاعراف)( أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) يوسف) ( لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ (87) الأنبياء )( قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ) (41) سبأ ) . أى تدعو الخالق جل وعلا فتقول له ( أنت ) ، ولكن لو قلت لواحد من ( أصحاب الفضيلة ) أو من ( أصحاب الجلالة وأصحاب السمو ) : ( أنت ) (فأنت ) يومك أغبر ..!!

القسط فى الثروة ( العدل الاجتماعى ـ العدالة الاجتماعية ـ التكافل الاجتماعى )

الموارد فى هذه الأرض هى للبشر على قدم المساواة وطبقا لتكافؤ الفرص ، وهذا ما جاء فى القرآن الكريم عن الأرض :( وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)( فصلت )، الإيجاز والإعجاز فى قوله جل وعلا عن الأرض (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) فهى سواء لمن يبحث عنها ويكدّ للحصول عليها . والله جل وعلا خلق الناس متفاوتين فى المواهب والقدرات والصفات ، بما يؤثر فى إختلاف أوضاعهم الاقتصادية ، لذا فمن الاختبار الالهى أنه جل وعلا جعل البشر متفاوتين فى الرزق ( وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ )(71)( النحل ). ولعلاج هذا نزلت تشريعات الاسلام فى رعاية الفقراء والمساكين واليتامى وذوى القربى وأبناء السبيل والسائل والمحروم . وهذا جانب هائل فى التشريع القرآنى تتحقق به العدالة الاجتماعية.
ثالثا : بين العدل المطلق والعدل النسبى فى التطبيق

1 ـ العدل المطلق يتطلب المستحيل ، وهو أن يعرف القاضى سرائر الشاهد والمتهم والمحامى ..الخ . هذا لو كان القاضى متحريا للحق والعدل ، وكان القانون فى حدّ ذاته ينطق فى نصوصه بالعدل . لذا فإن العدل المطلق لا يوجد إلا يوم القيامة ونحن بين يدى الذى يعلم خائنة ألعين وما تخفى الصدور . يقول جل وعلا يصف ملمحا من ملامح هذا اليوم : (  يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ )(20)( غافر ) .

2 ـ وإذا كان تحقيق العدل المطلق مستحيلا فى هذا العالم فإن المطلوب تحقيق أكبر نسبة من العدل بقدر المُتاح من إمكانات البشر . وهذا يتطلب أولا وقبل كل شىء التقوى ، أو بتعبيرنا المعاصر ( الضمير ). يجب أن يكون الضمير حيّا ويقظا لدى القائم بالتشريع والذى يحكم فى مجلس القضاء والشاهد والمُدعى والمحامى و المتهم . يجب أن يكون منهج القسط والعدل حاضراً لدى المسلم .

3 ـ ولأن الأمر مرتبط بالتقوى والضمير فإنّ الله جل وعلا ـ الذى يعلم ما فى الصدور ـ يجعل ميزان القسط متناهى الحساسية، بمعنى أن القسط المطلوب هو بنسبة مائة فى المائة فإن تراجعت النسبة إلى 99% أصبح الحكم ظلماً، طالما دخلت فيه نسبة الواحد فى المائة من الظلم. نفهم هذا من التفرقة اللغوية والقرآنية بين كلمتين "قاسط" و"مقسط". فالقاسط هو الذى يحول الحكم لهواه ولو بنسبة 1%، والله تعالى يقول عن القاسطين ﴿وَأَمّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنّمَ حَطَباً﴾ (الجن 15) أما المقسط فهو صيغة مبالغة من القسط أى الذى يراعى القسط دائماً وأبداً. وذلك المقسط يستحق حب الله تعالى، يقول تعالى ﴿إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ﴾ وقد تكرر ذلك فى القرآن ثلاث مرات (المائدة 45، الحجرات 9، الممتحنة 8) فعلى المؤمن الذى يتقى ربه جل وعلا أن يختار لنفسه منزلته عند الله تعالى، هل يكون من المُقسطين المسلمين الحقيقيين الراشدين أم من القاسطين الظالمين ﴿وَأَنّا مِنّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـَئِكَ تَحَرّوْاْ رَشَداً. وَأَمّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنّمَ حَطَباً﴾ هل يكون ممن يحبهم الله تعالى ﴿وَأَقْسِطُوَاْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ﴾ أم من الذين يكرههم الله تعالى؟

اجمالي القراءات 18128