لعل دراويش "القضية الفلسطينية" هم أسوأ أنواع الدراويش بمنطقة الشرق الأوسط بصورة عامة، وبمصر بصورة خاصة وخطيرة الآن، فمن الجلي الآن لكل ذي عينين قادرتين على الرؤية من خلال الضباب الذي يشيع الآن في المنطقة، أننا قد صنعنا من هذه القضية حبلاً نشنق به أنفسنا، وليس فقط أن تكون أغلالاً تكبل أرجلنا، وصخرة تسد أمامنا طرق حياة تليق بالبشر، فعندما يهيم العروبجية والمتأسلمون عشقاً في التنظيمات الإرهابية الفلسطينية التي ترفض حل الدولتين وتريد إبادة اليهود، يكون من الطبيعي والمتوقع أن يأتي هؤلاء الإرهابيون إلينا، ليس فقط لقتل أبنائنا وخطفهم، ولكن أيضاً لكي يتبرزوا ويتبولوا وهم يطالبون بسيناء باعتبارها أرضاً فلسطينية، ناهيك عن استبدالها الفعلي بجبال تورا بورا، لتكون ملاذاً آمنا للإرهاب العالمي برعاية إخوانية حانية!!
الآن ما لم تطهر "جبهة الإنقاذ" نفسها من أمثال "حمدين الصدامي" ستظل مجرد فريق للتهريج والهرتلة لا يصلح إلا للنباح على قارعة الطرق، وما لم يتبرأ "التيار الشعبي" الذي يضم خيرة شباب الثورة المصرية من شخص هذا البطل الحنجوري وأفكاره، فلن يكون غريباً إذا اعتبرهم الشعب هم أيضاً "طابوراً خامساً" لحماس في مصر، هنا يحق لنا أن نتساءل عن أشاوسنا وأبطالنا العروبجية الذين كان صدام والقذافي يمولانهم بالدولارات، هل تمولهم الآن حماس التي صاروا المتحدثين باسمها والمدافعين باستماتة عنها، رغم الدماء المصرية التي تخضب أياد مجاهديها؟. . سؤال يحتاج لبحث وإجابة شافية!!
• يحبطني "الملحدون الشباب" أصحاب الصوت الذي بدأ يعلو هذه الأيام بالتوازي مع تصاعد هجمة الهيمنة الدينية السلطوية المنغلقة، إذ يبدو الكثيرون منهم كما لو كانوا مجرد "دراويش ضد"، فهم هكذا لا يختلفون في المنهج عن "دراويش التجارة بالإيمان"، يحدث الإحباط حين لا أجد لديهم أي جديد حقيقي، أو ألمس ذلك إلإيمان المفتقد في بلادي بالإنسان والإنسانية، إذ يستوى الأمر هنا إن كانوا "مؤمنين متعصبين" أم "ملحدين متعصبين"، لأن العلاقة بالإله شأن خاص لكل إنسان لا يعني أحداً غيره، وإذا كان "المؤمن" يُعَرِّف نفسه أمام الآخر بما "يؤمن" به، ونستطيع أن نستدل منه عليه ولو نظرياً حتى نرصد سلوكه العملي، فهذا الفخور والحريص على تقديم نفسه بصفته "ملحداً" يطلعنا على "نفي لإيمان"، أي على مجرد فراغ في مساحة ما في شخصيته المعنوية، دون أن يدلنا على محتوى إيجابي نستطيع أن نرى فيه ما قد يستحق الاهتمام أو التقييم سلباً أو إيجاباً. . من أعنيهم شباب تملؤه الحماسة والغضب والرفض لكل ما هو كائن، رفض للأفكار والتقاليد العتيقة المفارقة للعصر، رفض للحجر على حرية وإنسانية الإنسان باسم الإله زوراً وادعاء، ورفض لحجم الفشل الهائل لأجيال الآباء والأجداد في تأسيس حياة جديرة بأن تعاش، لكنهم عجزوا حتى الآن عن التقدم خطوة واحدة بعد هذا الموقف السلبي الرافض، عجزوا عن النظر داخل ذواتهم لإعادة اكتشاف تلك المكنونات المكبوتات التي ظلت طويلاً مطمورة تحت ركام النفاق والقهر الأخلاقي والعقائدي لمجتمعاتنا، ليجدو فيها ما قد يستحق العناية والرعاية والجدارة بتحريرها وصولاً لحياة أجمل وأرقى، لهذا توقفوا عند حدود الموقف السلبي الرافض، واستكملوا المتبقي من مساحة الفراغ الحادث في ذواتهم باعتناق "الضد للأخلاق التقليدية" السائدة، ليكونوا أخلاقياً أيضاً (كما هم إيمانياً) أسرى الضد، هم يبدون هكذا مقلدين متبعين كشأن قطاعات المجتمع التقليدية التي يثورون عليها ويتحدونها بما يعلنونه من "إلحاد"، فالاتباع الآلي العكسي هو "تقليد" لا يمكن أن يعد تحرراً أو حرية. . ربما علينا الصبر قليلاً أو حتى كثيراً على "دراويش الضد" هؤلاء، فربما يلزمهم بعض الوقت لتطوير رؤاهم إلى آفاق إيجابية تعرف للحرية معنى وأبعاداً تتجاوز موقف الهدم والرفض، آفاق تفضي بنا لمساحات وأبنية جديدة تختلف جذرياً عن كل ما كان.
• من الواضح منذ بداية التظاهرات الفئوية في عهد مبارك، ثم تفاقمها بعد الثورة التي طرحت شعار "عيش وعدالة اجتماعية"، أن الناس يضيقون بمستوى حياتهم المتدني، لكنهم لا يجدون سبباً لذلك التدني غير ظلم الحاكم وفساده، ولا يرون حلاً لأزمتهم غير أن يجزل الحاكم لهم من عطاياه (بلغة العصور البائدة)، لذا نجدهم يطالبون ويطالبون، فيما يغيب عنهم تماماً مفاهيم مثل ضرورة زيادة الإنتاج، وأهمية الإدارة الناجحة لإعادة ترتيب الدولة، ليتاح للجميع المشاركة بالجهد المثمر في تحسين أحوال الحياة. . مازال جل الشعب المصري يعيش ثقافة "دراويش" و"تنابلة" السلطان، ومازالوا ينظرون للحاكم على أنه "ولي النعم" المُطَالب بالعدل في توزيع "الثريد واللحم". . ربما في مصر فقط وفيما يماثلها من شعوب تجد من يتجادلون حتى الآن حول الاشتراكية والرأسمالية، فيما سقطت جميع النظم الاشتراكية سقوطاً ذريعاً، وهرولت شعوبها لتمسك بسراويل الدول الرأسمالية التي تجلس الآن على قمة العالم. . الويل لنا من "دراويش الاشتراكية"!!
• ما أكتشفه يومياً من تدهور حالة "دراويش الكنيسة الشنودوية" فائقة الانغلاق والتواكل والانسحابية تجعلني مضطراً لتغيير رأيي في إمكانية تطوير خطاب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ليناسب متطلبات الحياة والمرحلة، ولينتج مواطناً متوافقاً مع العالم ومع نفسه دون فصام ونفاق، فالتطوير لا يكون إلا لما هو صالح للتطوير، أما وقد صار الخطاب الكنسي مهلهلاً بكامله بالصورة التي هو عليها الآن، فإن الحل الوحيد لإنقاذ الأقباط من "مستنقع تعاليم الكنيسة"، هو التزام الإكليروس وأذنابهم الصمت التام، والتوقف تماماً عن التعليم والوعظ، والاكتفاء بالطقوس الطويلة كيوم القيامة يشغلون بها وقتهم ويرتزقون منها. . تقوم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بسلب أبناءها طبيعتهم الإنسانية الحية على مرحلتين، الأولى مرحلة البرمجة العقلية وتبدأ من الطفولة في مدارس الأحد ثم اجتماعات الشباب، لتبدأ بعدها مرحلة التجميد Freezing أو التكلس، عن طريق الإغراق في الطقوس اللانهائية، فيصير الإنسان غير قابل لأي تفكير حقيقي أو نقد أو تأمل للواقع الذي حوله في شتى المجالات، ويصبح الفرد مثل الدمية الخشبية لا تتحرك إلا بالخيوط التي يمسك بها الآباء والأسياد المقدسين، بحيث أن أي نقد لهؤلاء يسبب انزعاجاً وهلعاً للقبطي التقي، حيث يتصور عندها أن هناك من يحاول قطع الخيوط بينه وبين تلك الأصابع المقدسة التي ارتبط مصيره بها. . الحقيقة أن ما يفعله الإخوان المسلمون في الشباب لا يقارن بما تفعله الكنيسة، مع الفارق بالطبع في نوع التعاليم ونتائجه على الفرد، ولعل أبسط مؤشر على هذا الفارق ما يشاع الآن من شتيمة لكوادر الإخوان باعتبارهم "خرافاً"، في حين تقنع الكنيسة الناس بأنهم "خراف" ويتقبلون هذا اللقب بسعادة واقتناع وتقوى.
لقد كانت أربعون عاماً الماضية كافية لأن يتحول "نظير جيد" إلى "صاحب القداسة والعظمة معلم الأجيال وبابا العرب"، وتتحول الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إلى ساحة تكاد تخلو إلا من المغيبين والفاسدين من كل لون ونوع، مع الاحترام بالطبع لعناصر شريفة مستنيرة تائهة وحائرة الآن داخل أروقة الكنيسة الشنودوية، وهؤلاء الأخيرين نعرف شخصياً الكثيرين منهم، ونقدر عدم قدرتهم إلا على الهمس داخل الجدران المغلقة، حتى لا يجدوا أنفسهم طريدي كنيسة لا يكف قادتها عن عزف أناشيد المحبة والرحمة دون أن يكون لهم فعلياً من محتواها قلامة ظفر.
مثلاً مفهوم "لا طلاق إلا لعلة الزنى" عند الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الشنودوية، والذي أحال حياة آلاف الأسر القبطية إلى مأساة يندى لها جبين الإنسانية، ينطلق من تصور أن "المرأة" مجرد جسد للفراش، وأن الزواج هو عقد امتلاك "الذكر" لهذا الجسد "الأنثوي"، وبالتالي فالخيانة الزوجية فقط هي ما تؤدي تلقائياً لفسخ هذا العقد، وأن لا شيء بعد ذلك أو غيره يؤدي للإخلال بموضوع التعاقد، مادام الجسد الذي تم التعاقد على امتلاكه مصوناً، ولنلاحظ أن عقد الزواج الكنسي يسمى "عقد أملاك". . فالرجل يتملك جسد (جثة) زوجته، ولا يتركها إلا إذا خانت وأعطت هذا الجسد لذكر آخر. . هو إذن غياب مفهوم العلاقة الزوجية بمعناها الشامل، الذي يتضمن التفاهم والتوافق النفسي والفكري والسلوكي، بما يعني حق أي من الطرفين في إنهاء علاقة الزواج في حالة تعذر أو غياب التوافق واستحالة استمرار العشرة، هي مهمة تبدو عسيرة وإن لم تكن مستحيلة أن تتطور الكنيسة بمفهومها للزواج من "عقد امتلاك "ذكر" لجثة "أنثى" إلى "تعاقد على حياة مشتركة بين إنسان وإنسانة"، فما أفهمه أن "عقد الزواج المسيحي" ليس مجرد عقد جنسي حتى لا يفسخه إلا خيانة جنسية، خاصة وأن صلوات الإكليل تتضمن وصايا إنسانية واجتماعية عديدة للزوجين، والمفترض أن الإخلال بهذه الوصايا يوجب أيضاً فسخ عقد الزواج. . لا نتحدث إلى "دراويش شنودة" من منطلق إنساني علماني يحترم إنسانية الإنسان، ويعتبر الزواج علاقة اجتماعية سابقة ومتجاوزة لكل الأديان والعقائد، لكننا نقول لهم من منطلق ذات أرضيتهم: فلترجعوا إلى المسيحية التي تتحدثون باسمها يا أصحاب الغبطة والقداسة والنيافة، ولا يغرنكم أن لا تستشعر أغلبية الأقباط متاعب الأقلية مع قوانين الأحوال الشخصية، فتنقاد لتحريضاتكم وتنظر إليهم بنوع من الاستعلاء واللامبالاة، فإن هذا لا يدل فقط على افتقاد الإنسانية، وإنما أيضاً على الاتصاف بالبلادة، ومن ذات المنطلق الديني وليس العلماني الذي اعتدتم على وصمه أقول لأحبائي وأهلي الأقباط: حاولوا التفرقة بين كلمات رب المجد يسوع المسيح التي هي روح وحياة وليست حرفاً مميتاً، وبين الفهم الشنودوي السلطوي المهيمن والمتغطرس لصاحب الغبطة بابا العرب ومعلم الأجيال نيح الله نفسه!!
هي الحقيقة أن مصر تعيش الآن عصر الدراويش من كل الأنواع والألوان، ويوم يستفيق هؤلاء أو يتيسر تنحيتهم جانباً إلى أن يستفيقوا، سنظل نترنح ونتخبط في كل ما يعترض طريقنا من صخور ومسالك، ولتكن ثورتنا القادمة إذن ثورة على كل أنواع الدراويش.
kghobrial@yahoo.com
المصدر ايلاف