الثورة وآليات التغيير

كمال غبريال في الجمعة ٢٢ - فبراير - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

تتميز الدولة الحديثة عما سبقها من نظم سياسية عرفتها الشعوب عبر انتقالها من التكوينات الأسرية إلى القبلية ثم الكيانات الكبيرة التي شكلت الدول والإمبراطوريات القديمة، بأن الدولة الحديثة تدار بالأساس اعتماداً على العمل المؤسسي، وليس على قدرة الحاكم الفرد وكاريزميته ونبوغه أو ما شابه، فأي نظام سياسي حديث يتكون من ثلاثة عناصر، الأول مؤسسات الحكم الرئيسية، والثاني الأشخاص الذين يديرون هذه المؤسسات، والثالث العلاقات أو الـ software الذي تعمل المؤسسات وكوادرها بموجبه، ولكي تُسقط ثورة نظاماً سياسياً حديثاً يقتضي الأمر تغيير عنصرين على الأقل من الثلاثة، لكي يكون التغيير ليس مجرد انقلاب أو تبادل للسلطة، فقد تُسقط الشخصيات الرئيسية ونوعية العلاقات التي كانت قائمة، وتُبقي هياكل المؤسسات على حالها، وقد تُسقط الثورة المؤسسات ونوعية العلاقات ويبقى الأشخاص يقودون الحالة الجديدة، ويحدث هذا إذا كان هؤلاء هم قادة الثورة أو موجة التغيير، وقد تُسقط الأشخاص والمؤسسات لتعيد تشكيلها وفق نوعية علاقات أقرب للعلاقات القديمة، وهذه الحالة الأخير نادرة، إذ غالباً ما ترتبط نوعية العلاقات بطبيعة هيكل المؤسسات ونوعية وميول الأشخاص. . أما الثورة الشاملة التي تغير العناصر الثلاثة فهي صورة نموذجية مفترضة كان يصعب تحقيقها في الماضي، وربما يستحيل في الواقع المعاصر، فمع تعقد الحياة المعاصرة وتغلغل وتشابك علاقاتها، وامتداد تأثير الدولة إلى تفصيلات الحياة اليومية لشعبها، فإن المؤسسات هنا تقوم بدور حيوي لا غنى عنه، بحيث يكون إسقاطها أو هدمها هو هدم لمقومات حياة الشعوب، وهو ما لا تحتمله أي دولة وشعب، ولعل هذا أخطر ما يتهدد مصر الآن، على ضوء ما نشهد من تفسخ وانهيار لأداء العديد من المؤسسات المصرية الحيوية، سواء نتيجة للتسيب والفوضى أو عملية الأخونة أو دعاوى ما يسمى بتطهير المؤسسات وإعادة هيكلتها.
وإذا لم تكن الثورة في نظرنا مجرد تغيير أياً كان، وإنما قفزة للأمام نحو الأرقى حضارياً، فلابد أن نأخذ في اعتبارنا أن الصراع أو الجدل مع الماضي يحتل جزءاً كبيراً من كفاح البشرية في مسيرتها نحو الأرقى، فنحن نحمل الماضي في جيناتنا وثقافتنا وأسلوب حياتنا، فإن حملناه كاملاً أو بالأحرى شبه كامل معنا صرنا كما حال شعوب الشرق الآن، وإن اجتهدنا في الفكاك منه لصالح جديد متجدد نستولده، صرنا مثل تلك الشعوب التي تعرف طريقها نحو غد يأتي غالباً أفضل. . نجاح أي ثورة إذن مرتبط بما يمكن أن تجلبه من جديد، وليس مجرد عمل تبادل للكراسي، فيأتي من خلف قضبان السجون من يتبوأون كراسي السلطة، ليدخل الحكام السابقون إلى السجون.

كما أن للتغير الإيجابي أصوله ومنطلقاته، فله كذلك آلياته الكفيلة بتحقيق المرتجى، تلك الآليات التي لابد وأن تأتي متناسبة مع ظروف العصر ونوعية علاقاته بتشابكها وتعقدها، سواء ذلك التعقد الموضوعي الذي يربط الموضوع النوعي الواحد بمواضيع نوعية أخرى تنتمي لفروع أخرى من العلوم والعلاقات والمجالات، أو ذلك التعقد والتشابك الناتج عن تداخل جهات داخلية وخارجية عديدة، ما يقتضي عند العزم بالتقدم خطوة واحدة في أي اتجاه، أن نجري عمليات حسابات معقدة لا تقدر عليها الآن سوى مراكز أبحاث علمية متخصصة، يقوم عليها رجال يمتلكون من المؤهلات والخبرات ما يكفل الاطمئنان إلى قدرتهم على تسيير وتفعيل تلك الآليات الحديثة لصناعة القرار.
لنأخذ نموذجاً للإدارة "بالتهريج" في مصر الثورة الآن، حكاية طاقم مستشاري الرئيس المصري الذي وعدنا بمشروع النهضة الإخوانجية، والذين كانوا في البداية واحد وعشرين مستشاراً، قبل أن تتوالى الاستقالات لأسباب عديدة، لعل أهمها أن المستقيلين وجدوا أنفسهم "مستشارون لا يستشارون"، أو على حد عنوان المسرحية الشهيرة "شاهد ما شافش حاجة". . هذه القافلة من المستشارين من المفترض أو المعلن أنها جاءت لتحقيق مطالب ثورة نادت بتغيير شامل، ينقل مصر من حالة ركود وفساد إلى حالة التقدم والرفاهية، فالرئيس لديه الوزراء الذين هو رئيسهم الفعلي وفقاً للدستور، بما لديهم من مراكز بحثية من المفترض أنها قادرة على توفير استشارات حقيقية، فالأفراد في عصرنا هذا يستطيعون تكوين آراء بمفردهم لشخوصهم، وليس لتسيير أمة في القرن الواحد والعشرين. . المسألة إذن ليست مسألة استشارات وإنما خلق وظائف تقتسم عن طريقها كعكة السلطة وثروة الأمة التي تحتضر فقراً. . هذا بالطبع بغض النظر عن مؤهلات وقدرات هؤلاء المستشارين، وقدرات الرئيس على الاستفادة من استشاراتهم المفترضة.
علينا أن نعترف أن العجز عن العمل المؤسسي وبروح الفريق هو عجز مصري معهود وغير مستجد، وهو سمة مميزة لأسلوب العمل وعلاقاته software)) داخل المؤسسات المصرية ذاتها، أما الآن في مرحلة "الأخونة"، والتي يجري فيها انتقاء شخصيات إخوانية لتترأس المؤسسات وتعمل بالمناصب الاستشارية هنا وهناك وليس فقط في رئاسة الجمهورية، فإن الأمر يتعدى التساؤل عن الكفاءة والجدارة الشخصية لأصحاب الثقة هؤلاء في تولي مناصبهم، إلى حقيقة أنهم يتم استدعاؤهم من خارج تلك المؤسسات، أو من الدرجات الأدنى من السلم الوظيفي، ما يترتب عليه أمران غاية في الخطورة، أولهما انعزالهم عن فريق العمل المحيط نتيجة للموقف الإنساني المعادي الذي لابد وأن يضمره لهم ذلك الفريق لاستشعار بعض أفراده الظلم نتيجة تخطيهم في تولي مناصب يروا أنفسهم جديرون بها، وتضامن إنساني تلقائي من سائر العاملين معهم في مواجهة ذلك القادم الغريب، والأمر الثاني هو الروح والتوجه الذي يحكم حركة ذلك القادم على أجنحة جماعة دينية سياسية أيديولوجية، ليكون مندوباً لها منفذاً لأوامرها محققاً رؤيتها، أي أنه مكلف ليس بإنتاج قرارات وتوجهات علمية موضوعية من مؤسسته، بقدر ما هو مكلف بتوجيه إنتاج مؤسسته الفكري والعملي بناء على قرارات تم إعدادها خارجها، لخدمة أهداف ذاتية لدى الجماعة. . الأوضاع هكذا ستكون مقلوبة، وقد أضيف لعوامل ضعف كفاءة المؤسسات المصرية العديدة عاملاً جديداً بالغ الخطورة.
يحدث هذا حين يسيطر الدوجماطقيون على دولة، ويتفاقم الخطر والفشل إذا كان هؤلاء المسيطرين يتمعون بجهل وجهالة يحسدون عليها!!
kghobrial@yahoo.com
 المصدر ايلاف

اجمالي القراءات 6773