المجلس البلــدي
كان الحديث بيننا حول ذلك الشخص الذي يترشح لانتخابات ما ، ولنقـل مثلا لانتخابت رئاسة البلدية أو لتحمّل أية مسؤولية أخرى بها ، وكيف تكون شخصية ذلك المترشح ، من ذلك النوع الرزين، المتحضّر، المتفائل، المنفتح والمنصت للجميع، وربما المسرف في توزيع الوعود ، وباختصار شديد كيف يكون بمثابة تواضع يمشي على رجلين ، وكل هذا وذاك أثناء الحملة الإنتخابية.
وإذاكتب الله وثقلت موازين مترشحنا بسبب أولئك المنتخِــبين الذين وضعوا فيها ثقتهم وآمالهم وتطلعاتهم ، فمن العجب العجاب ، كيف تفعل فيه وبه تلك الأفاعيل أفاعيلها غير المعروفة !?وكيف تحوله بين عشية وضحاها من أحوال تلك الدار الأولى الواقعة في منطقة ( فترة الحملة الإنتخابية ) إلى أحوال هذه الدار الثانية أو الدار الأخرى التي تقع في المنطقة المعروفة بفترة ما وراء الحملة الإنتخابية .
وهكذا، وما أن يتيقن الرجل أنه ليس في حلم، وأنه أصبح فعلا مسؤولا على شؤون البلدية - مثلا - حتى يختفي عن الأنظار، ويصبح من أولئك الذين لا تدركهم الأبصار، بل فإنه يصبح من تلك الشخصيات التي لا تثبت أمام عدسة العين، بل إنها تـُلمح تلميحا، وعن بعد ، وأنها لا تكاد ترى حتى تتحول صورتها الباهتة المهزوزة إلى مصير خبر كان، أو إلى تلك الشهب أو الجواري الكنـّس التي لا تكاد تترك أي أثر حتى تكون قد غابت عن العين ومنذ أقل من لحظة.
وإذا أنت حاولت يوما أن تتقرب من ذلك الرئيس المسؤول الذي كان في يوم من الأيام متسوّلا أصواتا بأسلوب يتحدى كل ثمن ، أي ثمن ، إذا حاولت ذلك بواسطة القلم، فكأنّ كتابك الذي تكتب وتصبّ فيه كل آمالك وآلامك وانشغالاتك وتطلعاتك ، بل وحتى صيحاتك الإستنجادية ، كأنه يكون وقع من عل وفي ... لا قعر له .
أماإذا أنت تشجعت وتجرأت يوما والتمست مقابلته مباشرة بمكتبه ، فتيقن غير حانث أنك ستجده غائبا، وفي جلسة بقاعة أبوابها موصدة .
وإن فعل تداعي المعاني ذهب بي بعيدا إلى أن تذكرت جزئية من حديث صريح مباشر وهادف قاله يوما ذلك الرجل الآخر الذي حظي بانتخابه رئيسا لبلدية ما ، حيث وقف أمام مناصريه ومهنئيه قائلا لهم - من على ظهر سيارة - ما يلي كأول خطاب له :
" أصدقائي ... أنا لا يسعني إلا أن أشكركم جزيلا من صميم القلب لهذه الثقة التي منحتموني إياها . إنه لشرف عظيم لي أن أتولى رئاسة بلديتكم ، وأتمنى من الصميم أن أكون في المستوى ، وكما أتمني من الصميم أيضا أنكم لم تخطئوا في ترشيحكم لي لهذا المنصب ، وأن ظنكم لا يخيب فــيّ . وكما جاء في تصريحاتي السابقة أكرر بإن لي النية الخالصة لبذل قصارى الجهود للإهتمام بقضاياكم وانشغالاتكم ، وأصرح لكم ولا أخفي عليكم في نفس الوقت أني لست مستعدا على أن أورث لنفسي سلبيات الأرق والقلق أو قرحة المعدة. والسلام عليكم "
* وعلى ذكر هذه التصريحات المباشرة التي تنبئ عن طبيعة هذا الشخص المقدم على تحمل مسؤولية رئاسة بلدية ، وتنبئ عن طريقة عمله ومنهجيته الحضارية المتزنة ، تذكرت شعرا خفيف الظل ، فيه مسحة من دعابة ، لعله يكون ذا صلة ما بمسؤولية رئاسة البلدية أو غير البلدية في أي زمان ومكان ولعله سيكون حاملا لنصائح ما ؟ والشاعر هو ذلك المشهور منذ القرن الماضي المنصرم، ألا وهو بيرم التونسي تحت عنوان " المجلس البلدي " .
قصيدة المجلس البلدي للشاعر بيرم التونسي
********
قد أوقعَ القلبَ في الأشجانِ والكَمَدِ
هوى حبيبٍ يُسَمّى المجلس البلدي
أمشي وأكتمُ أنفاسي مخافة َ أنْ
يعدّهـا عاملٌ للمجلسِ البلـدي
ما شَرَّدَ النومَ عن جفني القريحِ سوى
طيف الخيالِ خيال المجلسِ البلدي
إذا الرغيفُ أتى ، فالنصف ُ آكُلُهُ
والنصفُ أتركُه للمجلس البلدي
وإنْ جلستُ فجَيْبِـي لستُ أتركُهُ
خوفَ اللصوصِ وخوفَ المجلسِ البلدي
وما كسوتُ عيالي في الشتاءِ ولا
في الصيفِ إلاَّ كسوتُ المجلسَ البلدي
كَــأنَّ أٌمّي بَلَّ اللهُ تُربتها
أوصَتْ فقالت : أخوك المجلس البلدي
أخشى الزواجَ إذا يوم الزفافِ أتى
أن يَنْبَرِي لعروسي المجلسُ البلدي
ورُبَّمَا وَهَبَ الرحمنُ لي ولداً
في بَطْنِهـا يَدَّعيه المجلس البلدي
وإنْ أقمتُ صلاتي قلتُ مُفتتحاً
اللهُ أكبرُ باسم المجلـس البلــدي
أستغفرُ الله حتى في الصلاةِ غَدَتْ
عِبادتي نصفُها للمجلـس البلـدي
يا بائعَ الفجلِ بالمِلِّيـمِ واحدةً
كم للعيالِ وكم للمجلسِ البلدي
* ويبدو في الأخير أن هناك ذلك المسؤول الذي يقع في شراك نشوة التعالي والغرور، وذلك الآخر الذي يقع قلبه صريع الأشجان والكمد في سبيل المجلس البلدي ، وهو الذي يستميت في سبيل خدمة الآخر .