كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين
الباب الرابع : إنتهاك المسلمين للبيت الحرام والشهر الحرام
الفصل السادس : صحابة الفتوحات عملاء لقريش زرعتهم حول النبى عليه السلام
مقدمة : بين المكر الفرعونى والمكر القرشى
1 ـ انطلق فرعون يقهر بنى اسرائيل يعذّبهم ويقتل أبناءهم . وحيث إحتكر فرعون كل القوة والثروة فقد كان الملجأ الوحيد لحماية الرضيع موسى هو قصر فرعون نفسه . إختلف الحال فى الطغيان القرشى والذى تقاسمه بنو عبد مناف . أنجب عبد مناف توأمين : هاشم وعبد شمس . وعبد شمس أنجب أمية . وتقاسم بنوهاشم وبنو عبد شمس وأمية النفوذ ، إختصّ بنوهاشم برعاية البيت الحرام والحجّاج ، بينما إختص بنو أمية برحلة الشتاء والصيف والعلاقات بالقبائل داخل الجزيرة العربية وداخل الشام . ظهور محمد عليه السلام برسالة القرآن ودعوة أنه ( لا اله إلّا الله ) كان تحديا لقريش ، ليس فقط فى زعامتها للعرب خارج مكة ، ولكن أيضا فى ترابطها ووحدتها حيث تنتمى قريش لأصل واحد هو( كنانة ) تتفرع منه عشائرها ، وهى بوحدتها تدعّم زعامتها للعرب ، وتحمى تجارتها وتنظم شئونها داخليا . ظهور الاسلام أصبح مهددا لهذه الوحدة القرشية . ليس فقط لأن النبى ينتمى لأحد العشائر القوية فى قريش ، وليس فقط لأن بنى أمية هم ابناء عمومة لبنى هاشم ، ولكن أيضا لأن هناك أتباعا للاسلام من شتى العشائر، وبالتالى فإن إستعمال قريش للمكر وصل الى عبقرية غير مسبوقة ، أو بالتعبير القرآنى ( تزول منه الجبال ) : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)( ابراهيم ).
2 ـ العُنف الفرعوني غير وارد لأنّ فرعون كان يستأصل شعبا يعتبره غريبا ، ويتلذّذ بتعذيبه . وقد إعتبر هروب هذا الشعب من قبضته تحديا لهيبته فأخذ يطاردهم الى ان غرق .
أولا : ومن الملفت للنظر أنّ :
1 ـ غرق فرعون وجنده كان أخر إهلاك عام فى قصص الأنبياء والقرون الأولى من الأمم السابقة:( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)( القصص )، وانتهت هذه الصفحة من تاريخ البشرية ، وبالتالى فإن الاهلاك العام لقريش ليس واردا. ثم إنّ عليهم مهمة يجب أن يؤدوها حتى فى عصيانهم للاسلام، هى توصيل القرآن الى آفاق العالم ، فلا بد للقرآن بحفظ الرحمن أن يظهر على الدين كله ولو كره الكافرون المشركون : (التوبة 33 )(الفتح 28 ) (الصف 9 ). وظهوره يعنى تبليغه للناس حتى لو كان من يبلغه عاصيا له وعدوا له . ومن عصر الفتوحات وحتى الآن إعتاد المسلمون بأديانهم الأرضية نشر القرآن والحفاظ عليه مع أتّخاذه مهجورا عن حياتهم العملية وكونهم طبقا للقرآن نفسه مشركين كافرين. أى إنّ تلك الفتوحات العربية القرشية مع أنها ردّة عن الاسلام إلّا أنها حملت القرآن الى ربوع العالم ، سواء رضيت قريش أم أبت ، لأن حفظ الله جل وعلا للذكر القرآنى فوق إمكانات البشر ، وباستعمال إمكانات البشر أيضا .
2 ـ إن الفتوحات العربية لم تنشر حقائق الاسلام ، بل أعادت مضمون الأديان الأرضية السابقة فى نسخ جديدة وبأسماء اسلامية ولغة عربية ، فالتشيع الفارسى هو تعبير دينى عن الشعوبية الايرانية والقومية الفارسية والعقائد الايرانية . ونفس الحال فى مصر التى تعرضت لاحتلال دول مختلفة قبل الاحتلال العربى ، من الهكسوس ، والفرس والأشوريين واليونانيين والروم . ثم العرب . وحافظت مصر على شخصيتها الدينية ، وقامت بتمصير المؤثرات الوافدة مع كل إحتلال . بل ونشرت عقائدها لدى المحتل الأجنبى نفسه . كل ما كانت تفعله هو نفس المضامين المصرية ولكن تحت أسماء جديدة . لذا قامت مصر بتمصير ما يعرف بالمسيحية وقبلها اليهودية ، ثم قامت بتمصير الاسلام ، ومارست نفس عقائدها القديمة الفرعونية تحت مسميات اسلامية وباللغة العربية . على طول التاريخ المصرى كان الثالوث المقدس فى الديانة الفرعونية يتم استرجاع عبادته تحت اسماء جديدة ، وعبادة الثالوث ايزيس واوزيريس وحورس هى نفس الثالوث القبطى ثم هى نفس السيدة زينب والحسين مع رب العزة ؛فالقبطية تكرار للديانة الفرعونية ، والتصوف المصرى بعد الفتح العربى تكرار لنفس التراث الفرعونى الدينى، والتفاصيل فى كتابنا ( شخصية مصر ) المنشور هنا . أى إن الفتح العربى لم يؤثر دينيا فى مصر ، فظلت ثوابت المصريين الدينية كما هى مع تغيير فى الأسماء واللغات ، من هيروغليفية الى ديموطيقية الى قبطية الى عربية . الشىء اوحيد الذى أتى به الفتح العربى القرشى لمصر هو القرآن الكريم ، ليكون حُجة على المصريين جميعا ، سواء من بقى منهم على قبطيته أو من دخل فى الاسلام ثم قام بتحويره الى دين أرضى .
3 ـ وحاق المكر السىء بأهله . بذل فرعون كل كيده فى قهر بنى اسرائيل فجعله رب العزة هو الذى يربى موسى فى كنفه ليصبح موسى فيما بعد عدوا له وحزنا . أخذ فرعون يطارد موسى وقومه ليهلكهم وما كان يعرف أنه يسعى جريا الى موقع هلاكه . نفس الحال مع قريش، كرهت القرآن وإصطنعت أحاديث اللهو لتصرف عنه الناس ، ومن كراهيتها للقرآن حاربت النبى والمسلمين واستخدمت كل دهائها ومكرها ، وبلغت أوج إنتصارها بجريمة الفتوحات ، وأسفرت الفتوحات فى النهاية على نشر القرآن الكريم فى ربوع العالم .
4 ـ أن فرعون بكل جبروته لم يستطع قتل موسى مع أنه تمنى ذلك: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر)، وذلك لأن الله جل وعلا تولى حفظ موسى وأخيه هارون ، ووعدهما بذلك ليطمئنهما : (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) القصص ). ونفس الحال مع مكر قريش الذى تزول منه الجبال ، فلم يستطع عملاء قريش من كبار الصحابة المحيطين بالنبى أن يقتلوه فى مكة أو المدينة ، ولم تستطع قريش قتله فى المواجهات الحربية ، وعجز عن ذلك المنافقون من الأوس والخزرج ، والمنافقون الوافدون من الخارج والمنافقون الذين مردوا على النفاق . السبب أن الله جل وعلا عصمه من الناس حتى يقوم بتبليغ الرسالة ، فلما أتم التبيلغ عليه السلام واكتمل الاسلام دينا أماته رب العزة على فراشه .يقول جل وعلا :( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ (67)( المائدة ). وسبقت إشارات فى مكة بأنه سيموت موتا عاديا : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) ( الزمر ) . وحين أشيع قتله فى معركة أُحُد قال رب العزة مؤكّدا أن المهم ليس شخص محمد فهو رسول قد خلت من قبله الرسل: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144). المهم هو الرسالة ، لذا تأتى الآية التالية تومىء الى أن موته مؤجل ولم يحن أجله بعد ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً )(145)(آ ل عمران ). وفى الوقت الذى كان فيه النبى عليه السلام هو المطلوب رقم واحد للقتل وحماه ربّه جل وعلا فإن الخلفاء الراشدين تعرضوا جميعا للاغتيال من بعده .
ثانيا : تنوع المكر القرشى الذى ( تزول منه الجبال )
كان تركيز مكر وكيد فرعون على العنف ، بينما تركز مكر قريش وكيدها على وسائل أخرى بجانب العنف ، أهمها زرع العملاء حول النبى بزعم دخولهم فى الاسلام ، ثم إجبار النبى والمسلمين على الهجرة ، أى تصدير المشكلة للخارج والتعامل معها بعيدا عن مخاطر تهدد الوضع القرشى فى مكة ، وفى نفس الوقت وضع النبى والمؤمنين تحت المراقبة والسيطرة لو أمكن . وبعد الهجرة كانت إغارات سريعة لقريش على المدينة لتأكيد الهيمنة والغطرسة القرشية . ثم نزل الاذن للمؤمنين بالقتال فكانت الحروب ، وبهزيمة بدر زالت هيبة قريش فتغيرت إستراتيجية قريش فانتهجت سياسة العنف المتطرف وثأرت لنفسها فى موقعة ( أحد ) ثم حاولت إستئصال المسلمين فى موقعة الأحزاب لتؤكّد سيطرتها وتعيد تأمين طريق قوافلها، ففشلت . فعادت للتركيز على ساسيتها القديمة وهى محاولة الاحتواء والاستفادة منه عبر عملائها الذين يأتون للنبى يزعمون اسلامهم ، يحيطون به ويتفانون فى الطاعة وهم جواسيس وعملاء لقريش . هذا ، مع استغلال قريش للأعراب فى خلق مشاكل للمسلمين فى دولتهم بدلا من تجميعهم فى حرب مكشوفة مثل غزوة الأحزاب .
ثالثا : مكر قريش بتهجير المسلمين من مكة
1 ـ قمة المكر والدهاء أن ترسم لخصمك طريقا ليسير فيه وتجعله يتصور إنه يفعل ذلك بأختياره . هذه الطريقة تنتهجها الدول الكبرى فى تخطيطها . وسبقتهم قريش . فى لقاء الملأ القرشى للمكر بالنبى والاسلام والمسلمين إستعرضوا ثلاثة حلول : إعتقال النبى ، أو قتله ، أو إرغامه على الهجرة . يقول جل وعلا يفضح تآمرهم :( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)( الانفال ). واستقر أمرهم على أن يرغموه على الهجرة لأنها من وجهة نظرهم أنجح الحلول ، لأسباب شتى : فقتل النبى يثير حربا أهلية فى مكة فلن يرضى بنوهاشم إلا بالثأر له دفعا للعار عنهم لو سكتوا . و(تثبيت ) النبى أو إعتقاله سيدفع بمواجهة اخرى قد يتحالف فيها أتباع النبى مع عشيرته فى تخليصه من السجن ، وتقوم ثورة وفتنة تدفع قريش ثمنها . أما ( تهجير ) النبى وأتباعه فهو سلب لممتلكات المؤمنين المكّييّن وبيوتهم وأموالهم وعقاراتهم وأسهمهم فى التجارة القرشية، وهو تصدير للمشكلة خارج حدود مكة ، ثم تعامل معها كعلاقات خارجية ، يتم فيها إرغام من يتبقى من بنى هاشم فى مكة على ان يكون شريكا للملأ القرشى فى تعامله مع هذا العدو الخارجى . ويكون عليهم الاختيار بين البقاء فى مكة والتبرؤ من محمد ، أو الهجرة مع محمد والتبرؤ من مكة وقريش .
2 ـ والسياق القرآنى فى هذا الموضوع عن الهجرة لا يستعمل كلمة الهجرة بل مصطلح ( الإخراج ) ليؤكّد على أنه تهجير قسرى وإخراج قهرى وإرغام على الهجرة ليس فيه إختيار. يقول رب العزة: ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (13)( محمد )، ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا )(40) ( التوبة ). أويقول رب العزة عن إخراج النبى والمؤمنين من ديارهم وأموالهم : ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ) (8) ( الحشر )، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ) (1) ، (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ) (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ (9) الممتحنة ). ويقول رب العزة عن المهاجرين : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ )ٌ (40)( الحج ).
3 ـ ولكى ينجح هذا التهجير القسرى فلا بد من اللجوء الى سياسة الحافة ، أى آخر المدى فى إضطهاد المؤمنين ، لتكون الهجرة هى الملاذ الوحيد للنجاة من هذه القرية الظالم أهلها . وأنتهى المؤمنون والنبى الى هذا الحل متصورين أنّ قريش لن ترضى به . فكانوا يهاجرون سرّا . وقريش تتظاهر بالمطاردة لتؤكّد إقتناعهم بهذا . وانتهى المشهد بتصدير المشكلة بعيدا عن مكة وقريش .
4 ـ على أن الدهاء القرشى ( الذى تزول منه الجبال ) جمع بين المكر القرشى فى التهجير والكيد الفرعونى فى استعمال العنف ، أى كان لا بد من متابعة الهجوم على المؤمنين فى المدينة لإبراز الهيمنة القرشية من ناحية ، وللحفاظ على هيبة قريش بين القبائل ، وليظل النبى والمؤمنون فى المدينة تحت الحصار والهلع والفزع من قريش وسطوتها ومهابتها ، وهنا تستطيع قريش أن تمارس العنف معهم بعيدا عن مكة . وكان يعزّز من هذا أن المؤمنين وقتها كانوا مأمورين بكف اليد عن الدفاع عن انفسهم ، ولم يأت لهم الأمر بعد بالقتال الدفاعى . لذا تمتعت قريش بفترة كان تهاجم فيها المدينة تقتل وتعود فيما يشبه النزهة الحربية . واستمر هذا الى أنزل الإذن للمؤمنين بالقتال ، يقول جل وعلا يصف الملأ القرشى :( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) الحج )، وتأتى الآية التالية تأذن للمؤمنين الذين يتعرضون للهجوم بأن يقاتلوا دفاعا عن انفسهم : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) (40) الحج ).
5 ـ بهزيمة قريش المهينة فى ( بدر ) زالت هيبتها بين القبائل ، وتهددت تجارتها وقلّت أهمية البيت الحرام بالنسبة لها ، ولم تنجح نتيجة معركة ( أُحُد ) فى ترميم الهيبة القرشية ، وحين حاولوا ترميمها بالتحالف مع الأحزاب لاستئصال المؤمنين فى معركة الخندق ( الأحزاب ) كانت النتيجة وبالا على قريش . هذا فى الوقت الذى نجح فيه القرآن الكريم بفصاحته فى تنوير العرب ، وأبان لهم سخافة عبادة الأحجار التى ينحتونها ، وبالتالى لم يعد لأصنامهم عند الكعبة قيمة ، بل عرفوا أن قريش كانت تخدعهم وتستغلهم فى حماية تجارتها مقابل خرافات وأوهام . هذا التحول الذى حدث بعد يوم بدر كان فارقا هائلا ، أو يوم الفرقان بالتعبير القرآنى . لذا جرى تركيز قريش بعد فشل غزوتهم فى الأحزاب على زرع المزيد من عملائهم حول النبى ، ومحاولة الاستفادة من الوضع الجديد باحتوائه والسيطرة عليه من بعيد ، وانتهاج سياسة جديدة مع الاعراب ليقوموا بحرب النبى والمؤمنين بالوكالة عن قريش قبل وبعد موت النبى عليه السلام . الفصل التالى سيتوقف مع علاقة قريش بالأعراب . ولكن نختم هذا الفصل بمكر قريش فى زرع عملاء حول النبى فى مكة ثم فى المدينة .
رابعا : زرع عملاء حول النبى
1 ـ من مكر قريش ( الذى تزول منه الجبال ) إستغلال الوضع الخاص بالاسلام والمسلمين فى مكة ثم فى المدينة . فالدخول فى الاسلام غاية فى البساطة ، هو مجرد مقابلة النبى والإعلان له عن الدخول فى الاسلام . وليس للنبى أن يفتّش على سريرة أحد ، فكل من يأتى ليعلن اسلامه عليه أن يقبله ، ولله جل وعلا الحُكم على ما فى القلوب . المطلوب هو الاسلام الظاهرى بمعنى السلام ، والايمان الظاهرى بمعنى الأمن والأمان . ليس فى الأمر ( جهاز كشف الكذب ) ولم ينزل فى البداية فى مكة أمر بالإستجواب والتحريات . الوضع الخاص بالنبى عليه السلام والمسلمين فى مكة أنهم كانوا يفرحون بكل من يأتى مسلما ، ويرحبون بكل ( أخ أو أخت ) فى الاسلام ، خصوصا إذا كان من أصحاب الحيثية والنفوذ . وبالتالى يكون سهلا جدا على الملأ القرشى زرع عملاء وجواسيس حول النبى من البداية ، وأن يتكاثر عددهم مع إنتشار الاسلام.
2 ـ وبعد الهجرة الى المدينة صار للنبى دولة بالمفهوم الحديث ، لها حدود ، ولها ولاية على المقيين فيها ، ولها علاقات بجيرانها من اليهود ومعاهدات معهم ، لذا تتابعت الهجرة للمدينة من مكة ومن غيرها ، وشملت النساء بطريقة مُلفتة ، بما إتّضح معه أن أئمة الكفر من قريش هم الذينإرسلوا بعض النساء جواسيس للمدينة ، لذا جاء أمر بإجراء إختبار ( أمنى ) عليهنّ للتأكّد من الغرض من هجرتهن ، هل هو رغبة فى الاسلام أم للخداع والتجسس . والايمان فى اللسان العربى و القرآنى له معنيان : إيمان ظاهرى بمعنى الأمن والأمان ( آمن ل أى وثق ) ، وإيمان قلبى بمعنى ( آمن ب ) أى إعتقد . الاختبار هنا بحسب ( الايمان الظاهرى ) بمعنى ( الأمن والأمان ) وليس ( الايمان القلبى ) الذى لا يعلم حقيقته إلا الله جل وعلا ، بمعنى هل هى مؤمنة بمعنى أنها ( مأمونة الجانب ، يمكن الوثوق بها والأمن لها وأن نأتمنها ) أم ليست كذلك ؟ . فإذا ظهر من الاختبار أنها مأمونة الجانب فلا يجوز إرجاعها للكفار المعتدين . أما إذا تأكّد الشّك فيها فلا بد من إرجاعها من حيث أتت وعدم السماح لها بدخول المدينة . يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ) (10) الممتحنة ).
3 ـ كانت الهجرة للمدينة عامل قوة يزداد به المؤمنون عددا ، كما كانت نقطة ضعف يتسلل بها عملاء قريش من كل حدب وصوب . ومن المنتظر أن يتم التركيز على الهجرة من جانب دهاة الملأ القرشى فى زرع العملاء القادمين من مكة وقريش أو من الأعراب المقيمين حول المدينة . وهذا أنتج ظهور الكثير من المنافقين من الأعراب وداخل المدينة . وهنا نلاحظ تنوّع أنّ حديث رب العزة تزايد عن المنافقين بمرور الوقت ، وبعد أن كان آية واحدة فى سورة الأنفال التى نزلت بعد موقعة بدر ، تكاثرت الآيات فى سور ( البقرة ) ثم ( آل عمران ) و ( النساء ) و( المنافقون ) و ( المائدة ) الى سورة ( التوبة ) . وفى كلها تفصيلات عن أنواع مختلفة من المنافقين وتآمر ومكائد وعلاقات مريبة وتحالفات تحتية بين المنافقين فى الداخل والكافرين فى الخارج . كل هذا يؤكّد أن النفاق لم يكن وقتها مقصورا على الأوس والخزرج سكان المدينة ( يثرب ) بل أصبح يشمل آخرين وافدين . ويمكن القول هنا بأن بعض الآيات عنهم كانت تشير الى كونهم من المنافقين المحليين كما جاء فى سورة المنافقين (هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8))، وآيات أخرى تتحدث عن ثراء بعض المنافقين وتنهى النبى عن الاعجاب بأموالهم وأولادهم ( التوبة 55 ، 85 ). ولكن تنوع الحديث عن تآمرهم ووجودهم بقوة وكثافة فى أواخر السور وخصوصا سورة التوبة يفيد بأنه اصبح لهم جمهور ، ولا نتصور أن هذا الجمهور قد نبت فجأة فى المدينة بين الأنصار ، ولكن المتوقع أنه جمهور وافد ممّن أتى للمدينة مهاجرا ومنافقا فى نفس الوقت ، وعمل فى خدمة المنافقين الكبار الأثرياء من الأوس والخزرج .
ولمزيد من التوضيح نقارن ما جاء فى أوائل السور المدنية بهذا الخصوص . ففى البداية هى آية وحيدة بعد معركة بدر: ( إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) ) ( الأنفال )، أى أقلية منافقة مقابل أكثرية من المهاجرين والأنصار الذين كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة : (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (9) الحشر ). ثم يعلو صوت النفاق متشجعا بهزيمة معركة ( أُحّد ) ( آل عمران : 118 ـ 120، 154 : 180 ) ويبدو معه أنه نفاق محلّى من داخل المدينة، ثم يظهر مكشوفا صريحا فى معركة الأحزاب ( الأحزاب 12 : 20 ، 60 : 62 ). بفشل الأحزاب يتزايد صوت النفاق بعد سكوت الحرب بين المسلمين وقريش ، بما يعنى تغييرا فى استراتيجية قريش بارسال العملاء المنافقين بكثرة الى المدينة ، فتمتلىء المدينة بضجيجهم وتآمرهم فى سورة التوبة ( 42 : 110 ) ، ونكتفى منها بقوله جل وعلا عن المظاهرات العلنية لجماعات المنافقين من الرجال والنساء فى شوارع المدينة تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف : (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (67) . مكر قريش الذى تزول منه الجبال هو المسئول عن تزايد النفاق فى المدينة بهذا الشكل عوضا عن خمود الحرب المّعلنة بينهم وبين النبى .
أخيرا
1 ـ كانت المدينة قبيل موت النبى حُبلى بتطورات ظهرت فجأة بعد موته ، وفيها عادت قريش بمكرها تتصدر دولة الاسلام على خلاف المتوقع . المتوقع لو سارت الأمور سيرها الطبيعى أن العدو المنهزم بعد العفو عنه يقبع فى المؤخرة راضيا بحقن دمه بعدما أنفق حياته من قبل فى إضطهاد وحرب المؤمنين . ولكن أن يعود نفس العدو للسيطرة وبقوة وبسرعة فهذا مستحيل إلا إذا كان خلفه مكر تزول منه الجبال كما قال جل وعلا عن مكر قريش . والعجيب أن الملأ القرشى فى مكة قام بتعذيب المؤمنين المستضعفين ، فتعرّض عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود للعذاب فى مكة فى بداية الدعوة . ثم تعرضا لعذاب آخر فى شيخوختهما فى خلافة عثمان فى ظل سيطرة نفس الملأ القرشى .!!
3 ـ بمكر قريش الذى تزول منه الجبال كان الاسلام لمعة ضوء سرعان ما طغت عليها ثقافة العصر فعادت بعدها الأمور الى ما كانت عليه من ظلم وظلام ، ولا تزال .
4 ـ ولكن لا يحيق المكر السىء إلا بأهله حتى لو كان فى مثل المكر القرشى . فقد نجح النبى عليه السلام فى تبليغ القرآن ، وساعدت قريش بفتوحاتها على تبليغ القرآن للبشرية ، فهذا هو حفظ الله جل وعلا حفظه للقرآن الكريم ولو كره الكافرون ، ليكون حُجة عليهم بكل أديانهم الأرضية ، وحتى قيام الساعة .