كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين
الباب الثالث : الحج فى الدين الصوفى
الفصل الخامس :( دعوة الصوفية لتحقير الكعبة )
أولا : إستنكاف الصوفية من التوجه للكعبة في الصلاة:
1ـ يقول ابن عربي (اتفق المسلمون على أن التوجه للقبلة شرط من شروط صحة الصلاة ، ولولا أن الإجماع سبقني في هذه المسألة لم أقل أنه شرط .! )[1]. أى أنه لولا إجماع المسلمين على التوجه للكعبة في الصلاة لما سلم ابن عربي بهذا الشرط في الصلاة ، ففي كلام ابن عربي رائحة تشكيك حين يقول ( اتفق المسلمون) و (الإجماع) فهو يوحي بأن التوجه للقبلة في الصلاة جاء شرعا من اتفاق المسلمين واجماعهم وليس مصدره الشرع القرآني .
والتوجه للكعبة جاء أمراً صريحاً للنبى عليه السلام والمؤمنين في القرآن الكريم ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ )( 144) (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ )(150) البقرة ) . وطبق الرسول عليه السلام ذلك الأمر وتبعه المسلمون .ثم جاء ابن عربي فى القرن السابع الهجرى ليتجاهل هذه الآيات الصريحة، ولينزل بدرجة التشريع في التوجه للكعبة إلى مجرد الإجماع ، ولولاه ما اعتبر الكعبة محلاً للتوجه في الصلاة ..
2- والشعراني – في العصر المملوكي – يتابع استاذه ابن عربي في محاولة التشكيك في الكعبة كقبلة للصلاة، يقول وهو ينسب الرأى لشيخه الخواص ( وكان الخواص أميا لا يقرأ ولا يكتب ) : ( وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول مراراً : الإنصراف عن الصلاة إلى أى جهة شاء خاص بالأكابر الدائرين مع الأمر لا مع العلل ، فإذا رجّح الشارع بقعة قلدناه في ذلك ونسخنا ما في عقلنا ، وتأمل لو قال إنسان أن بقعة الكعبة كآحاد البقاع لا شرف لها مع غيرها ، كيف يخطّئه المسلمون كلهم )[2].
فالشعراني يرى أن من حق الأكابر – وهم عنده الأولياء الصوفية – أن يصلّوا إلى أى جهة شاءوا دون التقيد بالقبلة . أما صغار الصوفية فمضطرون للتقليد والتوجه للكعبة ومخالفة العقل – عقلهم، الذى يرى ان الكعبة لا تشرف على غيرها من بقاع الأرض،وحرصاً منهم على ألا يخطئهم اجماع المسلمين..
3 ـ والطريف أن الصوفية يتمسحون بالعقل حين يرفضون تميّز الكعبة بالشرف على غيرها.. ومعلوم أن الصوفية دائماً ينبذون العقل ، فكيف يحتج به الشعراني حين يقول (فإذا رجح الشارع بقعة قلدناه في ذلك ونسخنا ما في عقلنا، وتأمل لو قال إنسان.. إلخ)..
والعقل الذي ظهرت أهميته فجأة للشعراني لا يوافق الصوفية على هواهم إذا كان عقلاً إسلامياً، فالعقل الإسلامي يستجيب لأمر الله تعالى دون لجاج أو جدال ، ويؤمن ويصدق بإخلاص شرف الكعبة كبيت لله تعالى وكحرم اختاره وفضله على سائر بقاع الأرض.. فهى كذلك طالما قال سبحانه وتعالى: ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)المائدة97) (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (91) النمل91 ). والعقل الإسلامي يرفض أن يكون صاحبه ممّن يصد الناس عن بيت الله الحرام في الصلاة والحج،ويتعرض لعقوبة رب العزّة جل وعلا، وهو القائل : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) الحج )
4- والواقع أن التشكيك الصوفي ضد اتخاذ الكعبة قبلة في الصلاة يحركها حقد صوفي دفين ، ينقم على الكعبة أن تكون – دون الولي الصوفي – محل إتّجاه الناس. فالشيخ الصوفى يتمنى ان يتوجه اليه الناس بصلاتهم وليس نحو الكعبة، والمريد الصوفي يتمنى لو يتوجه بصلاته إلى شيخه وليس للكعبة ، ويرى في إرغامه في الاتجاه للكعبة عائقاً عن بلوغ الغاية في تقديس الشيخ ،ويتضح ذلك من قول أبى العبّاس المرسي : ( لو كان الحق سبحانه وتعالى يرضيه خلاف السّنة لكان التوجه في الصلاة إلى القطب الغوث أولى من التوجه إلى الكعبة)[3]. ( المرسى أبو العباس ) هنا جعل التوجه للقطب الصوفي أولى في الحقيقة من التوجه للكعبة، وعلل الإتجاه للكعبة بأنه مجرد متابعة للسنة . إنّ الأمر بالإتجاه للكعبة ورد في القرآن الكريم ، بيد أنّ ابا العباس المرسى يتابع ابن عربي في التهوين من أدلة التشريع قي إتخاذ الكعبة قبلة . والمرسي يعنى نفسه في مقالته الآثمة تلك في الاتجاه بالصلاة إلى القطب الغوث ، فقد كان يزعم إنه هو القطب الغوث .!! أى يريد أن يتوجّه الناس اليه فى الصلاة بدلا من الكعبة ، لولا ( السّنة ) حسب زعمه . وقد ذكر ابن عطاء تلميذ أبى العباس المرسى في ترجمته ما يؤيد ذلك.. يقول ابن عطاء فى كتابه ( لطائف المنن ) الذى كتبه فى مناقي المرسى والشاذلى : ( واخبرني الشيخ نجم الدين أيضاً قال: قال لي شيخي : إذا لقيت القطب فلا تصلين وهو وراءك،فجئت يوماً إلى أبي العباس وهوبالإسكندرية عند صلاة العصر فلما دخلت عليه قال: أصليت العصر قلت: لا ،قال: قم فصل. وفي المكان الذي هو فيه إيوانان قبلي وبحري، وكان الشيخ جالساً في البحري ، فلما قمت لأصلي ذكرت ما قاله شيخي إذا لقيت القطب فلا تصلين وهو ورائك وعلمت أني إذا صليت كان الشيخ وراء ظهري، فأقام الله بقلبى حاله، وقلت حيثما كان الشيخ هناك القبلة، فتوجهت ناحية الشيخ واردت أن أكبِر،فقال الشيخ : لا،هو لا يرضيه خلاف السنة)[4].، أى تواضع المرسى أبو العباس ورفض أن يتوجه اليه مريده بالصلاة لأنّ ذلك يخالف ( السّنة ).!!
ثانيا حقدهم على الكعبة والطواف بها في الحج :
1- في الوقت الذي يعتبر فيه الصوفية شيخهم مستحقاً للتقديس وقبورهم موضع العبادة، وفى الوقت الذى يدعون فيه الناس لتقديس شيوخهم وقبورهم المقدسة فإنهم من واقع هذه العقيدة يحقدون على الكعبة ويعتبرونها وثناً منافسا لهم ، يستأثر من دونهم باتجاه الناس إليه وطوافهم حوله . والمرسي أبو العباس صاحب القول السابق في أحقية القطب بالاتجاه إليه في الصلاة ، يقول للحجّاج المتوجهين للكعبة : ( إذا وصلتم إلى مكة فليكن همكم رب البيت لا البيت، ولا تكونوا ممن يعبد الأصنام والأوثان ) [5]...
بيد أن هذا المعنى أصيل في العقيدة الصوفية أورده الجنيد – المشهور بالاعتدال – ضمن قصة ــ وأسلوب القصص من طرق التشريع الصوفي ــ فالجنيد يحكي أن امرأة مجهولة قالت له حين الطواف (أنت تطوف بالبيت أم برب البيت ؟ قلت : أطوف بالبيت، فرفعت رأسها للسماء وقالت : سبحانك سبحانك ما أعظم مشيئتك في خلقك ، خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار ، ثم انشأت تقول :
يطوفون بالأحجار يبغون قربة
إليك وهم أقسى قلوباً من الصخر
وتاهوا فلم يدروا إليه سيرهم
وحلوا محل القرب في باطن الفكر
فلو أخلصوا في الود غابت صفاتهم
وقامت صفات الود للحق بالذكر..
قال الجنيد: فغشى على من قولها،فلما أفقت لم أرها) [6].
وبهذه الأقصوصة الخيالية يشرع الجنيد – سيد الطائفة الصوفية عندهم – أن الحج للكعبة هو تقديس للأحجار وأن الأفضل منه أن يعمر الباطن بالتصوف، وتفنى فيه الصفات البشرية لتقوم مكانها صفات الحق ويتحقق الرجل بالله، ويصبح الاها حسب المعتقد الصوفى فى الاتحاد بالله ( تعالى عن ذلك علوا كبيرا ) وبالتالى فلا داعى للحج أو أى عبادة ، وطالما إنّحد بالله فيستغني عن الكعبة وغيرها، وكيف يحج للكعبة حينئذ وقد أحيا الألوهية في داخله حين زال الحجاب عن بشريته وتحقق بالحق؟؟ على زعمهم.!!
2- ولمجرّد التذكير ، نكرر ونؤكّد على الآتى :
2 / 1 : إنّ الله سبحانه وتعالى - هو وحده - المشرع في دينه، و المؤمن مطالب بالطاعة السريعة لكل أوامر الله تعالى حتى لو عجز عن فهم المقصود منها ، فيكفيه أن الله تعالى أمر بذلك فيسارع بالطاعة. بذلك يلتزم كل مؤمن وكل المؤمنين ، وأولهم الملائكة. فالله سبحانه وتعالى ينهى عن السجود لغيره ، ومع ذلك اختبر الملائكة فأمرهم بالسجود لآدم فسجدوا أجمعين.وسجودهم ليس لذات آدم أو شخصه وإنما إطاعة لأوامر الله تعالى . والله جلّ وعلا ينهى عن قتل الأبناء ، ومع ذلك أمر ابراهيم عليه السلام بقتل ابنه. وجاء الأمر فى صورة منامية غير مباشرة .إلا أن ابراهيم سارع مع ابنه اسماعيل – عليهما السلام – بتنفيذ الأمر، وكان الفداء ، ونجح الوالد والولد فى إختبار الطاعة.
والله تعالى اختبر عباده بالفرائض كالصلاة والصيام واختبرهم بالنواهى ..وغيرها ، وغاية المؤمن أن يسارع بالطاعة انصياعا لأمر الله تعالى وحباً فيه .. ومن ذلك أن الله تعالى أمر ألا يقدس غيره ومع ذلك أمر أن يطاف حول موضع معين فى الأرض ،والمؤمن مطالب بالطاعة حتى لو خفى عليه –إلى حين – الحكمة فى الأمر.. هذا شأن المؤمن . وقد عصى إبليس ربه ورفض الأمر بالسجود لآدم : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) الإسراء )،وجادل ابليس وأبى واستكبر ، فحقت عليه اللعنة . وعلى طريقه سار أولياؤه من بعده يشككون فى أوامر الله تعالى ويشرعون لأنفسهم ، ومن ذلك موقفهم من الكعبة حيث اعتبروها وثناً، أما أنصابهم والطواف عليها وتقديسها فذلك دينهم .
2/ 2 : الصوفية المسلمون أكثر البشر عبادة للأحجار والأوثان والأنصاب . ومع ذلك هم يتهمون الكعبة بأنها وثن . وأن الطواف حولها عبادة للأوثان ، وتناسوا أنهم يطوفون بأضرحتهم وأوثانهم وأنصابهم ، ثم لا يعتبرون هذا عبادة للأوثان . مع أن الأمر مختلف تماما فى موضوع الكعبة والطواف حولها . لقد استغل الصوفية الفرصة فى أن الكعبة مقامة من أحجار لا تختلف ــ حقيقة ــ عن الأحجار التى يطوف حولها عبدة الأنصاب والأصنام ، فقاموا يشككون ويصرحون بأنها وثنً معبود ، وتناسوا أن المراد ليس تعظيم الكعبة وأحجارها وإنما المراد هو تعظيم الآمر تعالى بإطاعة أمره، حتى لو تعارض ذلك الأمر مع مبلغ علم الناس وغاية اجتهادهم .
2/ 3 : إن لله سبحانه وتعالى فى كل أوامره ونواهيه حكمة بالغة قد تعلو على مدارك الناس فى عصر معين . إلا أن الله سبحانه وتعالى يدّخر كشفها وإبانة وجه التشريع فيها إلى عصر لاحق لتكون فيه إحدى الآيات المتجددة. ومن ذلك أن الله تعالى حرم الأكل من الميتة، وقد جادل المشركون في ذلك بحجة أن الميتة قتلها الله فكيف نفضل عليها ما نذبحه نحن.. وقد رد القرآن آمراً المسلمين بعدم الجدال معهم : ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121 )الأنعام ).. أى إن أطعتموهم في الجدال في أوامر الله تعالى لأصبحتم مثلهم من أولياء إبليس الذي عصى ربه وجادل في أمره،وقد اكتشف عصرنا خطورة الأكل من الميتة وأن الذبح بالطريقة الإسلامية أطهر وأفضل وأكثر صوناً للذبيحة من الفساد والتلوث، أو هى(زكاة) وتطهير للذبيحة .
وقد اكتشف عصرنا الحكمة في اتخاذ الكعبة قبلة ومقصداً للحج، فقد اكتشف بالصدفة أن مركز الأرض يقع في مكة بالضبط.. وقد أقيمت مكة حول الكعبة تحوطها من جميع الجهات، ومعنى ذلك فالكعبة هى منتصف مكة وهى النقطة الوسطى لهذا الكوكب الأرضي .. وإذا تخيلنا الأرض كرة فإن نقطة الكعبة هي التي تلتقي عندها جميع المسافات بالتساوي . وقد ظهر ذلك حديثاً في معرض اجراء للمسافات البحرية طولا وعرضا استخدمت فيه أحدث وسائل القياس العصري الإلكتروني .
وكما قلنا فالكعبة ليست حيطاناً تقام، فقد أقيمت تلك الحيطان وتهدمت أكثر من مرة ، وإنما هي مكان يقام حوله بناء يحدده مكان يمثل مركز الأرض، لذا يقول تعالى عن بناء ابراهيم للكعبة (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ )(26)( الحج), أي بيّنا له المكان فقام برفع قواعده (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) البقرة 127).، أى كانت قواعد واساسات البيت العتيق موجودة ، ورفعها ابراهيم واسماعيل عليهما السلام ، وأقاما حوائط البيت أو الكعبة . فالطواف حول المكان وليس البناء ، ولذلك فإن الطواف يحرم فيه لمس البناء أو الكعبة،حتى لا يتحول لمس البناء إلى تقديس للحجر.
ولقد جعل الله من هذه النقطة في الأرض حرماً مكانياً له.. حرَمه ، وأمر بالحج إليه ، وجعل الرسالة الإسلامية الخاتمة تنبع من هذا المكان كمركزالعالم ، والرسالة الخاتمة رسالة عالمية فناسب أن تنبع من مكة مركز العالم. وإليها يتوجه المسلمون من كل أنحاء العالم خمس مرات حين الصلاة ، ويتوافد إليها الحجاج من كل فج عميق في الأشهر الحرام يحجون للبيت العتيق ، أقدم بيت أقيم على هذه الأرض المعمورة : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29 0(الحج ) ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97 )(آل عمران ).
ومن إعجاز القرآن الكريم أن أشار إلى أن مكة هى مركز الأرض ، ولذا كان اختيارها مهداً للنبي الخاتم والرسالة القرآنية العالمية ، يقول تعالى عن القرآن ومكة مركز العالم :(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) الشورى). فمكة هي أم القرى ، أى مركز الكرة الأرضية ومركز هذا العالم بكل قراه وتجمعاته السكانية..والرسول مبعوث بالقرآن الرسالة العالمية لينذر أم القرى ومن حولها من قرى أى كل العالم ، وإذا مات فعلى أتباعه أن يواصلوا مسيرته ويصلوا بدعوته إلى كل قرية في العالم معززين بالقرآن المعجز لكل عصر ومكان. يقول جل وعلا : (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا )(92) (الأنعام 92).
2/ 4 ـ وهكذا يتبين لنا حكمة الله تعالى بتشريعه الحج للكعبة والتوجه نحوها في الصلاة ، فالبيت الحرام هو الحرم المكاني في منتصف الكرة الأرضية ، وقد جعله الله تعالى للناس جميعاً مثابة للناس وأمناً، في كل الأيام، ولله تعالى حرم زماني وهو الأشهر الحرم (تبدأ بذي الحجة وتنتهي بربيع أول) وفي الحرم الزماني أو الأشهر الحرم منع الله تعالى القتل والقتال (التوبة 1 :5، 27) وجعل الحج أثناء هذه الأشهر الحرم ( البقرة 197 ) وأراد الله تعالى فيمن يحج إلى الحرم المكاني (الكعبة) في وقت الحج أى الحرم الزماني أى الأشهر الحرم أن يكون محرماً يؤدي مناسك الحج ، ممتنعاً عن بعض المباحات ، مخلصاً قلبه حتى من نوازع الشر (الحج25) وهذا هو معنى الحج، أي تتعانق الحرمات الثلاث(الحرم المكاني والحرم الزماني والحرم الإنساني) أي القلب فيمتنع القلب المؤمن عن تقديس غير الله وعن إرادة الشر (الحج25) ويؤدي مناسك الحج في أفضل حالات التقوى . وشيوخ الصوفية بعلمهم اللدنى المزعوم أجهل الناس بالاسلام والقرآن ، وقد استخدموا جهلهم اللدنى فى ( تحقير ) الكعبة وبيت الله الحرام .
ثالثا : تفضيل الولى الصوفى على الكعبة
1 ـ وقلنا إنّ التشكيك الصوفي في الكعبة كقبلة للصلاة أو كمقصد للطواف ينبع من رغبة دفينة في أن يتجه الناس إليهم بدلاً منها . وسنبحث فيما بعد مظاهر الحج الصوفي للأنصاب والأولياء. وإنما نعرض الآن لمحاولات الصوفية في تفضيل الولي الصوفي على الكعبة لنتعرف على هدفهم في عداء الكعبة ..
2 ـ يقول الغزالي في الإحياء حديثاً موضوعاً لا أصل له وهو(أن الله تعالى شرف الكعبة وعظمها، ولو أن عبداً هدمها حجراً حجراً ثم أحرقها ما بلغ جرم من استخف بولي من أولياء الله تعالى)[7].
وقد أورد الشيخ النويري الصوفى الاسكندرى فيما بعد هذا الحديث في كتابه (الإلمام ) ، ذكره بنصّه ، وأضاف حديثاَ آخر مفترى يقول( من آذى لي ولياً من أولياء الله تعالى فكأنما هدم الكعبة سبعين مرة ) [8]. وهما متأثران بحديث الولي فى البخارى ( من آذى لى وليا فقد آذنته بالحرب ..!!..).
فالصوفية يجعلون من الاستخفاف بأحدهم جرماً يعظم على تدمير الكعبة وإحراقها.. فهو تفضيل لا يخلو من حقد، وإلا فما الداعي لقولهم (ولو أن عبداًهدمها حجراً حجراً ثم أحرقها .. ) أو (فكأنما هدم الكعبة سبعين مرة) .. والمؤمن الحق يستعظم أن ينطق بذلك عن بيت الله العتيق أو أن يتخيله مجرد تخيل، أما الصوفي فيعبر عن مشاعره نحو الكعبة بهذا الإفك المفترى ، ليجعل للولي الصوفي مكانة حتى لو هدم في كلامه الكعبة سبعين مرة أو أحرقها حجراً حجراً.
رابعا : زعمهم بأن الكعبة تطوف بالشيخ الصوفى .!!
1 ـ وحقد الصوفية على الكعبة – بسبب طواف الناس حولها – جعلهم يبتكرون في كراماتهم المزعومة أن الكعبة تطوف بالولي .. يقول اليافعي (روي أن جماعة شوهدت الكعبة تطوف بهم طوافاً محققاً) وقد فصل اليافعي هذه الأخبار [9]، ويقول كاتب مناقب المنوفي (وقد حكى جماعة أن الكعبة رؤيت تطوف ببعض الأولياء)[10]. وحكى الشعراني أن الكعبة كانت تطوف (بالشيخ محيى الدين بن عربي)[11]..
وقد قال أبو العباس البصير(لله رجال يطوف بهم بيته، فنظر أبو الحجاج الأقصري فإذا الكعبة تطوف بأبي العباس،قال الأنبابي : ولا ينكر ذلك، فقد تضافرت أخبار الصالحين على نظائر ذلك)[12]..
2 ـ وإذا كانت الكعبة تطوف بهم فلا حاجة للمريد الصوفى للذهاب للكعبة ، فالكعبة عندهم وبزعمهم هى طوع أمر سيده وتطوف به فشيخه أحق منها بالطواف حوله ، وهذا ما كان يحدث، فالمريد الصوفى يطوف بشيخه ويزعم أنه رأى الكعبة تطوف بشيخه ، فشيخه أحق بالطواف حوله منها ، وقد ورد فى مناقب عبد الرحيم القنائى أن ( فقيرا صوفيا ) أى ( مريدأ ) أراد الحج فأمره عبد الرحيم ، وقال له : ( أن قم طوف بى أسبوع فقام الفقير وطاف بالشيخ ، فأنكر الراوى في نفسه فرأى فى المنام الكعبة تطوف بالشيخ فاستيقظ) فقال له عبد الرحيم القنائى مكاشفاً : (من الرجال من يروح إلى البيت حتى يطوف به ،وأنا من الرجال من يجئ البيت يطوف به)[13]. وقيل فى مناقب الوفائية أن ابن هارون ( قصد زيارة أبى الحسن الشاذلى فى خيمته،فاغتسل كغسل الإحرام، وطاف بخباءالأستاذ أسبوعاً، فأنكر عليه أصحابه فقال:والله ما اغتسلت وطفت الأسبوع إلا وقد رأيت الكعبة طايفة به)[14]. وجاء فى مناقب الحنفى أن مريدا استأذنه فى الحج فأغفى بين يديه، فرأى فى منامه الكعبة تطوف بشيخه ولما استيقظ كاشفه الحنفى فقال (الشأن) لمن يطوف بالكعبة؟ أولمن تطوف به الكعبة؟)[15].
وأثمرهذا التحقير للكعبة تهاوناً بها لدى عامة الناس، فجاء المثل الشعبى يشبه بعض الناس بالكعبة فروى الإبشيهى مقالتهم : " فلان كالكعبة يُزار ولا يزور"[16].
[1]الفتوحات الملكية جـ1/518.
[2]الميزان الخضرية 177.
[3]الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/12، الطبقات الكبرى للمناوى مخطوط261 ب.
[4]لطائف المنن لابن عطاء 101.
[5]الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/18.
[6]روض الرياحين 40.
[7]احياء جـ4/130
[8]الإلمام .. مخطوط جـ1/3.
[9]روض الرياحين 16.
[10]مناقب المنوفى 44.مخطوط.
[11] لطائف المنن 425 الطبعة القديمة .
[12]الطبقات الكبرى للمناوى .مخطوط 260.
[13]مناقب عبد الرحيم. مخطوط 12.
[14]مناقب الوفائية .مخطوط 39.
[15]مناقب الحنفى .مخطوط 369: 270.
[16]المستظرف جـ1/29، 30.