كتاب الحج ب3 ف 12 : إفساد فريضة الحج الإسلامية بالحج لقبر النبى

آحمد صبحي منصور في الأحد ٢٤ - مارس - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين

الباب الثالث : الحج فى الدين الصوفى

الفصل الثانى عشر  : إفساد فريضة الحج الإسلامية بالحج لقبر النبى

مقدمة

1 ـ بدأ الدين السنى بهذا الإفك متابعة للتواتر القرشى الجاهلى الباطل ، ومالبث أن وضعوا له إطارا عقيديا بتقديس المدينة واعتبارها حرما تاليا للبيت الحرام فى مكة ، ثم بتقديس موضع قالوا إنه قبر النبى محمد ، وجعلوه أكبر نُصب مقدس ، ومع إنه رجس من عمل الشيطان وفقا لما جاء فى القرآن فإنهم ما لبث ان شرعوا الحج الى هذا النّصب الرجسى ، الذى زعموا أنه روضة من رياض الجنة ، وزعموا فى أحاديثهم أنه ( حىّ ) فى قبره يرى ويسمع من يزوره ، ويشفع فيمن يتوسل به ويجيب من يدعوه ويجير من يحتمى بأعتابه ، وأنه يرد السلام على من يسلّم عليه ، وأنه وهو فى القبر تعرض عليها أعمال الناس ، ليقول رأيه فيها فيستغفر لمن يشاء ، ويهمل من يشاء ..الى آخر هذا الهراء ..!!.  

وقد تحرّجوا من القول بالحج اليه فجعلوها ( زيارة ) ، وأوجبوها على كل من يحج الى البيت الحرام ، وإلا فقد ( جفا ) النبى ، ولم يتم حجه . وبتوالى القرون أصبح الهدف الأول للعوام المسلمين ليس الحج للبيت الحرام بل ( زيارة الحبيب ) و ( التمسح بشباك قبره ) ، أما الحج للبيت الحرام فهو مجرد خطوة فى سبيل زيارة الحبيب إلتماسا لشفاعته والتبرك بقبره .

2 ـ نسى هؤلاء مئات الآيات القرآنية التى تنهى عن تقديس البشر والحجر ، بل تناسوا أنهم ـ  بكل غباء ـ وضعوا النبى محمدا فى موضع التحقير ، فهم بزعمهم حياة النبى فى هذا القبر قد حكموا عليه أن يظل سجينا فى حفرة  تحت الأرض الى قيام الساعة ، ثم هم يقفون بأقدامهم فوق رأسه. وبقولهم أن جسده لا يزال دون تحلّل فقد جعلوه فى مكانة فرعون موسى الذى عوقب بأن يظل جسده باقيا ليكون لمن خلفه آية ..!!، فمن إكرام الله جل وعلا لابن آدم أن تتحلّل سوأته ـ أى جيفته بعد موته ـ ليعود الى الأرض وعناصرها . ولقد حرم الله جل وعلا فرعون موسى من هذا التكريم . ويأتى  حمقى الأديان الأرضية من المسلمين ليجعلوا النبى وأوليائهم المقبورين فى مكانة فرعون ، بزعم أنهم أحياء فى قبورهم .

3 ـ بدأ الدين السّنى بهذا الإفك ،وتابعه الشيعة ثم الصوفية .

أولا : إفساد فريضة الحج الإسلامية بالحج لقبر النبى فى الدين السّنى

 1 ـ بدأ الأمر باعتبار المدينة حرماً يضاهى حرم الله فى مكة .

2 ـ وقد ترادف وضع الأحاديث التى ترفع من شأن المدينة فى كتب الدين السّنى المقدسة لدى المسلمين مثل صحيح البخارى ، ومنها حديث أنس "اللهم اجعل بالمدينة ضعفى ما جعلت بمكة من البركة". وحديث أبى هريرة " على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال".. وأحاديث تحريم المدينة جاءت فى روايات لأنس" اللهم إن إبراهيم حرم مكة وأنى أحرم المدينة ما بين لابتيها" وقد روى ذلك الحديث بطرق متعددة ويحظى بالإحترام لدى أتباع الدين السّنى . 3 ـ لم يناقش أحد مناقضة تلك الأحاديث للقرآن الكريم . فإبراهيم عليه السلام لم يكن هو الذى يملك ( تحريم مكة ) ، وإنما الذى حرم مكة هو الله جل وعلا ، ففيها بيته الحرام، والله سبحانه وتعالى أمر ابراهيم عليه السلام فقال له:( وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) (26) الحج ) ، ولم يقل له وطهر بيتك يا ابراهيم، ومحمد عليه السلام لا يملك حق التحريم وإلا فكيف يقول له ربه : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) التحريم ) وأعلنها عليه السلام فقال ما جاء فى القرآن الكريم أنه يعبد رب العزة الذى حرّم مكّة البلد الحرام : (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (91) النمل ) . فلله جلّ وعلا وحده حق التشريع. وكما أنه لا إله إلا الله فليس لله من حرم مكانى إلا حرم واحد هو الذى بمكة،وإليه يكون الحج والقصد،وكذلك فعل الرسول حين حج بأصحابه من المدينة إلى مكة، وبعد موت الرسول وإنتهاء التشريع فلا مجال للزيادة فى شرع الله باختراع حرم جدبد يقصده المسلمين وينسبونه للرسول. 

3 ـ وتسلل الشرك إلى عقائد الناس منذ القرن الثانى فتحول تقدير النبى إلى تقديس له ، وغدا مسجد المدينة مساوياً عند المسلمين للحرم، وأصبح قبر الرسول كالكعبة ،وصيغ ذلك  بأحاديث  شكّلت فيما بعد عقائد الأجيال اللاحقة وزادتها تلوثاً ،ففي البخاري " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " ، وفيما بعد روى الحديث على أنه " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة" ولا فارق بينهما في المعنى إذ أنه مدفون في بيته ، وكيف يتحدث عن قبره وهو لا يعلم اين سيموت : (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) لقمان 34).

4 ـ وإنعكس الوضع الجديد على فريضة الحج الإسلامي ..

فبعد أن كان القدوم لمكة فحسب أضحى للمدينة بل وللقدس ، وأصبح لكل مسجد درجته كما يظهر من هذه الأحاديث التي رواها البخاري " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى" أى أصبح التوحيد ثالوثاً . وهناك حديث فاضح يقول : ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سوى المسجد الحرام). هو حديث فاضح لأنه تشويه لشخص النبى ولدين الله جل وعلا . إنّ الرسول كان متبعا للوحي ، وقد قرّر  ربه جل وعلا أن المساجد يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا وحده:( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) الجن ) (( الجن 18) ، وقد قام عليه السلام وهو فى مكة يعلن هذا فى مساجد قريش التى أقاموا فيها القبور المقدسة، وجعلوا أولياءهم أصحاب تلك القبور تشارك رب العزة فى الأذان للصلاة وفى الصلاة ، فأمره ربه جل وعلا أن يعلن أن المساجد يجب أن تكون لله جل وعلا وحده : (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) الجن )، فلا تعظيم فيها لغير الله . وأعلن عليه السلام ذلك فى مساجد قريش فكادوا أن يفتكوا به : (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) الجن). فأمره ربه جل وعلا أن يقول لهم أنه يقوم بتبليغ الرسالة وجوهر الاسلام لينجو من عذاب الرحمن ، وأنه لا يملك لهم ضرا ولا رشدا : (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) الجن ). فإذا قال جل وعلا (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) الجن )، فكيف يعصي ربه ويقول "مسجدي .." . المؤسف أن هذا كان بداية لتأسيس مساجد بأسماء البشر ، فى أديان السنة والتشيع والتصوف .!!

ثانيا : دور التصوف السّنى فى تطوير هذا الافك

1 ـ قام القشيرى ثم الغزالى بتضييق الفجوة بين دينى السّنة والتصوف لصالح التصوف ،فيما   يعرف بالتصوف السّنى ، وكان التركيز فيه على المشترك وهو تقديس النبى والحج الى قبره . لذا إشتهر حديث  "من حج ولم يزرني فقد جفاني ".ولا ندري متى قال الرسول ذلك؟ أقاله قبل موته أم بعده؟ والإجابة تقطع بتزوير ذلك الحديث .

2 ـ والأفظع من ذلك انهم شرّعوا مناسك الحج إلى المدينة ، وقد فصَل فيها الغزالي في الاحياء ، فيما يخص النية وما يخص الأفعال والأقوال[1]، وكان فيها رائدا لصوفية عصرنا المملوكي وللمسلمين في عصرنا الراهن.

3 ـ وفي العصر المملوكي حيث ساد التصوف السّنى و حيث يقدس الناس أى شيء أصبح الحج لقبر الرسول من المعلوم من الدين بالضرورة عندهم . وذلك مما لا يستحق عناء إثباته، ولكن نكتفي بما ألفه فقيه صوفى مشهور هو" العلامة شيخ الإسلام والمسلمين ، تقي الدين السبكي "وهو كتاب " شفاء السقام في زيارة خير الأنام[2].

وقد قسمه إلى أبواب الأول في الأحاديث الواردة في الزيارة نصاً .الثاني : فيما ورد من الأخبار والأحاديث دالاً على فضل الزيارة وإن لم يكن فيه لفظ الزيارة الثالث : فيما ورد في السفر إلى زيارته(ص) صريحا الرابع : في نصوص العلماء على استحباب زيارة قبر سيدنا رسول الله وبيان أن ذلك مجمع عليه بين المسلمين، الخامس : تقرير كون الزيارة قربة، السادس : في كون السفر إليها قربة السابع :في دفع شبه الخصم ، الثامن : في التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبيى (ص) التاسع : في حياة الأنبياء ".

وواضح أنه اعتمد على الأحاديث وآراء العلماء المتأثرين بها. وهو صادق فيما ينقل عن دين التصوف السّنى . ولكن الإسلام هو دين الله الذي فصله في القرآن ولا معقب لكلمات الله ولكل انسان الحرية في التمسك بكتاب الله أو الإعراض عنه ، وفي النهاية سيلقى جزاءه في الآخرة : ( وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) الكهف ).

ثالثا  : الأساس العقيدي فى دين التصوف لتقديس قبر النبي:

1 ـ وأدت عقيدة الحقيقة المحمدية إلى تأكيد تقديس قبر النبي وتأكيد الحث على زيارته بحيث صارت أهم معالم النسك في الحج. والحقيقة المحمدية تعني تأليه النبي محمد واعتباره نورا إلهياً أزليا انبثق عن نور الله(تعالى الله عن لك علواً كبيراً)،وأن الله تعالى خلق الكون لأجل هذا النور المحمدي. وقد صيغت في ذلك أحاديث رددها الفقهاء السّنة  والصوفية مثل حديث " اول ما خلق الله  نور نبيك يا جابر " " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين،و كنت نبيا و آدم لا ماء ولا طين".

2 ـ وفي هذه العقيدة المخالفة للإسلام اتفق الصوفية والفقهاء برغم الصراع الذي دار بينهما ، إذ كانت عقائد الصوفية من الإتحاد والحلول ووحدة الوجود هى أساس ذلك الصراع ،حيث كان ينقم الفقهاء السنيون على الصوفية تلك العقائد، ولكنهم كانوا يوافقونهم الإعتقاد في تقديس وتأليه النبي محمد انطلاقا من " الحقيقة المحمدية".

3 ـ بيد أن الصوفية طبقا لنزعتهم في تأليه أنفسهم وأشياخهم أحدثوا تطورا في الحقيقة المحمدية ، فبينما حصرها الفقهاء في النبي محمد و قصروها عليه وحده ، فإن أرباب التصوف الشيعى جعلوا ذلك النور الإلهي يتنقل بعد محمد عليه السلام إلى علىٍ وذريته، ثم يتنقّل فى  الأقطاب الصوفية، حسب زعمهم  أنهم من ( الأشراف ). الجدير بالذكر أن الفقهاء السنيين لم ينكروا على الصوفية هذا الإدعاء خوفا من المساس بعقيدة الحقيقة المحمدية ذاتها..

4- وقد ساد الاعتقاد في الحقيقة المحمدية خصوصا في القرن العاشر الهجري ، حتى لقد صارت بعض الكتب والمراسلات تفتتح بها بدلا عن الصيغ المعروفة بالصلاة على النبي. والغريب أن السلطان سليم العثماني بعث برسالة إلى طومان باي – بعد مقتل السلطان الغوري في مرج دابق يدعوه فيها إلى الطاعة ،ويقول فيها إن الله " مهًد أول قواعد النبوة بكنت نبياً وآدم بين الماء والطين"[3]. أى يشير إلى حديث الحقيقة المحمدية" كنت نبيا وآدم بين الماء والطين". وذلك اعتراف رسمي بالحقبقة المحمدية عقيدة للمسلمين حينئذٍ.

ويقول عبد الصمد الأحمدي في مقدمة كتابه (الجواهر السنية) عن مناقب أحمد البدوي عندما أخذ في التسليم والصلاة على النبي " واشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم وعبده ورسوله وخليله الأول في الإيجاد والوجود والمستغرقة حقيقته الآحاد والأنواع والأجناس والعقود [4]. والحقيقة المحمدية عندهم تعني أن محمداً أول الموجودات ومنه جاءت الأكوان..

وفي كتاب" النورالسافر" الذى يؤرخ للقرن العاشر يقول المؤلف العيدروس في مقدمة الكتاب " أعلم ان الله سبحانه لما أراد إيجاد خلقه أبرز الحقيقة المحمدية من أنواره الصمدية  في حضرته الأحمدية، ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها على ما اقتضاه كمال حكمته وسبق في علمه وإرادته ، ثم أعلمه تعالى بكماله ونبوته ، وبشره بعموم دعوته ورسالته وبأنه نبي الأنبياء وواسطة جميع الأصفياء وأبوه آدم بين الروح والجسد ، ثم انبجست منه عيون الأرواح، فظهر ممدَا لها في عالمها المتقدم على عالم الأشياخ، وكان هو الجنس العالي على جميع الأجناس، والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس ، فهو وإن تأخر وجود جسمه متميز على العوالم كلها برفعته وتقدمه ، إذ هو خزانة السر الصمداني ومحتد تفرد الإمداد الرحماني ."[5]. والمؤرخ العيدروس كان فقيها ، ولم يكن شيخا صوفيا .

ومثله كان كاتب مجالس الغوري " نفائس المجالس السلطانية" وهويقول في بداية كتابه " والصلاة والسلام على شفيع المدنيين وسلطان الأنبياء والمرسلين الذي كان نبيا وآدم بين الماء والطين .."[6].

ويقول فقيه القرن العاشر ابن جعفر الهيثمي في مقدمة كتابه (مولد النبي) نفس ما قاله المؤرخ العيدروس مع تغيير طفيف في بعض الألفاظ : " شرف الله نبيه بسبق نبوته في سابق أزليته وذلك أنه تعالى لما تعلقت إرادته بإيجاد الخلق أبرز الحقيقة المحمدية من محض نوره المشار إليه بقوله تعالى ونفخت فيه من روحي، ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها على ما سبق في سابق إرادته، ثم أعلمه تعالى بنبوته وبشره برسالته ،هذا وآدم لم يكن إلا كما قال فيما يأتي بين الروح والجسد، ثم انبجست فيه صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح كلها، فظهر في الملاْء الأعلى أصلاً للعوالم كلها ، حتى انتهى الزمان بالإسم الباطن فى حقه صلى الله عليه وسلم إلى وجود جسمه وارتباط الروح به،انتقل حكم الزمان إلى الإسم الظاهر فظهر صلى الله عليه وسلم بكليته جسماً وروحاً، فهو –وإن تأخر وجوده – هو خزانة السر،فلا ينعقد أمرً إلا منه ولا ينقل خبرً إلا عنه..[7].

5- وشيوخ الصوفية من ناحيتهم حرصوا على الإستفادة من عقيدة الحقيقة المحمدية، بأن جعلوها تنتقل من محمد إليهم عبر سلاسل مثل سلاسل الخرقة والنسب، وشيوخ الصوفية المشهورين فى العصر المملوكى كل منهم حرص على ترصيع أوراده أو أشعاره بعبارات الحقيقة المحمدية، وبما يؤكد تمتعه بها وتقلبه فيها قبل وجوده فى الحياة.

فأحمد البدوى يقول فى صلواته " اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمد شجرة الأصل النورانية، ومعدن الأسرار الربانية وخزائن العلوم الإصطفائية .."[8].

وفى أشعاره يحرص البدوى على التأكيد بأنه –من خلال الحيقة المحمدية – كان قطباً وإماماً يقول:

أنا من قبل وجودى فى الورى

                              كنت قطباً وإماماً وأصلاً

 ويقول مؤكداً وجوده من خلال الحقيقة فى شخصية الأنبياء السابقين :

 فقرأت من توراة موسى تسعة

                              تليت على موسى لها لم يثبت

وقرأت من انجيل عيسى عشرة

                              تُليت على عيسى فزادت رفعتى[9]

 أى أن موسى لم يثبت عندما تليت عليه التوراة، أما السيد(افندى) البدوى فقد قرأها فى ثبات وثقة !!

ولكن ابراهيم الدسوقى قام بالمزايدة على رفيقه أحمد البدوى فى هذا المجال، نثراً وشعراً. يقول الدسوقى فى الجوهرة عن نفسه" أنا موسى فى مناجاته، أنا" على" فى حملاته، أنا كل ولى فى الأرض.. كنت وأولياء الله أشياخاً فى الأزل، فإن الله عز وجل خلقنى من نور رسول الله، فنظر إلى الرسول فقال يا ابراهيم تقدم فتقدمت.. " ويقول أنه عرف التوحيد قبل آدم وحواء وقبل العرش والكرسى واللوح والقلم والسموات والأرض والماء والطين، وقد ردد أقوال الدسوقى عنه الشعرانى فى الطبقات الكبرى فى ترجمته لابراهيم الدسوقى، والشرنوبى فى طبقاته[10].

وترددت الحقيقة المحمدية فى أدبيات الشاذلية:

يقولون فى صلاة ابن بشيش" اللهم صلَ على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق، وله تضاءلت الفهوم، فلم يدركه منا سابق ولا لاحق .. ولا شئ إلا وهو به منوط".  ويقول البوصيرى شاعر الشاذلية :

أنت مصباح كل فضـل

                     فما تصدر إلا عن ضوئك الأضواء

لم تزل فى ضمائر الكون

                      تُختار لك الأمهات والآباء

ويقول البوصيرى :

 محمد سيد الكونين والثقلين

                       والفريقين من عرب ومن عجم[11].

 والشيخ أبو المواهب الشاذلى لم يسترح إلى قول البوصيرى يمدح النبى :

فمبلغ العلم فيه أنه بشر

                      وأنه خير خلق الله كلهم

 لأن البوصيرى صرح فى شعره ببشرية النبى وأن ذلك هو مبلغ ما يعرفه عنه، ورغم العبارة تحتوى تأليهاً ضمنياً للنبى يخفى –بزعمه- عن علم البشر، إلا أن أبا المواهب الشاذلى زعم أنه رأى النبى فى المنام وعرف المعنى الحقيقى، وهو أن من لاعلم له بحقيقة النبى يظنه بشراً، ولكن الحقيقة أنه غير ذلك " وإلا فهو وراء ذلك كله بروح القدس " [12].

ويقول على وفا الشاذلى يمدح النبى:

لو أبصر الشيطان طلعة نوره

                             فى وجه آدم كان أول من سجد

أو لو رأى النمرود نور جماله

                             عبد الجليل مع الخليل وما عَنَد

لكن جمال الله جلَ فلا يُرى

                             إلا بتخصيص من الله الصمد

 وقال على وفا فى حديث اسرائه يستعير الحقيقة المحمدية لنفسه "..فدخلت فإذا أنا بآدم، أى فإذا أنا فى صورة حقيقة آدم وناطق بناطقته"[13].

والشعرانى  ردد عقيدة الحقيقة المحمدية في بعض مؤلفاته الصوفية ،يقول في " اليواقيت والجواهر"  إن  " جميع الأنبياء والأولياء مستمدون من محمد عليه السلام" ويرى أن روح محمد عليه السلام هو القطب الواحد الممد لجميع الأنبياء والرسل والأقطاب من حيث النشأة الإنسانية إلى قيام الساعة[14]..

6-  وذلك الإعتقاد الراسخ في أُلوهية النبي والذي شمل الصوفية وغيرهم كان الأساس العقيدي للجميع في تقديس ما يعرف بقبر النبي، والحج إليه، وتشريع المناسك له، وتجلت تفصيلاته في كتاب الفقيه تقي الدين السبكي" شفاء السقام في زيارة خيرالأنام".

رابعا : شخصيتان متناقضتان للنبى محمد عليه السلام

1- المحصّلة النهائية أنهم خلقوا من أهوائهم شخصية الاهية للنبى محمد جعلوه فيها متحكما فى الدنيا والآخرة ، وبالغوا فى تأليهه فرفعوه احيانا فوق رب العزة ، بل ورفعوه فى التأليه فوق تأليه المسحيين للمسيح . وهذه الشخصية المزعومة للنبى محمد تناقض شخصيته الحقيقية التى أكّدها رب العزة فى القرآن  الكريم

2 ـ  فرب العزة يؤكد على بشرية النبي ، وأنه بشر مثلنا ولكن يوحى اليه ، يقول تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)الكهف  ). هو بشر يوحى اليه ، ولكن هذا الوحي لا يصعد بالنبي فوق مستوى البشر. فكل ما عليه هو تبليغ الوحي : ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)    المائدة ). ثم هو اول من يتبع الوحي : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) الأحزاب )،  وعليه كالآخرين من قومه مسئولية التمسك بهذا الوحي: ( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) الزخرف )، وسيكون مثلهم مساءلا يوم القيامة (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) الزخرف ).

أى هى مساواة بين النبي وقومه في المسئولية وفي الحساب.  بل أنها مساواة بينه وبين خصومه فى استحقاق الموت وفى التخاصم يوم الحساب أمام الله تعالى، يقول سبحانه وتعالى له :(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)الزمر)، وهناك مساواة بينه وبين المؤمنين معه يوم الحساب، لن يحملوا عنه حسابه ولن يحمل عنهم حسابهم :( وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ (52) الأنعام )، و فى الآخرة  لن يستطيع إنقاذ أحد من النار:( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ )(19)الزمر ) فليس له من الأمر شىء، طبقا لقوله جل وعلا له:( لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ)(128)آل عمران ) ، فهو لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً:(  قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) الأعراف)، ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ ) (49) يونس ).

3 ـ هذا هو كلام رب العزة فى القرآن الكريم ، فأيهما نصدق؟ كتاب الله العزيز؟ أم هراء الصوفية والفقهاء ؟ !

أخيرا

معظم ما ذكرناه عن الحج الصوفى يتشابه بل ويتطابق مع الحج الشيعى . وهناك خصوصيات للحج الشيعى فى التطبير وغيره من طقوس يوم عاشوراء فى ذكرى مقتل الحسين . وهذا يحتاج الى باحث مسلم متخصص فى الدين الشيعى ليوضّح وليحلّل التناقض بين دين التشيع الأرضى وبين الاسم بنفس ما نفعله مع دينى السّنة والتصوف .


[1]الإحياء جـ1/232، 243.

[2]طبع صبيح.

[3]أحمد فؤاد متولى : عن كتابه الفتح العثمانى لمصر ص 170 نقلا عن ترجمته للمراسلات بين سليم وطومان باى .

[4]الجواهر السنية 2 .

[5]العيدروس :النور السافر 2مخطوط.

[6]نفائس المجالس السلطانية،تحقيق عبد الوهاب عزام ص1 .

[7]ابن حجر الهيثمى :مولد النبي ص7.مخطوط.

[8]الخفاجى:النفحات الأحمدية 130: 149.

[9]عبد الصمد : الجواهر السنية 133 ، 89، 91: 92 .

[10]جوهرة الدسوقى 98: 102 ،الشعرانى، الطبقات الكبرى جـ1/ 153 ، 154،طبقات الشرنوبى مخطوط7، 2، 1.

[11]ديوان البوصيرى 2، 192.

[12]ترجمة أبو المواهب الشاذلى في الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/66.

[13]ترجمة على وفا في الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/20.

[14]اليواقيت والجواهرجـ2/73، 83. الكبريت الأحمر 10.

اجمالي القراءات 11962