ننقل هذه الصفحة من كتاب ( العظات والعبر فى تاريخ مصر فى القرن التاسع عشر ..الهجرى ) للمؤرخ العلامة البحر الفهّامة أبى حُميد الأصبحانى الحرايزى الشرقاوى الأزهرى . عليه سحائب الرحمة والرضوان . آمين أجمعين أكتعين أبصعين .
يقول تحت عنوان : ( مؤامرة لقلب نظام الحكم ):
( ودخلت سنه عشرين بعد المائة التاسعة عشر ، وفى غُرّة شهر المحرّم : صعد قُضاة القُضاة الأربعة لتهنئة أمير المسلمين ...والمّرشد العام للمسلمين ، وكان فى صُحبة القضاء شيخ الأزهر الامام الأكبر الشيخ عنبر ، ومفتى الديار الشيخ بكّار وناظر الأوقاف الشيخ أبو عفاف ، بينما تغيب متولى الحسبة لإصابته بالحصبة . فأجلسوهم بالبهو المقابل لقاعة الاجتماعات بالقصر ، حيث كان أمير المسلمين فى إجتماع خاص مع المرشد العام للمسلمين ، وسمعوهما يتناقشان بصوت مسموع مفجوع ، ثم تحولت الأصوات الى صراخ ، ينذر بسوء المناخ ، ووصلت الى أسماع المشايخ الحاضرين ألفاظ فاحشة يندى لها الجبين ، يتبادلها المرشد العام وأمير المسلمين . وعلت وجوه المشايخ الحسرة ورأوا فى ذلك عبرة ، فكيف بعد صداقة سنين يلعب بهما ابليس اللعين ويختلفان حول بعض غنائم بالبلايين ؟
هذا ، قد اشتد الحال بأهل مصر بما لم يحدث من قبل فى أى عصر ، وانتشرت الفتن ، وساد الفقر والمحن ، وعظمت البليّة بين السنيّين والصوفية ، بعد هجرة الملايين من الطائفة المسيحية ، وبعد أن تهدمت أضرحة وكنائس ومساجد ومدارس . وقد انعدم الأمن وانتشر البلطجية ، وتسابقوا فى إلحاق الأذية بكل عجوز وشاب وصبية . وشاع خطف النسوان والبنات والغلمان ، وارتفع لهيب الأسعار مع كل ساعة بالليل والنهار . وقلّ المعروض من الرغيف وتقاتل الناس عليه فى كل شارع ورصيف . وصار شبح المجاعة يلوح فى كل وقت وأى ساعة . هذا بينما أمير المسلمين والمرشد العام فى شقاق وخصام ، وتبادل إتهام ، وبينهما بقية الأخوة فى انقسام . وقادة الجيش والشرطة منهمكون ، إذ هم يواجهون ، تيار الملتحين الساعى الى التمكين لتدعيم أمير المسلمين . وتيار الفلول مشغول بمصير الهالك ابن الهالكة.. ابن مبارك البقرة الضاحكة.
( ودخل شهر صفر من نفس العام . وقد ظهر ضباط ساخطون ، مخلصون وثوريون ، وعلى الأحوال ناقمون ، وكانوا فى حالة تربص وكمون ، والى ساعة الصفر ينتظرون . وهى عندما تصل الخصومة بين أمير المسلمين والمرشد الى منتهاها ، وهذا متوقع فى أى عشية أو ضحاها. )
( وفى ساعة هدوء وسكون وفى اليوم الميمون صحا المصريون ، وهم لا يصدقون ما يسمعون ، من الاذاعة والتليفزيون ، فقد قام إنقلاب عسكرى مجهول الهوية يرفع لواء القومية المصرية والسعى للاصلاح بعزيمة قوية . وبدأ باعلان الأحكام العرفية فى كل المدن والقرى المصرية . ووعد بتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية خلال فترة إنتقالية . وطمأن البيان الرأى العام بأن القادة الجدد سيحافظون على حقوق الانسان وعلى علاقات مصر الدولية وعلى معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية . وطلب البيان من المصريين مساعدتهم فى اصلاح الحال بالتوقف عن الاشاعات والقيل والقال ، لتحقيق الاصلاح بكل ما لديهم من عزم مُتاح .
ومع ذلك إنتشرت الاشاعات برغم الاحكام العرفية ، ووصلت أنباء الى القنوات الفضائية والمواقع الاليكترونية بأن الضباط الثائرين قد إعتقلوا المرشد وأمير المسلمين ، وكل أتباعهم الملاعين ، ثم جاء النبأ اليقين بإعدام المرشد وأمير المسلمين وكل القادة النافذين وكل الوعّاظ المشهورين واصحاب الافتاء منهم فى الدين . وفرح كل المصريين ، خصوصا الفقراء منهم والمساكين ، وحمدوا رب العالمين ، فقد تخلصوا من عدو لعين يقتل ويسرق وينهب باسم الدين . وبقتل أئمة النحس أصبح أتباعهم جسدا بلا رأس ، وقطيعا من الأغنام بلا كبش . وكان عددهم مئات الألوف ما بين نعجة وخروف ، وتم تجميعهم من كل قرية ومدينة وهم فى حالة مهينة ، ثم نقلوهم الى معسكرات توطين ، فى حلايب وشلاتين ، وأصبح مطلوبا منهم الاقامة الجبرية لتعمير الصحراء وإقامة البنية التحتية بدلا من الانشغال بفقه ابن تيمية وابن قيم الجوزية .
ويقال بأن الضباط الثوريين الوطنيين قد درسوا ما فعله محمد على بالمماليك ، وعزموا على تنفيذ نفس الخطة مع أولئك الصعاليك .
وبعدها كلّف الضباط الثائرون حكومة خبراء بإصلاح الدستور والقانون ، لتأسيس دولة الحرية فى الرأى والدين لكل المصريين ، ولاقامة العدل ورعاية الفقراء والمساكين . وخلال مدة معقولة تمّ الاصلاح بسهولة . بعدها تم انتخاب مجلس للشعب ثم رئيس وحكومة لخدمة الشعب ، وأعلن الضباط الثائرون عودتهم للحياة العسكرية بعد أداء مهمتهم الوطنية وتخليص مصر من عار الأبدية . )
( ودخلت سنة واحد وعشرين بعد المائة التاسعة عشر ، بالشهر المحرم وأحوال مصر فى رخاء وإنبساط ، وقد عاد اليها مواطنوها المهاجرون الأقباط ، وتمتع الجميع بالمساواة والحرية ، بلا فارق فى الديانة أو الهوية . وأصبح التنافس فى الانتخابات ليس بالدين ، بل فى مدى الكفاءة فى خدمة المواطنين . وبعد أن كانت مصر فى ذيل الدول عادت الى حجمها الطبيعى رائدة للأمم ، وبعد أن كان الرئيس يتسول ويسرق بالمليار من الجنيه والريال والدولار ويجلب لمصر البؤس والعار ، وتنتهى حياته بالعزل أو بالقتل اصبح الرئيس المصرى عزيز النفس عالى المقدار متمتعا باحترام الشعب ليل نهار ، وعندما تكتمل مدته تزداد محبته ، ويسير بين الناس كواحد من الناس ، ولكن متمتعا بالتقدير والحُبّ الكبير . )
( ودخلت سنة إثنتين وعشرين بعد المائة التاسعة عشر ، وقد تم اصلاح التعليم المصرى ليكون مصنع توليد الكفاءات ، ولكن ظهر العجز الأكبر فى اصلاح الأزهر ، لأنه إصلاحه يستلزم تغيير المناهج التراثية فى كتب التدريس الأزهرية ، وتحديثها ضرورى لتواكب إيقاع العصر ولتنهص بالوعى الدينى فى مصر . ولكن إصلاح هذه المناهج يستلزم كفاءات أزهرية ليست موجودة فى الحياة الواقعية ، ولا يمكن توافرها بالكاد بسبب عجز شيوخ الأزهر عن الاجتهاد . لذا رؤى أن يكون الأزهر رمزا فقط لسماحة الاسلام وللدفاع عن الحرية وحقوق الانسان ، بلا تدخل فى التعليم أو السياسة والاقتصاد او أى أمر من أمور العباد ، لأن الدين حرية ، ولأن الهداية مسئولية شخصية ، ولأنه ليس فى الاسلام أزهر أو هيئة كهنوتية . لذا ألحقوا كل مدارس الأزهر وجامعاته للتعليم العام ، وحوّلوا مؤسساته الأخرى الوعظية والبحثية الى منظمات أهلية بلا صفة رسمية . وجعلوا التعليم المصرى كله تابعا للصبغة المدنية وليس الدينية ، إقتناعا بأن الاسلام هو دين العلمانية لا الكهنوتية . ويكفى ما جرى لمصر من صراع السنية والصوفية والفتنة الطائفية والبلاوى الوهابية .)
( ودخلت سنة إثنتين وثلاثين بعد المائة التاسعة عشر ، وقد ظهر إنفضاض الأقباط عن الكنيسة المرقسية ، لإصرارها على التحكم فى حياة الأقباط الدينية والاجتماعية . ولأن الكنيسة ترفض الاصلاح فقد رأى مصلحو الأقباط فى مصر أنه لا بد من إصلاح الكنيسة لتواكب العصر ، ولتحرير الأقباط المصريين من تحكم رجال الدين كما تحرر أخوانهم من المصريين المسلمين . وتخصصت قنوات فضائية فى مناقشة القضية على أنها مسألة وطنية للنهوض بكل الأمة المصرية . ويقال أنهم بصدد أصلاح يتخلص من الجمود والتقليد ويرسى معالم الحداثة والتجديد ، لتحرير الأقباط من تحكم رجال الدين أسوة باخوانهم المصريين المسلمين الذين تحرروا من أمير المسلمين والمرشد اللعين والشيوخ المجانين . )
انتهى النقل عن كتاب : ( العظات والعبر فى تاريخ مصر فى القرن التاسع عشر ..الهجرى ) للمؤرخ أبى حُميد الأصبحانى الحرايزى الشرقاوى الأزهرى .