هي مهزلة مصرية

كمال غبريال في الثلاثاء ١١ - يونيو - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 

منتهى الظلم واللاموضوعية أن نسند كل ما يحدث بمصر الآن من مهازل للإخوان وأذيالهم، فبالإضافة إلى أن هؤلاء محط نيران المعارضة الآن مصريون جنسية ونشأة على الأقل، فإنهم بدرجة أو بأخرى أبناء البيئة المصرية، بغض النظر عن اتهاماتنا أو ادعاءاتنا بأنهم أسرى الأيديولوجية الوهابية المستوردة، لكن الأهم والواضح بساحة المهزلة المصرية الآن أن الجميع دون استثناء يعزف نغمات نشاز، يشارك بها في دفع هذا البلد لا نقول إلى طريق مجهول، ولكن إلى طريق رأينا ملامحه في العديد من الدول المحيطة، بدءاً من الصومال وأفغانستان وصولاً لإيران والسودان وليبيا.
من صوتوا لمرشح الإخوان من (عاصري الليمون) فعلوا ذلك على أساس أن يتخلى الإخوان عن فكرهم الذي جاهدوا من أجله لثمانية عقود، وأن يسيروا وفق أهواء هؤلاء الهلامية، مستندين في ذلك إلى تطمينات إعلامية ودعائية لا محل لها عند الإخوان من الإعراب، كما تقتضي الموضوعية صرف النظر عن دعاوى "سرقة الثورة" التي يرددها الجانب المندحر، فنكبة الثورة المصرية ولدت قبل بدايتها، حين تعلقت قلوب الشباب الواعد الذي أرهص بالثورة بمحمد البرادعي، الذي بدلاً من تأسيس حزب ليبرالي يعمل في الشارع المصري لنشر الأنوار، وخلق قاعدة جماهيرية منظمة ومؤمنة بالحداثة، لجأ استعجالاً أو جهلاً لجمع مختلف صنوف المتثاقفين المضروبين بالهوس العروبي واليساري والظلامي باسم تحالف كل أبناء الوطن ضد ديكتاتورية وفساد نظام مبارك، فكانت النتيجة أن جنى الثمار الفريق الأكثر تنظيماً والأقدر على توظيف سذاجة السذج، ليكونوا أدوات له تصل به حتى عرش مصر، سواء بدراية أو عدم دراية منهم بالمسير والمصير. . الآن وقعت الواقعة، وسوف نطفح جميعاً كأس دمائنا المسفوحة حتى النهاية، فالإخوان مثل القانون "لا يحمون المغفلين"، والحقيقة لست أدري طبيعة وتوصيف ما يحدث ليس في مصر وحدها، ولكن في كل الشرق الكبير الآن، هل هو صراع سيتمخض عن الجديد الذي يرث الأرض، أم هو صراع الديناصورات المنقرضة حتى يفني بعضها بعضاً، ويدهس تحت أقدامه أثناء ذلك الأبرياء والمسالمين المستضعفين، فلا يخلف سوى الخراب الشامل؟!!
من الطبيعي أن يستقر الإخوان مطمئنين فوق صدورنا، طالما يتصدر زعامة المعارضة مثل حمدين الصباحي، فدودة الحنجورية الناصرية تفتك بالعقول، إن كان ثمة عقول، ولاشك عندي أن فلول مبارك أشرف بما لا يقاس من فلول الناصرية أهل النكسات وسرقة مجوهرات العائلة المالكة، من أهدروا كرامة الجيش المصري في اليمن وحرب 56 وكارثة 67، فالناصرية داء عضال لو شفينا منه لن يظل على الساحة تاجر شعارات ولا ظلامي تاجر دين، فإذا كان الإخوان ينكرون الوطنية قولاً حتى الآن على الأقل، فعبد الناصر أنكرها فعلاً، فغير علم مصر، وغير أيضاً اسمها لتصير إقليماً جنوبياً في إمبراطورية زعامته الموهومة، لذا فإني أزداد مع الوقت يقيناً بأن هذا الشعب لكي يشفى مما هو فيه لابد وأن يشرب الكأس التي عشقها وأدمنها حتى النهاية، حتى يكره الحياة واليوم الذي تعرف فيه على هذا الكأس، فلقد تعود المصريون على الفصام بين الفكر والحياة العملية، فدأبوا الذهاب بأفكارهم أي مذهب دون منطق أو عقلانية، لكنهم في حياتهم العملية يلتزمون الحدود والأصول التي تكفل لهم ولو الحد الأدنى من البقاء أحياء يرزقون، حتى أتى للسلطة المتعصبون للفكر الذي نعتنقه جميعاً، فإما أن نهجر ذلك الفكر، أو نتجرع ما سيجره علينا عملياً، وعلينا أن "نفقد الأمل" في الخلاص قبل أن يتحقق هذا، فلن يخلص مصر مثلاً من كابوس الإخوان "تحالف سمك لبن تمر هندي"، مثل التحالف الذي أسقط نظام مبارك، فعلاوة على شبه استحالة هذا عملياً، إلا أنه لو حدث فستكون العاقبة هذه المرة أشد بؤساً.
المشكلة أن أغلبية كاسحة من المصريين من مختلف الانتماءات السياسية والدينية يتوحدون مع الإخوان والسلفيين في المنهج الفكري، والاختلافات فقط في التفصيلات والاستخلاصات الناتجة عن إعمال هذا المنهج، و المقصود بالمنهج الفكري الأسلوب الذي نتوصل عن طريقه لرؤية وفهم أنفسنا والعالم من حولنا، والذي يعتمد على استنطاق نصوص مقدسة، في ظل رؤية قدرية للحياة، مع ملاحظة أنه حتى الجهلة بالنصوص يقلدون المجتمع، أي مرتبطون بالعادات والتقاليد التي تشكلت في ظل هذا المنهج، فمثلاً يقول الإخوان أنهم يؤمنون بالحرية، لكن لا حرية للكفار أعداء الله، كما يؤمن العروبجية أيضاً بأن "الحرية كل الحرية للشعب، ولا حرية لأعداء الشعب"، ونفس هذا يقوله اليسارجية على حرية البروليتاريا وذبح البرجوازية، والحقيقة أن أعزائي العروبجية واليسارجية قد يكونون دعاة قيم ومبادئ نبيلة وعظيمة كثيرة، لكن من الهزل الذي لا جد فيه أن يدَّعوا أنهم طلاب حرية، فهذا آخر ما يمكن أن يتصفوا به!!
يطالعنا بعد مأساة خطف جنود مصر في سيناء مثل هذا المانشيت: "تعهد اللواء أركان حرب أحمد وصفى، قائد الجيش الثانى الميدانى، بعدم خروج القوات المسلحة من سيناء، قبل تطهيرها من البؤر الإجرامية". . كلمات في كلمات، ونحن شعب يقدر ويعشق الكلمات الجميلة المنمقة أو الحماسية، ويتصور فيها القدرة على الفعل، بل ويتصور أنها فعل في حد ذاته وفقاً لثقافته الشفاهية، فيعيش فكرياً في عالم مواز من الكلمات والشعرات الجميلة، وهذا السر وراء الهيام حتى الآن بعبد الناصر وعصره، رغم أنه كان عصر المصائب والتجريف لكل ما في البلاد، لكن الكلمات التي كانت تطلق في سماء مصر كانت رائعة بحق، لكننا الآن في هذه الظروف المصيرية لا ينبغي أن نأخذ بعد الآن بالكلمات، لتكون الأفعال وحدها هي الفيصل.
فمثلاً ما أروع كلمات بعض من يلعبون دور حمائم الإخوان، المكلفون بتخدير الذبيحة حتى يتم التمكين، ليتم بعد ذلك ذبحها وسلخها بهدوء وسلاسة، أيضاً شتان ما بين الرؤية الوطنية الحقيقية ورؤية أصحاب "الخلافة الإسلامية" و"أستاذية العالم"، فالحقيقة التي لا يعلنونها لكن مواقفهم تفضحها، أننا مثلاً نرى وجود الإرهابيين في سيناء احتلالاً وتهديداً، وهم يرونه زخيرة ومخزوناً استراتيجياً، كان بعضهم صريحاً إلى حد التصريح باستخدامه ضد الجيش المصري، إذا ما وصل دعاة الدولة للمدنية للحكم بأي طريق حتى لو كان بصندوق الانتخاب، ثم أليس من المنطقي أنه عندما يَصدر عفو عن محكوم عليه بتهمة الإرهاب، ليعود من فوره للإرهاب، عندها يجب إعادته للسجن ومعه في نفس الزنزانة من أصدر قرار العفو عنه. . الشعب المصري طوال تاريخه يتذمر ويتشكك في قدرة حكامه على حسن إدارة البلاد، لكنها المرة الأولى التي يضاف إلى هذا التشكك في نواياهم وإخلاصهم،. . كان عبد الناصر بلاشك فارس الكلمات، وكان السادات فارساً في الإنجازات، وجاء مرسي ليس له في هذا ولا ذاك!!
لا حدود لتخوم المهزلة المصرية، إذ نجد معالمها في كل جوانب حياتنا وقضايانا، إذ يبدو أنه من العبث التوسل للمجتمع المصري لتناول أي موضوع بعقلانية، سواء موضوع تطوير خط القناة أو سد النهضة في إثيوبيا أو سواها، فالتهريج في بلادي سيد الأخلاق!!. . سد النهضة الإثيوبي الذي هب "تسونامي الحناجر المصرية" بسببه ومازال يهدر ويعصف، هو لتوليد الكهرباء فقط وليس لاستغلال مياه النيل للري، ومشكلة الفترة اللازمة لملء بحيرته يمكن حلها بالتفاهم مع إثيوبيا لتكون تدريجية، ونعتمد خلالها على مخزون بحيرة ناصر إن لزم الأمر، مع ملاحظة أننا ملأنا بحيرة ناصر بعد بناء السد العالي دون أن يتأثر منصرف المياة للأراضي المصرية بدرجة مجحفة، فهناك في أغلب السنوات فائض مياه يلقى في البحر، لذا فالدراسة العلمية الرصينة هي وحدها الحل، كما أن تحويل مجرى النيل الأزرق الذي يتحدثون عنه الآن عبارة عن تحويل لمسافة لن تزيد عن نصف كيلومتر على شكل قوس حول منطقة إنشاء السد، ليصب في ذات مجراه الممتد لآلاف الكيلومترات، لكن عندما يقترن جهل الشعوب بتهوس النخب، فإن أي قضية تتحول إلى مزايدات وصراخ وتشنجات، ويدلي كل "من هب ودب" بآراء نشاز فيما لا علم له به، يحدث هذا سواء كانت القضية "فلسطين السليبة"، أو قضية تنمية إقليم القناة، أو "قضية مياه النيل"، ففي الأخيرة نجد عبقرياً يقول هي الدبلوماسية الشعبية لحل مشكلة سد أثيوبيا، وعبقري آخر يقترح تدخل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وعبقري همام من عصر العنتريات الناصرية يطالب باستخدام الصواريخ لهدم أي مشروع على النيل، هذا بالإضافة بالطبع لتقلصات الدودة المستوطنة في العقلية المصرية، والتي تعزو كل صغيرة وكبيرة تلم بمصر إلى مؤامرة إسرائيلية أمريكية، تلك الصخرة أو "حائط المبكى" الذي يحلو لنا الوقوف خلفه في كل طريق، نلطم الخدود على الاستهداف وتآمر كل العالم علينا، بدءاً بمستوى حادث مهاجمة أسماك القرش لبعض السائحين في البحر الأحمر، وما شابه من أساطير "يشيب لهولها الولدان" كما يقولون!!
نفكر في كل الاتجاهات، فيما عدا استخدام العقل والعلم لحل مشاكلنا أياً كانت طبيعتها وبواعثها أو حتى المحرضين عليها استهدافاً لنا، كأن نسعى للتفاهم مع دول منابع النيل، لتحقيق المصالح المشتركة لكل شعوب واديه من جنوبه لشماله، وربما قبلها يلزم أن نكف عن استفزاز قادة تلك الشعوب بتهديداتنا، وبأحاديثنا عن كونهم مجرد أدوات تتلاعب بها قوى عالمية شريرة، وليسوا قادة يسعون لتحقيق صالح شعوبهم ولابد من التفاهم معهم لتحقيق مصالح الجميع. . قليل من العقلانية لا يضر يا سادة، لكن الحقيقة أننا شعب يعشق "الموالد"، "مولد سيدي إقليم قناة السويس"، و"مولد سيدي الجندي المخطوف"، والآن "مولد سيدي سد النهضة الإثيوبي"، وكلما عمر "المولد" بالإثارة والصياح وتوابل نظرية المؤامرة، كلما كان "المولد" أكثر تشويقاً وازدحاماً بالرواد والمريدين.
kghobrial@yahoo.com
أ المصدر ايلاف  
 
اجمالي القراءات 7645