.
5- العروج وتخاريف الوضاعين في التفاسير والتراث -المقال الخامس من سلسلة القرآن في مواجهة التراث

نبيل هلال في الإثنين ٠٦ - مايو - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

لتمام الفائدة ينصح بقراءة المقالات بترتيب كتابتها :

تدل مفردات الحديث في سورة النجم على أنها نزلت في بداية الدعوة حيث كان الكلام عن الوحي واتهام المشركين للنبي بالضلال والغواية وأنه ينطق عن الهوى , وفيها أيضا كلام الله عن أن الأمر على خلاف ما يظنون , فهو الوحي بجبريل شديد القوى الذي ظهر للنبي في أفق السماء بصورته الملائكية , ثم اقترب منه في صورة بشرية , وأخبر النبي من أمر الرسالة والتكليف بالدعوة , ثم السؤال الاستنكاري الذي يوجهه الله إلى المشركين عن شكهم فيما رآه النبي بأم عينيه ( أفتمارونه على ما يرى) , وكلمة (يرى) تؤكد أن المقصود بالرؤية هو جبريل وليس الله تعالى كما في بعض التفسير , فالله لا يراه أحد , هكذا قال عن نفسه . ثم يراه مرة أخرى عند سدرة المنتهى , وهي شجرة نبق مزروعة بالقرب من جنة(بستان) المأوى قريبا من مكة , وليست شجرة مزروعة في السماء السادسة وفروعها تمتد إلى السماء السابعة ويرويها نهرا دجلة والفرات كما جاء في تراثنا الأصفر.
العروج بحسب تخاريف الوضاعين: وإذا سلمنا جدلا بما اصطنعه الوضاعون من أن الإشارات الواردة في سورة النجم تخص حادثة العروج , فعليهم إيراد سبب واحد معقول-كما أسلفنا- يبرر عدم ذكر حوادث العروج والإسراء في سورة واحدة - على افتراض حدوثهما معا - وأن يبرروا سبب انتظار الوحى مرور نحو ست سنوات حتى يفعل ذلك. والمعضلة الثانية التي تعترض هؤلاء الوضاعين هي أنهم اضطروا لتحميل سورة النجم معان أخرى غير التي أرادها النص , فهي تتحدث - كما أسلفنا عن رؤية النبي لجبريل في مكة في أوائل البعثة النبوية . أما من حيث المعاني التي لفقها الملفقون فهي شديدة التهافت وتنافي العقل. والتخبط الشديد في تفاصيل العروج لَيدل على عدم صحة روايتها , فلو صح أن النبي طار إلى السماوات العلى لكان حدثا مرويا عن النبي بدقة برواية واحدة ثابتة يسجلها عنه معاصروه من الصحابة ممن شهدوا روايتها من النبي نفسه لأنها - على فرض حدوثها - تكون حدثا جللا وسابقة كونية فريدة يذكرها الناس جيلا بعد جيل , ولَمَا اختلف أحد في تفاصيلها على النحو الوارد في تراثنا الأصفر . وما أجلَّه من حدث يستحق إيراده في سورة بالتفصيل الذي لا يقبل ريبة أو تأويل .
واسمع معي من سورة النجم : "والنَّجْمِ إِذَا هَوَى{1} مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى{2} وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى{3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى{5} ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى{6} وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى{7} ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى{8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى{9} فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى{10} مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى{11} أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى{12} وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى{13} عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى{14} عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى{15} إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى{16} مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى{17} لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى{18}النجم 1-18. وبتأمل الآيات نرى أن المقصود هو جبريل , وهو المقصود بالدنو والتدلي (ثم دنا وتدلى ) , (ولقد رآه نزلة أخرى ) المقصود والمعقول منطقا أن يكون المراد هو جبريل الذي نزل أول مرة ( وظهر بالأفق الأعلى ) ثم نزل مرة أخرى . ذلك كله تفسير معقول ويؤكد بعضه بعضا , فالمقصود هو جبريل. ولا يصح بأي حال القول بأن المرئي عند سدرة المنتهى هو الله تعالى ,إذ ينفي إمكان أن يراه أحد من البشر , وأخبر اللهُ موسى باستحالة ذلك لما طلب أن يراه , ودُك الجبل لما تجلى الله عليه . والله يقول عن نفسه :"لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" الأنعام 103 , هكذا في وضوح لا يحتمل تنطع المتنطعين , كما يقول سبحانه :"وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ" الشورى 51 . هكذا في وضوح وقطع نافيين للريبة . ذلك ما يخبر الله به عن نفسه , لكن المفسرين يقولون خلاف ذلك , والمسلمون يصدقونهم ويكذبون الله , والله لا يحده أحجام أو أبعاد أو أشكال , ولما يقول الله عن نفسه (ليس كمثله شيء) ينبغي علينا ألا نمثله بشيء فنقول إنه دنا وتدلى- تعالى الله علوا كبيرا عما يصفون ,(ولقد رأى من آيات ربه الكبرى) , تلك هي رؤية جبريل وهو من الخلق النوراني, لذا كانت تلك (آية كبرى) , وصحيح أن نبي الله إبراهيم رأى الملكين اللذين جاءا إليه قبيل تدمير قرية نبي الله لوط لكنهما كانا في صورة بشرية. ويصف اللهُ جبريلَ بأنه(ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ) , أي ذو قوة هائلة ,لكن محمد يراه وهو بشر غير مهئ لرؤية مخلوق غيبي نوراني , فكان لابد من استواء جبريل على نحو ما كي يتمكن محمد من رؤيته , (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ) أي تحول بقدرة الله إلى صورة مرئية لمحمد البشري . وكلمة(استوى)في تفسير الطبري مثلا معناها (ارتفع واعتدل) , ولا معنى لارتفاع جبريل في هذا المقام لأنه مرتفع بالفعل و(هابط) من السماء إلى أفق الأرض فهو مرتفع بالفعل , مما يرجح معنى الاستواء كما نراه . "وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى{13} عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى{14}:والزاعم أن النبي قد رأى جبريل مرة أخرى عند سدرة المنتهى أي في العالم السماوي فإن النص القرآني يكذبه , فالله يقول :"ولقد رآه نزلة أخرى" , أي عند نزول جبريل مرة أخرى من السماء إلى الأرض مثلما نزل أول مرة وظهر له بالأفق الأعلى ثم اقترب حتى صار قاب قوسين أو أدنى , أي أن المرة الثانية التي رأى النبيُ فيها جبريل كانت في "النزول" مرة أخرى وليس في السماوات وإلا لم يكن ثمة معنى للقول (نزلة) أخرى . ويلوي المفسرون الحقائق لَيَّا كي تنطق بمرادهم الذي يخالف العقل والمنطق . وسنرى معا كيف يتخبط المفسرون عندما يعرضون لتفسير سورة النجم ,وهذا ما سنتناوله في المقال القادم . انتهى المقال الخامس ويليه بإذن الله المقال السادس -بتصرف من كتابنا ...بين القرآن والتراث -نبيل هلال هلال

 

اجمالي القراءات 17017