كتاب الحج ب 3 ف 8( مناسك الحج الصوفى )

آحمد صبحي منصور في السبت ١٦ - مارس - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين

الباب الثالث : الحج فى الدين الصوفى

الفصل الثامن : مناسك الحج الصوفى :

 مقدمة :

الحج قدوم ثم تأدية للمناسك . بعد القدوم إلى الولى –الذى أوجبه دين التصوف على الناس – كان تشريع المناسك للحج الصوفى .. وتكاثرت هذه المناسك بين أقوال وأفعال مختلفة حسب الطرق الصوفية والأضرحة المتشعبة . ولكننا نبرز السمات العامة لهذه المناسك على النحو التالى:

أولا : المناسك القلبية :

1 ـ فاشترطوا فى الحاج أن يكون خاشعاً مؤمناً بالولى الذى يحج إليه، معتقداً فى حياته البرزخية وتصريفه الإلهى فى الخلق حتى يستحق نيل البركات ..

2 ـ يقول فى ذلك أبو المواهب الشاذلى "من أدب المريد إذا زار شيخاً فى قبره أن لا يعتقد أنه ميت لا يسمعه، بل الأدب أن يعتقد حياته البرزخية لينال بركته "[1]. وردد الشعرانى هذه الأقوال ونسبها لأبى المواهب هذا ، ومنها "إذا زار إنسان قبر الولى فإن ذلك الولى يعرفه، وإذا سلم عليه ردَ عليه السلام، وإذا ذكر الله على قبره ذكره معه .. ومعلوم أن الأولياء إنما ينقلون من دار إلى دار ، حرمتهم أمواتاً كحرمتهم أحياء، والأدب معهم بعد موتهم كالأدب معهم حال حياتهم ).   

3 ـ وكما أن الله جل وعلا هو الحىّ الذى لا يموت فإن الصوفية يعتقدون أنّ لأوليائهم نفس الحياة بلا موت ، يقول أبو المواهب الشاذلى يضفى الالوهية على الولى الصوفى الميت : " حاشا الصوفى أن يموت"، أى ليس يموت كالأنبياء والرسل وبقية البشر. وأبو المواهب يفترى هذا ليبرر الحج الى قبر الولى الميت ، يوهم بأنه ( حى لا يموت )..!  ويرى أبو المواهب الشاذلى أنّ الولى ( الحىّ فى قبره ) يكون مفيدا لمن يحج الى قبره ، بل ربما يكون أكثر نفعا فى قبره عنه عندما كان حيا يسعى فى هذا الدنيا .  يقول" من الأولياء من ينفع مريده الصادق بعد موته أكثر ما ينفعه حال حياته .. "[2].

4 ـ وكما يؤكّد ربَ العزة على إخلاص العبادة لله، ، فأولئك الصوفية يحرصون على إخلاص المريد عقيدته فى تأليهه لصاحب الضريح حين يحج إلى الضريح متوسلا بصاحبه ، يقول السخاوى الصوفى عن بعض الأضرحة "ومن خصائص زيارتهم أن من زارهم سبعة سُبوت على نية الحج أو قضاء الدين أو حاجة قضى الله تعالى حاجته .فينبغى لمن عزم على زيارتهم وغيرهم أن يخلص نيته "[3]. .

ويشرع ابن الزيات فى كتابه (الكواكب السيارة) طريقة للمناسك ، ثم يقول محذراً "وإياك أن تجعله على وجه التجربة فإنك لا تنتفع به "[4]. أى لا بد أن تبدأ الحج والتوسل بصدق نية وعقيدة صافية مخلصة فى صاحب الضريح ، وليس بالشّك والتجربة . ويقول أيضا عن ضريح آخر "والمستحب لمن زار هذا المكان أن يحضر قلبه ويخلص نيته فإنه فى مكان مبارك "[5].  

ثانيا :المناسك القولية :

1 ـ شرع ابن الحاج فى كتابه ( المدخل ) طريقة المناسك القولية، يبدأ بالقول  : ( إن كان الميت المُزار ممن تُرجى بركته فيّتوسل إلى الله تعالى به. ) أى إذا كان صاحب القبر يعتقد الناس فى بركته وجدوى التوسل به فيجوز التوسل به . وهنا تناقض فى قول الفقيه الصوفى ابن الحاج ، فهو يقرر فى البداية بأن صاحب القبر ميّت وليس حيّا فى قبره كما يقول الشعرانى وأبو المواهب الشاذلى ، فكيف يستجيب الميت المقبور لمن يتوسل به ، وكيف يتوسّط له عند الله جل وعلا بزعمهم ؟ .

ثم يشرح التوسل القولى : ( ويبدأ التوسل بالنبى(ص) إذ هو العمدة فى التوسل ، ثم يتوسل بأهل تلك المقابر أى الصالحين منهم فى قضاء حوائجه ،ثم يدعو لنفسه ولوالديه وأشياخه ولأقاربه ولأهل تلك المقابر ولأموات المسلمين ولأحيائهم وذريتهم إلى يوم الدين ، ولمن غاب عنه من إخوانه "[6].  وهنا تناقض آخر ، فهو يتوسل بهم ثم يدعو لهم .. أى يجعلهم آلهة يتضرع لهم ثم يجعلهم عبيداً مستضعفين يتضرع لله من أجلهم .. وهذا هو التناقض الذى يقع فيه الفقيه الصوفى الذى يحاول ( أسلمة التصوف )، يظل حيران يحاول التوفيق بين النقيضين :الإسلام والتصوف .

2 ـ وتظلّ هناك إختلافات فى المناسك القولية حسب هوى الأشياخ المشرعين ، يقول ابن الزيات " من قرأ عند مسجد الرفاعى " قل هو الله أحد " أحدى عشر مرة وسأل الله حاجة قضاها"[7].  ، بينما يقول تلميذه السخاوى الصوفى عن ضريح السيدة نفيسة "كانوا يقولون عند زيارتها والسلام عليها بعبارات خاصة فيها ذكر آبائها والتشفع والإستجارة بها "[8].

ثالثا : المناسك العملية وانواعها :

1 ـ معروفة المناسك العملية فى الحج الإسلامى من الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة والإفاضة وتقديم الهدى .وتأثّر بها الحج الصوفى وقلّدها ، ففيه طواف بالضريح وسعى بين القبور ووقوف خاشع أمام بعضها ، بالإضافة إلى تقديم الهدى نذراً للأولياء .

ويبقى الخلاف بين الحجّ الاسلامى والحج الصوفى : ففى الإسلام لا حرم لله جل وعلا إلا البيت الحرام فى مكة، ولا حج إلا لبيت الله الحرام ، ولا طواف إلا بالكعبة ، وفى الطواف بها لا يجوز لمسها. أما فى العصر الجاهلى وفى دين التصوف فالأنصاب منتشرة تتمتّع بتقديس كما للكعبة وربما أكثر، ولكل منها ( الحرم ) الذى لا يجرؤ إنسان على اقتحامه. وبينما إعتاد حجاج البيت الحرام الوقوع فى الرفث والفسوق والعصيان فإن العابد الصوفى يطوف بالضريح بخشوع وخضوع ، والطواف بالقبر المقدس يعنى لمسه والتبرّك بأعتابه وزجاجه وقماشه وخشبه ، وحتى أقفاله ، حتى لو كان قفل المقصور مصنوعا فى الصين .!!

ثم لكل ضريح منها أيام مخصوصة ( موالد ) أو حرم زمانى يقصده فيها الناس بمثل ما يقصد المسلمون بيت الله فى أوقات معلومة موحدة فى العام . والمقارنة بين مناسك الحج الإسلامى ومناسك الحج الصوفى تستحق وقفة متأنية وبحثاً منفصلاً ولكن منهجنا هنا هو فى كيفية تأدية المناسك فى الحج الصوفى فى مصر المملوكية .

2 ـ وفى البداية فإن مراسم الحج التى للكعبة قد طبقها المصريون فى زيارتهم أو حجهم لضريح البدوى أشهر الأولياء. مقابل أشهر الحج ىللبيت الحرام فهناك موسم محدد للحج للبدوى، هو المولد الكبير فى نهاية  شهرأبيب وأول شهر مسرى بالإضافة إلى المولد الصغير والمولد الرجبى .وكما أن العمرة الإسلامية طوال العام فإن زيارة ضريح السيد البدوى مفتوحة أيضا طوال العام .  وفى موالد البدوى يقوم المصريون بكل مراسم الحج من قدوم وطواف وسعى وتقديم (عجل السيد) نذراً والتمسح بالحجر الأسود عند الضريح. وهناك شعرمنسوب للبدوى يلخص هذه المناسك يقول ..

ألا أيها الزوار حجوا لبيتنا

                        وطوفوا بأستار له تبلغوا المنى

وعند الصفى فاسعوا وحلوا

                       رحالكم تحط ذنوب فى مواطن أمننا

وفى يوم عيد الوصل أوفوا بنذوركم

                         كذا تفث فاقضوا وطوفوا ببيتنا

فكل زمان فيه وصلى فعيدكم

                          وكل زمان فيه قربى لكم منى[9]

 

ومن الناحية العملية فإن تلك الطقوس تقام عند الحج لأى ضريح صوفى ،إلا أن المراجع فى العصر المملوكى ذكرت تلك الطقوس متفرقة فى ثنايا الحديث عن الأضرحة وأصحابها الصوفية .

3 ـ فالإحرام (السّنى ) بالتجرد من لبس المخيط  جعلوه من أهم مراسم الحج لمولد وضريح عبد الرحيم القنائى ،وهو أشهر الأولياء فى الصعيد . وفى مناقب عبد الرحيم القنائى أنه "اتفق أهل بلاده على تجربة إجابة الدعاء عند قبره : يوم الأربعاء يمشى الإنسان حافياً مكشوف الرأس وقت الظهيرة ويصلى ركعتين، ويقرأ شيئا ًثم يقول: اللهم أنى توسلت إليك بجاه نبيك وبأبينا آدم وحواء وما بينهما من الأنبياء والمرسلين وبعبدك عبد الرحيم إقضى حاجتى"[10].

وكان الناس يمارسون هذه الطريقة فعلاً حتى أن الأدفوى مؤرخ الصعيد  فى كتابه ( الطالع السعيد ) ذكرها داعياً لها ،  يقول " هناك فائدة اسمها فائدة الأربعاء وهى أن يتجه الفرد يوم الأربعاء من كل أسبوع إلى مزار السيد القنائى بعد الظهر حافى القدمين، ثم يتوضأ ويصلى ركعتين، ويقرأ شيئاًمن القرآن الكريم ثم يدعو هذا الدعاء : اللهم أنى أتوسل إليك بجاه نبيك وبأبينا آدم وحواء .. إلخ[11]. . ولا تزال هذه الطريقة متبعة حتى الآن ..

وتطرف الصوفية فى مناسك الإحرام فأوجبوا خلع الحذاء، وليس  ذلك فى مناسك الإسلام من صلاة وحج . والمسلم الآن لا يجرؤ على الوقوف أمام ضريح وهو يرتدى حذاءه، بينما يسمح له الإسلام بالصلاة فى النعال ، ويروى الشعرانى عن شيخه الخواص أنه كان إذا زار السيدة زينب بادر بخلع نعله من العتبة ومشى حافياً حتى يجاور مسجدها[12]..

4 ـ والطواف حول كل ضريح من المناسك العادية والمشهورة، إلا أن ابن دقماق يذكر طريقة للطواف كان يمارسها المصريون على سفح الجامع العتيق ( جامع عمرو أو مسجد الفسطاط ) تماثل طريقة الطواف عند الكعبة . يقول " والطواف به سبع مرات ، يبدأ بالأولى من باب الخزانة الأولى التى يستبقلها الداخل من باب السطح ، وهو يتلو ، إلى أن يصل إلى زاوية السطح اليسرى عند المأذنة المعروفة بعرفة، يقف عندها ، ثم يدعو بما أراد،يمر وهو يتلو إلى أن يصل إلى الركن الشرقى عند المأذنة المشهورة بالكبيرة ، ثم يدعو بما أراد ،ثم يمر إلى الركن البحرى فيقف فيه محاذياً لغرفة المؤذنين ، ثم يدعو بما أراد، ثم يمر وهو يتلو إلى المكان الذى ابتدأ منه، ثم يفعل ذلك سبع مرات.."[13]

فهنا طواف سبع مرات ، وبداية ونهاية للطواف ، وأركان، و( ديكورات مصنوعة ) تمثل الصفا والمروة، ووقوف بمأذنة سموها عرفة، ودعاء فى الطواف، ولم يبقى إلا العثور على بئر زمزم لتتكامل الصورة، ولن نتعب كثيراً فقبل هذا الكلام حديث عن البئر التى فى الجامع – مع أن النيل قريب جداً من الجامع- ولكنه لزوم الديكور، يقول ابن دقماق عن تلك البئر ومائها " ومنها عند خزرة البئر الذى بالجامع .. أخبرنى من جرب ذلك غير مرة، وذكر أن ماء البئرالمذكورة من شربه أو استحم به للحمى زالت عنه[14]. أى أن ماء البئر(لما أُخذ له).  ومعناه أن الصوفية حولوا أول مسجد إسلامى أنشىء فى مصر إلى كعبة ( مصرية ) يضاهئون بها بيت الله وشرعوا لهم مناسك ما أنزل الله بها من سلطان .

بل أطلقوا على مسجد الفسطاط أو مسجد عمرو بن العاص :( المسجد العتيق ) تشبيها له باسم البيت الحرام ( البيت العتيق ) (ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)( الحج )، فكما إن جامع عمرو هو أول مسجد فى مصر فإن البيت الحرام هو أول بيت وُضع للناس :(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)  ) ( آل عمران )

5 ـ والوقوف فى مكان معين يشير ويماثل الوقوف بعرفة ، وتكررت عبارة الوقوف فى سطور ابن دقماق فى حديثه عن مناسك الحج لمسجد الفسطاط ، بالاضافة الى المأذنة التى سمّوها ( عرفة ) : (والطواف به سبع مرات ، يبدأ بالأولى من باب الخزانة الأولى التى يستبقلها الداخل من باب السطح ، وهو يتلو ، إلى أن يصل إلى زاوية السطح اليسرى عند المأذنة المعروفة بعرفة، يقف عندها ، ثم يدعو بما أراد،يمر وهو يتلو إلى أن يصل إلى الركن الشرقى عند المأذنة المشهورة بالكبيرة ، ثم يدعو بما أراد ،ثم يمر إلى الركن البحرى فيقف فيه محاذياً لغرفة المؤذنين ، ثم يدعو بما أراد، ثم يمر وهو يتلو إلى المكان الذى ابتدأ منه، ثم يفعل ذلك سبع مرات  )

على أن الوقوف بعرفة فى المسجد العتيق لم يكن الوقوف الوحيد فى مناسك الحج  الصوفى .فالسخاوى الصوفى يذكر( أن العلماء –لاحظ وصفه لهم بالعلماء –والزوار كانوا يقفون عند قبر القمنى ويجعلون صلة- أى قبر صلة ابن ألآيهم - أمامهم وسالماً العفيف عن يمينهم وأبا الحسن الصائغ عن شمالهم ويدعون فيستجاب لهم)[15]. فهنا وقوف محدد فى بقعة معينة شرعها علماء الصوفية وطبقوها، وزعموا أن الدعاء بذلك مستجاب . ولا يجرؤ أحد على ان يسألهم عن دليلهم فى أن هذا يضمن إستجابة الدعاء .!! ويقول السخاوى عن وقوف آخر "إن من وقف بين قبر المحاملى والأنبارى ودعا بما شاء استجيب له"[16]. ويقول "وكل من وقف بين مشهد عبد الله بن عبد الرحمن الزهرى وبين قبر الشريف المؤيد ودعا استجيب له وجُرّب ذلك ..[17]. فالدليل هنا هو زعمهم بأنّ هذا صحيح بالتجربة . وفى نفس الوقت ينهون من يتوسل أن يفعل ذلك عن طريق التجربة بل لا بد أن يكون مخلصا فى إعتقاده .. تناقض كالعادة.!

6 ـ وضمت المناسك الصلاة والقراءة. ففى الحج لقبر فخر الدين الفاسى ذكر ابن الزيات والسخاوى أن أحدهم رأى النبى (ص ) فى رؤيا منامية يقول فيها : ( إن من توضأ ثم صلى فى المسجد ركعتين يقرأ فى الأولى فاتحة الكتاب وسورة تبارك وفى الثانية فاتحة الكتاب وهل أتى على الإنسان ، ويخرج من المسجد ووجهه إلى القبلة إلى أن يأتى قبر أبى الخير التيتانى لم يسأل حاجة إلا أعطاه إياها "[18]. ) .وهنا تشريع يفترى على الرسول كذباً ليكتسب مصداقية لدى الناس وليشيع شهرة لأولئك الأولياء الموتى ليحجّ اليهم الناس .

7 ـ واختصت المناسك الصوفية باختراع جديد لا يزال بعض علماء الأزهر يمارسونه حتى الآن ، وهو إسناد الظهر للضريح والتوسل به على هذا الشكل. وكان يفعل ذلك رئيس لجامعة الأزهر فى السبعينيات، كان يسند ظهره إلى ضريح الحسين ويتوسل به، وكان يفخر بذلك أمامنا ونحن طلبة فى الدراسات العليا. !

وقد أشار ابن الزيات إلى هذه الطريقة فى حديثه عن مسجد الرحمة " مسجد بنى قرافة " قال فيه "وقد كان من يلحقه من المصريين أمر ضايقه أو أصابته شدة يقصد هذا المسجد ويصلى فيه ،ويسند ظهره للعمود الذى فى وسطه،الذى عليه صفة منامه ورؤيا النبى فيه ،وأنه يأمر بالدعاء فيه، فتزول همومهم وتفرج غمومهم وتقضى حوائجهم [19].  

وروى ابن الزيات عن بعضهم أنه مرض مرضاً شديداً فرأى فى المنام من يقول له " أمضى إلى قبر عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، وقف بينه وبين الشريف المدفون معه فى التربة ، وألصق ظهرك إلى الحائط وابتهل إلى الله، فلما أصبح فعل ذلك فعافاه الله، قال : وما وقعت بعد ذلك فى شدة أو تعسرت علىَ حاجة إلا أتيت المشهد ،ودعوت، فيستجاب لى ". 

 رابعا : - المناسك المالية :

1 ـ ويقصد بها النذور التى كان الحجاج يقدمونها للأولياء وسدنة الأضرحة .. وقد حرص الصوفية على هذه المناسك بالذات حتى لقد ارتبط الحج الصوفى بتقديم النذور للأضرحة والأولياء .

ومعلوم أن النذر فى الإسلام لا يكون إلا لله وحده، يقول جل وعلا : (وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (270)( البقرة ). وفى تقديم النذور فى الحج يقول جل وعلا محذرا من رجس الأوثان ومن إفتراء الأكاذيب وقول الزور :( ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) الحج ). وقد ذكر رب العزة جل وعلا أن الجاهليين كانوا يقدمون النذور لله وللأولياء، ولأن الأولياء فى اعتقادهم هم الواسطة بينهم وبين الله فكانوا يقدمون كل النذور إليها بالأصالة وبالوساطة أى هى الواسطة عندهم لله ، فما يقدمون لله جل وعلا فهو أيضا لتلك الأولياء التى تقربهم لله زلفى بزعمهم ،يقول جل وعلا :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) الأنعام 136 ). وكان ـ ولا يزال الجاهليون والجاهلون ـ يحجون الى معابدهم المقدسة سراعا فى لهفة، والله جل وعلا يصور حالهم يوم البعث بحالهم وهم يسارعون الى الموالد والحج للقبور المقدسة ، يقول جلّ وعلا عن يوم البعث : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)(المعارج ). والى معابدهم المقدسة كانوا يقدّمون أيضا الهدى، أى ينحرون الذبائح قربانا للولى المدفون المعبود . والله جل وعلا حرّم الكل ممّا( ذُبح على النّصًب ): (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) (3)( المائدة ).

2 ـ والغريب أن العصر المملوكى كان يطلق على القرابين التى تقدم للأولياء نذوراً، بينما يطلق على النذر المقدم لله قرباناً . ففى طاعون 822 قيل عن المؤيد شيخ " ذبح بيده قرباناً قربه إلى الله تعالى نحو مائة وخمسين كبشاً سميناً"[20]. ).

3 ـ والعادة أنّه عندما يموت الولى يقام على قبره ضريح ،وتشاع حوله الكرامات، فيتوافد عليه الحجاج، وتقدم له النذور والقرابين ويلاحظ أن موالد البدوى الثلاثة لا يتفق واحد منها مع تاريخ ميلاده أو حتى تاريخ وفاته، وإنما روعى فيها فقط أوقات النيل والزراعة والرى  ولتمكين أكبر عدد من الفلاحين من حضور المولد وجيوبهم عامرة بالأموال بعد بيع المحاصيل [21].

4 ـ وفى كتاب عبد الصمد الأحمدى عن البدوى وأتباعه ارتبطت الموالد بالقرابين التى تقدم للأضرحة، يقول : (فالموالد العظام أقيمت للشيخ يوسف الأنبابى) . والموالد إذا كانت عظيمة فالنذور فيها أعظم. ويقول عن أولاد الشيخ أحمد المعلوف بالقليوبية إن لهم  نذورا ، ويزعم أنّ ( كل من قطعها خربت دياره، ) وهذا تهديد لمن يحنث بالنذر ، ويعترف عبد الصمد أن أولاد هذا الولى الصوفى عصاة ، ومع ذلك فكرامات أبيهم سارية :( رغم كونهم على غير نعت الإستقامة )، وعن الشيخ على البريدى:( ينذر الناس له النذور.) والشيخ عمر الشناوى:( يُعمل له مولد عظيم .. ويحصل فيه مدد عظيم ) ،أى نذور عظيمة[22].

5 ـ وكان تقديم النذورإلى الضريح دلالة على الحج إليه فى المصادر التاريخية والصوفية، يقول المناوى عن البدوى  "وجعلواعلى قبره مقاماً واشتهرت كراماته وكثرت النذور إليه وعظُم أمره "[23]. ويقول المقريزى عن ضريح الدسوقى " قبره إحدى المزارات التى تحمل إليها النذور ويتبرك بها "[24]. ويقول عنه آخر "يزورونه ويقصدونه بالنذور وغيرها "[25]. . وقيل عن جد أبى المواهب الشاذلى "كان من الصلحاء ، وله ضريح بسنهور مقصود بالزيارة والنذور"[26].

6 ـ وحين ينصرف الناس عن أحد الأضرحة ولا يحجون إليهم ينعدم نصيبه من النذور، يقول ابن الزيات عن مسجد بنى قرافة " وكان هذا المسجد الشريف كثيراً ما تأتيه النذور بالشموع والخلوق والبخور، فغفل الناس عنه، وهو اليوم مهجور"[27].

7 ـ ولهذا حرص الصوفية من سدنة الأضرحة على استمرار نشر الكرامات لضمان توافد الحجاج باستمرار وضمان سيل النذور،وبلغ حرصهم حد التهديد بمعاقبة من لا  يوفى بالنذر . ولا يزال الفلاحون وأبناء البيئات الشعبية  فى المدن يتخوفون من عدم الوفاء بنذر الأولياء تأثراً بتلك الأساطيرالتى أشاعها الصوفية منذ العصر المملوكى . ويفترى الشعرانى أن شخصاً  نذر حصاناً لضريح الشيخ يوسف البرلسى ثم أراد الناذر أن يبيع الحصان فهرب منه الحصان ودخل قبر الشيخ البرلسى ولم يخرج منه، وقد ردد عبد الصمد هذه الأسطورة[28]. وأساطير أخرى من هذا النوع رددتها مراجع الصوفية[29].

8 ـ وأصبح النذر للاولياء عادة إجتماعية تحدث تلقائيا حتى بدون دعاية صوفية . فقد حدث فى العصر المملوكى سنة 781 أن شخصاً كان يتكلم من خلال حائط ، فافتتن به الناس ، وقالوا ( يارب سلّم ..الحيطة بتتكلّم.! ) . واصبحت من وقتها مثلا . صاروا يحجّون إلي الحائط  ، وبالتالى أخذوا يقدمون النذور لذلك الحائط ، يقول ابن إياس :" وصاروا يجلبون له أشياء كثيرة من الطيب والماورد ومن الزعفران كل يوم على وجه النذر" "ولما شاع أمره جاء إليه جماعة من الأمراء المقدمين والأعيان وحملوا إليه أشياء كثيرة من المآكل والمشارب وغير ذلك .. "[30].

9 ـ والناس لم يقدموا النذور للأضرحة بدون مقابل فهم يعتقدون فيها النفع والضرر.. وهكذا فللحج الصوفى أغراضه الدينية من تحقيق الرغبات وإجابة الدعوات ..



[1]
قواعد الصوفية جـ1/ 161.

[2]الطبقات الكبرى جـ2/65 طبعة قديمةز

[3]تحفة الأحباب 487 .

[4]الكواكب السيارة 288 ، 85.

[5]الكواكب السيارة 288، 85.

[6]المدخل جـ1/124 .

[7]الكواكب السيارة 128.

[8]تحفة الأحباب 117.

[9]عبد الصمد .الجواهر 122.

[10]مناقب عبد الرحيم. مخطوط ورقة 20.

[11]الطالع السعيد 157.

[12]لطائف المنن 337.

[13]الإنتصار 75.

[14]الإنتصار 75.

[15]تحفة الأحباب 261، 262، 284، 364، 365.

[16]تحفة الأحبابب 261، 262، 284، 364، 365.

[17]تحفة الأحباب 261، 262، 284، 364، 365.

[18]الكواكب السيارة 109،تحفة الأحباب4.

[19]الكواكب السيارة 179، 241.

[20]النجوم الزاهرة جـ14/79، تاريخ ابن اياس جـ2/46.

[21]عاشور.البدوى275.

[22]الجواهر 216، 7 2

[23]الطبقات الكبرى 274.

[24]السلوك جـ1/3/739.

[25]مناقب الوفائية 16.

[26]مناقب الوفائية 39.

[27]الكواكب السيارة 179.

[28]الطبقات الكبرى جـ2/95، الجواهر 27.

[29]مناقب الفرغل 14، 15. الكواكب السيارة 217، 218.

[30]تاريخ ابن إياس جـ1/2/246.

اجمالي القراءات 12228