ßÊÇÈ ليلة القدر بين القرآن والعلم الحديث
1

في الخميس ٢١ - نوفمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 

مقدمة : ـأساطير التراث تحيط بليلة القدر . وعلى أساس هذه الأساطير نشأت عقولنا منذ الصغر حيث كنا ننتظر "ليلة القدر" لكي تتحقق لنا فيها الآمال , وارتبطت ليلة القدر لدى عقلية العوام بما يشبه العثور على خاتم سليمان والجن الذي يحقق الآمال . وحمل المثل الشعبي هذه المعاني في قوله " فلان انفتحت له ليلة القدر" تماما كما ينفتح القمقم ويخرج منه الجني الذي يقول : "شبيك لبيك"

وبعيدا عن هذه الأوهام التي تحقق راحة نفسية لهواة أحلام اليقظة من المحبطين واليائسين فإن ليلة القدر هي حقيقة دينية تقع ضمن الغيب الذي أخبر به رب العزة جل وعلا في القرآن الكريم , ولأن النبي محمداَ عليه السلام لم يكن يعلم الغيب ولأن القرآن أكد في عشرات الآيات أن النبي عليه السلام لم يتحدث في الغيبيات فإن حديث الله تعالى في القرآن يظل هو المرجع الوحيد الذي نتعرف منه على المتاح لنا معرفته عن ليلة القدر ..

ملامح ليلة القدر في القرآن : ـ

ــ يتجلى في ليلة القدر ملمحان , هما : نزول القرآن فيهما , وهو ملمح انتهى ومضى , ثم نزول الأقدار للبشر , وهو ملمح يتكرر سنوياً ..

عن الملمح الأوليقول تعالى عن نزول القرآن "

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ " القدر: 1 , ويقول " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ " الدخان : 3

وعن الملمح الثانييقول عن هبوط الملائكة بأقدار البشر ـ " تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ " القدر : 4 , ويقول تعالى " فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ . أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ . رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ " الدخان : 4, 5 ,6.

ويرتبط بما سبق بعض الملامح الجزئية وهى تصف ليلة القدر بأنها " خير من ألف شهر " وأنها " سلام هي حتى مطلع الفجر " وأنها " ليلة مباركة " وهذه الملامح الجزئية هي أوصاف دائمة لليلة القدر التي تأتى كل عام في رمضان . حيث نزل القرآن في شهر رمضان " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... " البقرة : 185 .

دور الملائكة بالنسبة للبشر :ــ

ــ إلا أن الملائكة هي القاسم المشترك في كل ملامح ليلة القدر . إذ أن ليلة القدر هي الموعد السنوي الذي يلتقي فيه جبريل والملائكة المرافقون له بعالم البشر . وحين جاءت بعثة محمد النبي خاتم النبيين عليهم السلام كان الموعد هو ليلة القدر الذي نزل فيه القرآن الكريم دفعة واحدة مكتوباً على قلب النبي عليه السلام , ثم نزل فيما بعد متفرقاً حسب الحوادث , ونزل القرآن الكريم رحمة للعالمين , لكل البشر , باعتباره الكلمة الإلهية الأخيرة للبشر قبل قيام الساعة . وقبل أن نتعرض للملمحين الأساسيين في ليلة القدر وهما نزول القرآن ونزول التدبير الإلهي للبشر فيها , فإننا نتوقف مع دور الملائكة بالنسبة للبشر . وهنا نضع بعض الحقائق القرآنية : ـ

(1)ـ فهذا الكون المرئي وغير المرئي  من الأرض والسماواتالسبع قد خلقه الله تعالى من أجل أن يختبر الإنسان يقول تعالى "وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً " هود : 7 ، وحين تنتهي مدة الاختبار تقوم الساعة ويتدمر هذا الكون ويتبدل بسماوات أخرى وأرض أخرى  " يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ " إبراهيم : 48

(2)ــ وهنا تتجلى عظم مسؤلية الإنسان ,الذي خلق الله الكون من أجله وسخره له في الدنيا " وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ " الجاثية : 13 , وفى هذه الدنيا يتمتع الإنسان بحرية الإرادة في الطاعة أو العصيان , في الإيمان أو الكفر , وتنزل الرسالات السماوية توضح له الحق من الباطل , وعلى الإنسان تقع الأمانة أي المسئولية والتكليف , وذلك ما تميز به الإنسان في هذا الكون " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا " الأحزاب : 72 , ويوم القيامة هو يوم حساب الإنسان على هذه المسئولية وتلك الأمانة .

(3)ــ والملائكة من عناصر ذلك الاختبار للإنسان في هذه الدنيا . وهذا هو المعني الرمزي لأمر الله تعالي لهم بالسجود لآدم , ولخلافة أدم في الأرض. وحتى حين عصى إبليس الأمر بالسجود حين كان من الملآئكة فانه بعد طرده من الملأ الأعلى أصبح يقوم بدور آخر هو غواية الإنسان لتكتمل بذلك عناصر الاختبار. بين نفس بشرية ألهمها الله تعالى الفجور والتقوى , وإرادة إنسانية حرة تستطيع أن تزكى النفس وتعلو بها , أو تفسد الفطرة السليمة وتنحدر بها "  وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا " "الشمس : 7, 8, 9, 10 " ... وبين ملائكة تنزل بالرسالات السماوية للهداية وشياطين يوحون لأوليائهم أحاديث ضالة تقوم بإفساد الدين الإلهي . " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا، شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ " الأنعام : 112 ..

(4)ـ على أن للملائكة أدواراً أخرى في حياة الإنسان الأرضية , فهناك ملائكة الموت التي تقبض النفس عند انتهاء حياته , ومنها ملائكة حفظ الأعمال التي تسجل على الإنسان أقواله وأعماله وخطرات عقله . ولكل إنسان ملكان رقيب وعتيد , وعند البعث يتحول رقيب وعتيد إلى سائق وشهيد , يسيران بالنفس الإنسانية إلى حيث الحساب ولقاء الله تعالى , يقول تعالى " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَافَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) "   

 

 

( سورة ـ ق )  ثم هناك ملائكة العذاب , ومنهم مالك " وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ" الزخرف : 77 "

(5)ومن بين الملآئكة يتميز جبريل أو الروح .

 ـ فهو الذي قام بنفخ النفس في آدم حين كان آدم بلا أب وبلا أم . وهو الذي تمثل لمريم بشرا سويا ونفخ فيها نفس المسيح . والنفخ يعني انه حمل كلمة "كن " الالهيه فكان آدم وكان الميسح "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ :آل عمران 59"

ـ وهو الذي نزل بالوحي علي كل الأنبياء "يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ : النحل 2"  "  يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ: غافر 15"

ـ وهو الذي نزل بوحي القرآن علي خاتم النبيين "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِين . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ : الشعراء 193" "قل نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ : النحل 102"

 ـ ثم هو الذي ينزل بالأقدار للبشر ليلة القدر من أمور حتمية قد كتبها الله تعالي سلفا، مثل موعد الميلاد وموعد الوفاة والمصائب المكتوبة والرزق الموعود ...

هذا هو عرض سريع لدور الملآئكة بالنسبة للبشر في حياتهم الدنيا، خصوصا الروح جبريل .

ونرجع إلي ليلة القدر التي تمثل الموعد السنوي لصلة الملائكة بالبشر، حيث كانت تنزل بالوحي،وحيث لا تزال تزل بأقدار البشر.

نزول القرآن ليلة القدر

برغم كثرة ما يقال عن ليلة القدر ونزول القران فيها فان الحقائق القرآنية في ذلك الموضوع لا تزال في أكثريتها غائبة وبعيدة عن مجال التدبر . وفي هذا المجال نقتصر من هذه الحقائق القرآنية علي ثلاثة قضايا. هي معني الوحي ، وكيف نزل الوحي في ليلة القدر وغيرها، ومتى وأين نزل الوحي ليلة القدر..

أولا: معني الوحي وأنواعه

الوحي هو طريقة تفاهم أو اتصال غير مألوفة، أي بغير الحديث العادي الذي يتم بين جانبين في وسط واحد. فالحديث بينك وبين إنسان أخر يظل اتصالا عاديا، سواء كنت تهمس إليه في أذنه أو تحدثه بالتليفون، طالما كانت وسيلة الاتصال هي اللغة والصوت والاستماع بالآذن..

أما إذا اختلف الآمر فأصبح التفاهم بينكما بغير الصوت هنا يكون الوحي أو الإيحاء له بالمعني الذي نريد توصله إليه بدون كلام وبدون صوت . وهذا ما نفهمه من قوله تعالي عن زكريا ("فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا : مريم :11") ذلك أن الله تعالي جعل آية زكريا أنه لن يستطيع أن يكلم الناس ثلاث ليال سويا، حتى يتأكد أن الله تعالي سيهبه ابنا رضيا. وتحققت الآية فلم يستطع الكلام وخرج علي قومه من المحراب يشير إليهم أو يوحي إليهم بالتسبيح وهذا هو معني الوحي

ويتأكد معني الوحي حين يكون اتصلا بين عالمين مختلفين.

وهنا ندخل علي أنواع الوحي .

فهنالك وحي من الله تعالي للملائكة "إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ  : الأنفال12"

وهناك وحي من الله تعالي إلي بعض البشر من غير الأنبياء. مثل أم موسي "إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى : طه 28" "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ : القصص 7" ومثل الوحي للحواريين "وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا : المائدة 111"

وهنالك وحي من الله تعالي للأنبياء "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ : النساء 163"

بل هناك وحي من الله تعالي للأنبياء " وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ : النحل 68"

والوحي للنحل وغيرها يعني الغريزة التي أودعها الله تعالي في هذه الكائنات وجعلها تهتدي بهذه الغريزة في حياتها ومعاشها مصداقا لقوله تعالي "الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى : طه 50" وقد يكون الوحي الإلهي لغير الأنبياء من البشر نوعا من الإلهام القوي الذي يتأكد معه أولئك البشر أنه وحي إلهي، ولكن من المؤكد أن الوحي للأنبياء يكون شيئا مختلفا لأنه نظام متكرر واتصال مستقر ومستمر ينتج عنه كتاب سماوي يقوم كل نبي بتبليغه لقومه ...

وهذا الوحي الخاص للنبي يستلزم كيفية خاصة يكون بها النبي الرسول متميزا عن باقي البشر بأنه يوحي إليه. أو كما قال الله تعالي لخاتم النبيين "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ : الكهف 110"

ثانيا كيف نزل الوحي

قلنا أن الوحي معناه يتأكد حين يكون اتصالا بين عالمين مختلفين بين الله تعالي والبشر والله تعالي في سوره الشورى(5) حدد ثلاث كيفيات لكلامه مع البشر وهي الوحي، أو الحديث من وراء حجاب، أو عن طريق ملك من الملائكة. والوحي المباشر أو الكلام المباشر حدث مع موسي عند الشجرة المباركة في طور سيناء، والوحي عن طريق ملك أو رسول الوحي حدث في نزول القرآن الكريم، وربما حدثت الأحوال الثلاثة في الوحي لكل الأنبياء مع زيادة في إحدى الطرق عن الأخرى بالنسبة لبعضهم لأن الله تعالي يقول "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ : السناء 163" أي كيفية الوحي واحدة لكل الأنبياء من نوح إلي محمد عليهم السلام ...........

بين الوحي المكتوب والوحي الشفوي

وهناك وحي ينزل كتابا مكتوبا رسالة سماوية، وهناك وحي آخر يصاحب النبي في خطواته، فالنبي موسي كان ينزل عليه الوحي قبل وبعد نزول ألوح التوراة , النبي نوح أوحي الله له في نهاية دعوته كيف يصنع السفينة . والنبي محمد نزل عليه وحي تردد صداه في القرآن، نري أمثلة لذلك في قصة بدر " الأنفال 7" وفي غزوة ذات العسرة " التوبة 118" وفي علاقة النبي بزوجاته "التحريم 3 , الأحزاب 37" ولكن يظل الكتاب مهيمنا علي ذلك الوحي، لأنه علي أساس الكتاب السماوي يتم حساب الناس يوم القيامة، وليس البشر مطالبين بشيء سواه ..

القرآن نزل مرة واحدة ثم كان ينزل متفرقا

ونتوقف بالتفصيل مع كيفية نزول وحي القرآن علي خاتم النبيين عليهم السلام ..

وخلافا للمألوف والمعهود فأن القرآن الكريم يؤكد علي أن وحي القرآن نزل مكتوبا علي قلب النبي محمد مرة واحدة ودفعة واحدة في ليلة القدر. ثم كان بعدها ينزل على ذاكرته حسب الحوادث إلي أن انتهي نزولا بآخر آية في القرآن تقول "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا : المائدة 3"

والقرآن يؤكد أنه نزل مرة واحدة القدر في ليلة مباركة في شهر رمضان. كما أن القرآن يؤكد في سور مكية أنه نزل مرة واحدة كتابا أي مكتوبا، كقوله تعالي "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ : الكهف 1" وكقوله تعالي "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ : النحل 89" "أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ : العنكبوت 51" وحين نزلت هذه الآيات التي تخبر عن نزول الكتاب كان القرآن في مكة لا يزال يتنزل , واستمر نزوله في المدينة. أي أنها تخبر عن نزول الكتاب دفعه واحدة قبل أن يتنزل على لسانه وذاكرته حسب الحوادث.

كيف نزل القرآن كتابا مرة واحدة في ليلة القدر؟

في بداية سورة الدخان يقول الله تعالي " حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ .". فكيف نزل ذلك الكتاب المبين في تلك الليلة المباركة ؟. الإجابة ترددت في القرآن الكريم في أكثر من موضع..

ـ بعضها يؤكد علي دور جبريل روح القدس الذي نزل بكلمة الله تعالي علي قلب النبي، أو كتب القرآن في قلب النبي. نلمح ذلك في قوله تعالي " قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ : البقرة 97" وفي قوله تعالي " قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ : النحل 102" وفي قوله تعالي " نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ : الشعراء 192". ونلاحظ هنا وصف جبريل بالروح وروح القدس..

ـ وبعضها يضيف لجبريل أو صافا أخري ويشير بإيجاز إلي كيفية نزول جبريل بالوحي علي قلب محمد عليهما السلام , نري ذلك في قوله تعالي عن جبريل والقرآن " إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ . ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ . مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ" وبعد هذه الأوصاف لجبريل يقول الله تعالي عن محمد مخاطبا مشركى قريش " وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ" أي أنكم صحبتم محمدا قبل النبوة وعرفتم رجاحة عقله وصدقه وأمانته فكيف تتهمونه ( عندما نزل عليه القرآن وأصبح نبيا) بأنه مجنون، ثم يقول الله تعالي عن نزول القرآن من جبريل علي محمد "وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ : التكوير 19ـ23" أي أن محمدا رأي جبريل بالأفق المبين. وهذه إشارة موجزة لكيفية الوحي يفيد بأن محمدا رأي جبريل علي هيئته الملائكية حين كان جبريل بالأفق المبين أي الأفق الواضح الذي لا غيم ولا سحاب ولا ظلال فيه ..

ـ وفي سورة النجم ـ في بدايتهاـ تفصيلات أكثر مما جاء في سورة التكوير.. وتشرح ما جاء فيها بالتفصيل ..

تبدأ السورة بالقسم الإلهي بالنجم إذا هوي أن صاحبهم ـ أي محمدا عليه السلام ـ ما ضل وما غوي حين نزل عليه القرآن ونطق به،فما القرآن إلا وحي أوحاه الله تعالي له عن طريق جبريل الذي وصفه القرآن بأنه شديد القوي ووصف كيفية نزول القرآن مرة واحدة علي قلب النبي ليلة القدر وكيف استوي جبريل وهو بالأفق الأعلي أو الأفق المبين ثم دنا جبريل من محمد وتدلي إليه ومحمد علي الأرض حتى أصبح جبريل قاب قوسين أو أدني وتلامس المخلوقان , أحدهما علوي والآخر أرضي، وكان الملاك العلوي يحمل كلمة الله الأخيرة للإنسانية، وحين هبط علي قلب محمد طبع فيه الوحي الإلهي وعندها أوحي الله تعالي إلي عبده ما أوحي وتلقي فؤاد محمد عليه السلام هذا الوحي فصار نبيا، وما كذب فؤاد محمد ما رآه  بعيني القلب (النجم1ـ11)..

ـ ولأن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا فان ما جاء في سورة التكوير عن نزول القرآن ليلة القدر تشرحه سورة النجم ..علي النحو الأتي :ـ

 

الموضوع

سورة التكوير

سورة النجم

ملاحظات

أوصاف جبريل عليه السلام

إنه لقول(رسول كريم)

     ( ذي قوة عند ذي     العرش)

     ( مكين )

     (مطاع ثم )

     ( أمين )

علمه  (شديد القوى )  

        ( ذو مرة   )

                            

-  أي قوة

الدفاع عن محمد عليه السلام بتذكير المشركين بأنهم صحبوه  قبل النبوة وعرفوا صدقه وعقـله

                           

(وما صاحبكم بمجنون)

 

(ما ضل صاحبكم وما غوى )

 

تأكيد هذا الدفاع بالقسم بالنجوم

( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس )

( والنجم إذا هوى )

 

وصف كيفية الوحي

( ولقد  رآه بالأفق المبين )

(فاستوى . وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى )

 

 

 

 

كيف نزل القرآن متفرقا :

والمستفاد مما سبق أن القرآن نزل كتابا على قلب النبي مرة واحدة ليلة القدر . ثم كان يتنزل على ذاكرة النبي حسب الحوادث , وفى ذلك يقول " وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً : الإسراء : 106 " أي نزل القرآن المقروء بلسان النبي، نزلا تنزيلا متفرقا ليقرأ على الناس على مكث , شيئا فشيئاً . إلى أن انتهى نزولا ..

وهذا الازدواج في نزول القرآن كتابا مطبوعاً في قلب النبي مرة واحد , ثم في نزوله متفرقا على ذاكرته كان يؤثر على كيفية تلقى النبي لوحي القرآن في آياته المتفرقة .

وحتى نتخيل هذا الوضع نفترض أنك رأيت مناما قويا استكن في اللاشعور عندك . واستيقظت وأنت تحس به داخلك ولكن لا تستطيع تذكره بالتفصيل ولا تستطيع الإفصاح عما يجيش في داخلك , ثم فوجئت بما رأيته في المنام يحدث أمامك وأنت تسير في الشارع . ساعتها ستقفز الرؤيا المستكنة في عقلك الباطن ويسرع عقلك الواعي بتذكرها , ويسرع لسانها بنطق ما كنت تردده في الرؤيا ..

وهذا بالضبط  ما كان يحدث للنبي في نزول الآيات , إذا كان عندما تنزل عليه آية سرعان ما يتصاعد إلى لسانه مضمونها المطبوع في مكنون قلبه , فيسرع لسانه بنطق الآية في نفس الوقت الذي يتنزل فيه الوحي بالآية على ذاكرته .. والقرآن الكريم عالج هذه الحالة الفريدة في موضعين ..  يقول تعالى للنبي " وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ. وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا  طه : 114 ".. أي لا يتعجل لسانك بقراءة القرآن قبل أن ينقضي الوحي . وقل رب زدنى علما . والعلم المقصود هو القرآن , وهذا معنى قوله تعالى عن وظيفة جبريل بالنسبة لمحمد حين نزل بالقرآن " عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى : النجم : 5 " أي أن النبي مطلوب منه أن يدعو ربه أن يزيده وحيا أو علما بالقرآن . والعجيب أن رقم الآية هو (114) أي تشير إلى أن عدد سور القرآن سيكتمل عندما يصل العدد (114) .

وفى الموضع الآخر يقول تعالى " لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ.

إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ  القيامة : 16 : 19 " أي ينهى النبي عليه السلام بألا يحرك لسانه بما يتذكره من الآية التي يوحى بها إليه , مكتفيا بأن يتتبع بلسانه ما يردد على ذاكرته من الوحي . والآيات تؤكد أن الله تعالى تكفل بجمع القرآن وببيان القرآن , حيث أن القرآن يفسر بعضه بعضا . كما حدث في هذه الآيات التي تفسر الآية السابقة من سورة طه .

ثالثا : متى وأين نزل القرآن .. ؟؟

هناك إسراء وليس هناك معراج

ـ المشهور أن آيات سورة النجم تتحدث عما أسموه بالمعراج الذين يزعمون فيه صعود النبي إلى السماء . مع أن الآيات تؤكد أن جبريل هو الذي نزل حيث تقابل مع محمد , يقول تعالى عن جبريل ولقاءه بمحمد عليهما السلام " وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى " أي أن جبريل هو الذي دنا فتدلى فكان من محمد قاب قوسين أو أدنى . ثم يقول تعالى بعد ذلك عن رؤية محمد لجبريل " وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى : النجم : 13 " أي رآه حين نزل وهبط نزلة أخرى . وكان يمكن أن يقول القرآن " ولقد رآه مرة أخرى " ولكن لكي يؤكد انتفاء المعراج الذي اخترعوه فيما بعد أكد تعالى نزول جبريل للمرة الثانية فقال " وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى " ..

وعموما فإن الروايات التراثية التي تثبت المعراج تقابلها روايات تراثية أخرى تنفى المعراج بل وتجعل الإسراء والمعراج معا مجرد رؤيا منامية يستطيع أي إنسان إن يراها . وروايات أخرى تؤكد على الإسراء وحده وتنفى المعراج بالمنام أو باليقظة. ([1])إلا أن القرآن الذي يؤكد حدوث الإسراء في سورة الإسراء هو نفسه الذي يؤكد في نفس السورة استحالة المعراج ( الإسراء : 93 ) وأيضا فى سورة أخرى ( الأنعام : 35 ) وهذا التناقض في روايات التراث يحتم علينا أن نحتكم للقرآن الكريم في موضوع الإسراء وفى موضوع نزول القرآن الوارد في سورة النجم لنتأكد من أن القرآن يربط بين ليلتي الإسراء والقدر , أو بمعنى آخر فان الإسراء حدث ليلة القدر في شهر رمضان وليس في شهر رجب كما تدعى كتب التراث .

ليلة الإسراء هي ليلة القدر

ـ فالذي حدث أن الله تعالى أسرى بعبده ليلا , ليلة القدر ـ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ـ ليريه من آياته . " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ : الإسراء : 1 " وقد أسيء فهم قوله تعالى ( لنريه من آياتنا ) عندما تحولت الرؤيا فى روايات الناس إلى فتنة للناس . يقول تعالى " وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ : الإسراء : 60" والناس تقع فى الفتنة فى هذا الموضوع حين يتكلمون عما رآه النبي من خلال رواياتهم التي ينسبونها كذبا للنبي , ثم يختلفون بشأنها كما هو حادث فى روايات الإسراء , وما يسمى بالمعراج . ولذلك فالأفضل أن نعتصم بالقرآن لننجوا من هذه الفتنة .

والمنهج فى هذا السبيل أن نتدبر آيات القرآن ونتتبع ما رآه النبي ليلة فى الإسراء أو ليلة القدر .

ـ ففي سورة النجم وفى سورة التكوير يتكرر الحديث عما رآه النبي من الآيات , ولكن بتفصيل يتضح منه أنه رأى جبريل , يقول تعالى فى سورة التكوير " وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ " ويأتي التفصيل فى سورة النجم "  مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى " إلى أن يقول تعالى " مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى  لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى " وهذا يشرح ما قاله تعالى فى سورة الإسراء " ..لنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا .. "  ..

 

ماهية الرؤيا ليلة الإسراء أو ليلة القدر

ـ ومن خلال القرآن نتفهم ماهية الرؤيا . رؤيا الإسراء ، أو رؤيا ليلة القدر فهي رؤية جبريل وعالم البرزخ .

إن الإنسان ذلك المخلوق المادي لا يستطيع أن يرى الملائكة فى هذه الحياة الدنيا . فطالما تظل النفس البشرية مسجونة داخل الجسد فانه يستحيل عليها أن ترى من خلال ذلك الجسد عوالم البرزخ من الملائكة والشياطين والجن .

آدم وحواء فى جنة البرزخ :

ـ وحين كان آدم وحواء فى الجنة فى مستوى برزخي كان بإمكانهما رؤية إبليس على المستوى الحسي فى ذلك العالم . لذا كان إبليس فى غوايته لهما بالأكل من الشجرة المحرمة يطوف معهما الجنة ويقسم لهما بأنه لهما من الناصحين , فلما ذاقا من الشجرة المحرمة تبدى جسدهما المغطى بنورانية البرزخ وحاولا تغطية جسديهما بأوراق الجنة النورانية فلم يفلحا , بينما إبليس ينزع عنهما لباسهما النوراني ليريهما جسدهما المادي البشرى " السوأة " وهبط آدم وحواء ، إلى الأرض إلى المستوى المادي وأنجبا أبناء آدم . وحرم أبناء آدم مما كان أبوهما آدم وحواء يرونه , أي إبليس وعوالم الملائكة , لذا يقول تعالى يخاطبنا " يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ : الأعراف : 27"

أبناء آدم لا يرون عوالم البرزخ طالما كانوا أحياء فى الدنيا

ـ ومنذ ذلك الوقت ـ هبوط آدم وذريته إلى الأرض ـ أصبح الملائكة والجن والشياطين خارج عالم الشهادة ،وأصبحوا داخلين فى عالم الغيب . ولذلك فان الإنسان لا يرى الملائكة التي تحيط به أثناء حياته , ولا يراها إلا عند الاحتضار , ثم عند الموت .

يقول تعالى عن الملائكة التي تقترن بكل إنسان تسجل عليه أقواله وأعماله "إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ  ،مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ " إلا أن يقول تعالى عن البعث " وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ، لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ : ق : 17: 20"

أي أن الملكين الموكلين بكل إنسان وهما رقيب وعتيد يتحولان عن البعث إلى سائق وشهيد . والإنسان فى الدنيا لا يستطيع أن يراهما , ولكنه عندما يفارق جسده المادي أو ينكشف عنه غطاؤه المادي يراهما ويخاطبهما ويصبح بصره ( بفؤاده أو بنفسه أو بقلبه ) حديدا . والنفس والفؤاد والقلب بمعنى واحد . بل إن الإنسان عندما تبدأ نفسه فى مفارقة جسده بالموت يرى ملائكة الموت ويحدث حوار بينه وبينهم , ذكره القرآن , ولكن الذين حول فراش المحتضر لا يرون ما يراه الميت ساعة الاحتضار . وفى ذلك يقول تعالى "   فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)" الواقعة .

 

تجسد الملائكة أمام البشر

ـ وفيما عدا الاحتضار واليوم الآخر فلا يستطيع الإنسان أن يرى الملائكة على صورتهم الحقيقية . لذلك كانت الملائكة تتجسد فى صورة بشر حين يرسلها الله تعالى فى مهمة , كالذي حدث فى قصة الملائكة التي أرسلها الله تعالى لتبشر إبراهيم بإسحق ويعقوب ولتدمر قوم لوط ( هود 69ـ 83 ) وكما أرسل الله تعالى الروح جبريل إلى السيدة مريم لتحمل بعيسى عليه السلام فتمثل لها الروح القدس بشرا سويا ( مريم ـ 17) .

رفض طلب المشركين لرؤية الملائكة

ـ والمشركون فى قريش كانوا يطلبون من النبي محمد أن يروا الملائكة , وكان الرد القرآني ينزل بأنهم لن يروا الملائكة إلا عند الموت وعند اليوم الآخر , وكلاهما حق اليقين . وعندها فلن تكون لهم فرصة أخرى ولن تكون لهم مهلة أخرى , يقول تعالى "

وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ (8)" الحجر: ويقول تعالى "  وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا. يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ : الفرقان 21،22"  

خصوصية رؤيا محمد لجبريل والبرزخ

ـ وإذا كانت الرؤيا التي رآها محمد عليه السلام ليلة القدر أو ليلة الإسراء آية خاصة به , لأنه رأى جبريل على هيئته الملائكية , رآه فى البرزخ بعين الفؤاد ، ورأى آيات الله فى البرزخ , وذلك ما أشارت إليه سورة الإسراء " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا : الإسراء : 1 " أما سورة النجم فقد تحدثت عن بعض معالم هذه الرؤيا , ومنها أنها رؤيا بالفؤاد وأن المشركين فى قريش أخذوا يجادلونه فى هذه الرؤيا التي لا يستطيع وصفها لأن معانيها تخرج عن مألوف اللغة والمعنى , وكيف أنه رأى جبريل وهو يهبط مرة أخرى عند سدرة المنتهى عند جنة المأوى التي تعيش فيها أنفس الذين يقتلون فى سبيل الله , والتي كان يعيش فيها آدم وزوجه قبل الهبوط إلى الأرض , وما كان يحدث فى سدرة المنتهى ورآه النبي لا تستطيع لغة البشر وصفه لذا يقول تعالى " إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى : النجم : 16" , ولأنه عليه السلام كان يرى بقلبه أو بفؤاده فإن بصره المادي كان ثابتا لا يتحرك شأن المبهوت , لذا يقول تعالى " مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ـ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى " النجم 17 ـ 18 "

أهمية الإسراء لهذه الرؤيا المخصوصة

ولأنها رؤيا آية , ورؤيا خاصة لخاتم النبيين وحدثت فى ليلة القدر فقد استلزمت استعدادا من نوع خاص , هو أن ينتقل النبي عليه السلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليلا , وهذا هو الإسراء وهذه هي صلة الإسراء بليلة القدر . والجامع بينهما نزول القرآن فى نفس الليلة على قلب النبي لأول مرة . وإذا كنا فهمنا الإجابة على سؤال متى نزل القرآن فإن سورة الإسراء فى آيتها الأولى تجيب على  السؤال الثاني وهو أين نزل القرآن فى ليلة القدر , والإجابة معروفة من الآية , أنه نزل فى المسجد الأقصى حيث أسرى الله تعالى بالنبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ..

 

المسجد الأقصى هو فى طور سيناء وليس القدس

ـ عفواً : ولكن أين هو المسجد الأقصى المقصود ؟ هل هو فى القدس أم فى مكان آخر ؟

الأصل التاريخي بين فتح الشام والدولة الأموية

إن المسجد الأقصى الموجود الآن بناه الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك , وهو الذي بني المسجد الأموي فى دمشق . والمشهور فى الروايات التاريخية عن فتح بيت المقدس فى خلافة عمر بن الخطاب انه لم يرد فيها ذكر لوجود المسجد الأقصى , وكل ما كان موجودا هو كنيسة القمامة أو القيامة . وقد اشترط بطركها ألا يسلم المدينة إلا لعمر بن الخطاب , وجاء عمر بنفسه وتسلم المدينة "القدس" وحين أراد الصلاة لم يكن هناك المسجد الأقصى ليصلى فيه . وهناك رواية مشهورة تقول إن عمر رفض الصلاة فى الكنيسة حتى لا تتحول فيما بعد إلى مسجد . والمهم فى هذه الروايات عن فتح عمر القدس أو بيت المقدس أنها تخلو من وجود المسجد الأقصى أو ذكر المسجد الأقصى , ثم حين قامت الدولة الأموية فى دمشق وتوطدت خلافة بني مروان أصبحت الحاجة ماسة لإعلاء شأن الشام أمام الحجاز الذي يمثل المعارضة السياسية ضد الأمويين , ونتذكر الوقائع الحربية بين الحجاز والشام فى ثورة الحسين ثم فى خلافة ابن الزبير إلى أن تمهدت الأمور للأمويين فى الشام , وانهزم الحجاز وبدأت الأضواء تنحسر عنه لصالح دمشق طبقا لسياسة الأمويين , وظهر هذا فى خلافة الوليد بن عبد الملك , وتواترت روايات القصاصين , وهم جهاز الدعاية فى الدولة الأموية تتحدث عن فضل بيت المقدس وعن المسجد الجديد الذي حمل اسم المسجد الأقصى , وتكاثرت الروايات التي تجعل الصلاة فى ذلك المسجد مقدسة بالمقارنة بمسجد المدينة والمسجد الحرام , وتجعل نهاية الإسراء إليه , بل وتخترع المعراج منه إلى السماء . ثم جاء العصر العباسي فأتيح لهذه الروايات الشفهية أن تدون وتكتب فى أسفار أصبحت بمرور الزمن مقدسة وتستعصي على المناقشة والنقد بدليل دهشة القارئ لما نقوله الآن .

السياق القرآني يؤكد أن المسجد الأقصى هو طور سيناء :

والموضوع طويل ولكن نقتصر منه على الإشارة الموجزة لآيات القرآن التي تؤكد أن المسجد الأقصى المذكور فى سورة الإسراء ليس فى القدس وإنما فى مكان آخر هو جبل الطور فى سيناء. صحيح أن فلسطين وصفها القرآن بأنها أرض مباركة و مقدسة    " يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ : المائدة 21 " ويقول تعالى أيضا عنها " وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ  الأنبياء : 71 " وهذا يتفق مع وصف المسجد الأقصى بأنه قد بارك الله حوله " إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ."إذن فالمسجد الأقصى فى الشام .

ولكن سيناء أو طور سيناء موصوفة بالبركة والقداسة فى القرآن أكثر من الشام , وفوق هذا تزيد هنا على الشام باتصافها دون الشام بشيئين : الأول : الاقتران بالوحي , والاقتران بالبيت الحرام .

ـ وهنا نرتب الآيات موضوعيا لنتعرف على مكان المسجد الأقصى .. وذلك على النحو التالي .

1ـ  فى سورة الإسراء تتحدث الآيتان الأوليان عن نزول القرآن ونزول التوراة , والعادة أننا دائما نفصل بين الآيتين , ونقتصر فى فهم الإسراء على الآية الأولى , ونتجاهل الآية الثانية ونقطع السياق بينهما , مع أن الآيتين موصولتان بواو العطف . يقول تعالى "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ . وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ  " ومعلوم أن موسى أوتى الكتاب عند جبل الطور . إذن هنا الاقتران بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى . حيث حدث الإسراء من الأول إلى الثاني . ثم اقتران بين المسجد الأقصى وجبل الطور فى سيناء لنفهم منه أن المسجد الأقصى هو الطور .

2 ـ وجبل الطور موصوف بالبركة والقداسة فى سياق الحديث عن كلام الله تعالى موسى كقوله تعالى "   فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى ، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طوي :طه 11 , 12 "

بل إن البركة تمتد إلى شجرة الزيتون فى طور سيناء حيث شهدت المنطقة المقدسة كلام الله تعالى , يقول تعالى  " فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ:القصص : 30" "فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا َ : النمل 8" بل إن شجرة طور سيناء وصلت بركتها إلى أن جعلها القرآن  نعمة مستمرة مثل نعمة السماء والأرض والجنات يقول تعالى " وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ:المؤمنون 20 " ،  بل ويقترن ذكرها بنور الله تعالى فى صورة تمثيلية فى قوله تعالى "  اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "فيقول تعالى  "يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ " وتؤكد الآية أن المقصود بالنور هو الهداية "  يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء:النور : 35" والهداية مرتبطة بالوحي . والنور هو الوحي الإلهي . وهذا يزيد من ارتباط طور سيناء بالوحي الإلهي . وبالتالي يزيد من ارتباط المسجد الأقصى بالطور.  طور سيناء .

3ـ وجبل الطور مرتبط بنزول التوراة ارتباطه أيضا بكلام الله تعالى لموسى حين ناداه لأول مرة . كما أن جبل الطور هو الذي رفعه الله تعالى فوق بني إسرائيل في عهد موسى حين أخذ عليهم العهد والميثاق . فسجدوا على الأذقان وعيونهم تتعلق بالجبل المرفوع فوق رءوسهم . كما أنه نفس الجبل الذي طلب موسى من فوقه أن يرى ربه ولما صعق موسى عندما تجلى ربه للجبل فإنه لابد وسجد حين قال تائبا "سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ : الأعراف : 143 "

إذن فالطور هو محل السجود أمام التجلي الإلهي في قصة موسي حين طلب رؤية الله وهو أيضا محل السجود حين رفع الله تعالي الطور أو الجبل فوق بني إسرائيل وأخذ عليهم العهد والميثاق . والمسجد من السجود .ولأن جبل الطور بعيد عن المسجد الحرام لذا جاء وصفه بالمسجد الأقصى .

4ــ وهناك صلة أخري بين القرآن وجبل الطور الذي شهد تلقي موسى الألواح (التوراة) ونريد أن نثبت الآن أن محمدا تلقي وحي القرآن مكتوبا في قلبه عند نفس الجبل .

فالله تعالي يقول عن موسي عندما جاء للقاء الله تعالي عند جبل الطور " وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ :الأعراف 145 " أي تلقي موسي التوراة مكتوبة أو كتابا فيه كل شيء. وفى نفس سورة الأعراف يقول الله تعالي عن القرآن "  وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً : الأعراف :52 " وآيات كثيرة تصف القرآن بأنه جاء تفصيلا لكل شيء يحتاج للتفصيل ولكن المهم هنا أن وصف القرآن في سورة مكية بأنه كتاب مكتوب بل أن افتتاح سورة الأعراف تتحدث عن نزول القرآن مرة واحدة " كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ : الأعراف : 2" أي أنه كما تلقي موسي كتاب التوراة مكتوبا عند طور سينا فكذلك تلقي محمد القرآن مكتوبا علي قلبه في نفس المكان .

5ــ وصلة أخري بين القرآن وجبل الطور الذي رفعه الله تعالي فوق بني إسرائيل حين أخذ عليهم العهد والميثاق .

وتتجلي هذه الصلة حين اختار موسي من قومه سبعين رجلا للقاء الله تعالي عند جبل الطور ليعلنوا توبتهم وأسفهم علي عباده العجل .وحين جاءوا لميقات الله تعالي عند الطور أخذتهم الرجفة ، وطلب موسي العفو والغفران وأن يكتب الله تعالي لهم الرحمة ، ورد الله تعالي عليهم بأنه سيكتب رحمته للمؤمنين " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ : الأعراف 157" .

أي أن التوراة التي نزلت علي موسي في جبل الطور تحدثت عن رسالة خاتم النيين ثم أخبر الله تعالي موسي فيما بعد أنه سيكتب رحمته لمن يؤمن بالرسول الأمي الذي نزلت بشارته في التوراة وستنزل بشارته في الإنجيل أي أنه في نفس المكان جبل الطور أخبر الله تعالي بالرسالة الخاتمة وصاحبها في حياة موسي.

6ــ وكما تحدثت التوراة ونزل الوحي على موسي يتحدث عن القرآن والنبي الأمي فأننا نجد نفس الشيء في حديث القرآن عن التوراة وعن موسي . فالحديث القرآني عن قصة موسي وبني إسرائيل يعدل حوالي نصف قصص الأنبياء في القرآن، والحوار مع بني إسرائيل وتذكيرهم بالتوراة الحقيقية أكثر من حوار القرآن مع أهل مكة أنفسهم . وبالرغم من وجود رسالات سماوية بين التوراة والقرآن فإن الله تعالي يصف التوراة في القرآن بما يصف به القرآن وينقل آيات من التوراة إلي القرآن ، ويراجع علي سبيل المثال : (الأنعام 91 :92, 154: 155, المائدة 43: 45 ،القصص 43, الأحقاف 30, الأعلى 19, الشعراء 192 :197 ).

والعجيب أن سورتي الإسراء والنجم نجد فيهما ذلك التزاوج بين القرآن والتوراة، وهما السورتان اللتان تتحدثان عن نزول القرآن . فسورة الإسراء ـ التي تسمي أحيانا سورة بني إسرائيل ـ تبدأ آياتها بالحديث عن الإسراء من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصى وفي الآيات التالية تتحدث عن نزول التوراة وتاريخ بني إسرائيل وفي نهاية السورة عودة للحديث عن موسي وبني إسرائيل مرتبطا مثل البداية بالحديث عن نزول القرآن . والأعجب أن نهاية السورة تتحدث عن نزول القرآن مرة واحدة  " وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ " ,  ثم تتحدث الآية التالية عن نزوله متفرقا " وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً " ثم يخاطب الله تعالي العرب المشركين قائلا "  قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ " , ويذكرهم بأن علماء بني إسرائيل إذا يتلي عليهم القرآن يخرون للأذقان سجدا ويتذكرون العهد والميثاق القديم الذي أخذه الله تعالي علي أجدادهم حين رفع فوقهم جبل الطور، لذلك فإن أولئك العلماء يخرون للأذقان بنفس الهيئة التي كان يسجد بها أسلافهم حين كانوا يسجدون علي الأذقان وينظرون بعيونهم إلي الجبل المعلق في الهواء فوقهم والمعني أن أولئك العلماء يربطون بين نزول القرآن عند جبل الطور وما حدث سابقا عند جبل الطور، من نزول التوراة ومن التبشير فيها بالقرآن ، ومن أخذ العهد علي أسلافهم بأن يؤمنوا بالقرآن ، وطالما كان من حظهم أن يشهدوا الرسالة الخاتمة فإنهم " ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا : الإسراء 101 ـ 109 "

أما سورة النجم فقد افتتحت بنزول القرآن ثم تحدثت في نهايتها عما جاء في صحف موسي  "أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى " النجم : 36 ,  ونقلت إلي نهاية السورة "62" آيات من التوراة ومن رسالة إبراهيم ..

الاقتران بين الطور والبيت الحرام

ولكن تبقي نقطة أخيرة ، وهي أن آية الإسراء أشارت إلي المسجد الحرام (مكة) كما أشارت إلي المسجد الأقصى .والسؤال الآن ، إذا كان المسجد الأقصى هو في طور سيناء فلا بد أن القرآن الذي يفسر بعضه بعضا أن يرد فيه ذلك التزاوج بين المسجد الحرام وطور سيناء في مواضع أخري لتؤكد نفس المعني الوارد في سورة الإسراء.. 

والأمر لا يحتاج إلى كبير عناء ..

ـ فالله تعالى يقول: " وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ،وَطُورِ سِينِينَ ،وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ. " الزيتون دلالة على طور سيناء. أو سنين . والحديث عن طور سينين يقترن بالبلد الأمين وهى مكة التي جعلها الله تعالى مثابة للناس وأمنا . إذن فالله تعالى يقسم بطور سيناء واهم نعمة أو بركة فيه وهى التين والزيتون , كما يقسم بالبلد الحرام واهم نعمة فيه وهى الأمن .

ـ وفى سورة الطور يقسم الله تعالى بطور سيناء وبالبيت الحرام المعمور "وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ "ونلاحظ أن الحديث عن القرآن الكتاب المسطور جاء بين الطور والبيت المعمور . لأن القرآن نزل حين أسرى الله تعالى بالنبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فى طور سيناء  ..

أي أن ليلة القدر أو ليلة الإسراء وما رأى النبي فيها من آيات إنما حدثت فى طور سيناء . وان المسجد الأقصى ليس فى بيت المقدس الذي لم يرد ذكره مطلقا فى القرآن . وإنما هو فى طور سيناء. الذي تردد ذكره والإشادة به فى كتاب الله العزيز . إن روايات التراث ودوافعها السياسية هي السبب فى تجاهلنا لقيمة سيناء وهى بالصدفة جزء من مصر , وبالمناسبة فإن مصر هي البلد الوحيد الباقي الذي تكرر الحديث عنه بالاسم والوصف فى عشرات الآيات القرآنية .

والخلاصة مما سبق :ـ

1ـ إن الملمح الأول من ليلة القدر هو نزول القرآن مرة واحدة مكتوبا فى قلب النبي . ثم كان ينزل على ذاكرته حسب الحوادث . ولا يتذكر المكتوب فى قلبه إلا عند الوحي الشفهي . إذ كان عليه السلام لا يعلم الغيب , وبعض المكتوب فى قلبه من التنزيل كان يخبر بالمستقبل .

2ـ فى ليلة القدر أسرى الله تعالى بالنبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى , أي أن ليلة الإسراء هي نفسها ليلة القدر فى شهر رمضان . وفى هذا الحدث اجتمعت طهارة الزمان وطهارة المكان . بركة الزمان والمكان . فالليلة مباركة وخير من ألف شهر والمسجد الأقصى بارك الله حوله , وكل ذلك لأن الوحي القرآني  موصوف بالبركة " الأنعام 92, 155, الأنبياء 50 , ص 29 " ..

3ـ فى ليلة القدر التي هي ليلة الإسراء كان الإسراء من المسجد الحرام فى مكة إلى المسجد الأقصى فى جبل الطور , حيث كان الله تعالى يكلم موسى وحيث انزل عليه التوراة , وحيث رفع الجبل واخذ العهد والميثاق على بني إسرائيل , وحيث كان التبشير بنزول القرآن فى إطار ذلك كله . ولهذا اقترن جبل الطور بالقداسة والبركة والطهر , كما اقترن جبل الطور أو المسجد الأقصى بالمسجد الحرام أو مكة , وذلك فى سور الإسراء والتين والطور ..

4ـ الروايات التاريخية التراثية هي المسئولة عن ذلك الخلط الذي وقعنا فيه. إذ تجاهلت طور سيناء وأدت العوامل السياسية إلى إطلاق المسجد الأقصى على الذي بناه الوليد بن عبد الملك الأموي فى القدس . ولم يكن موجودا ذلك المسجد عند فتح القدس . بل أن القرآن لم يتعرض مطلقا للقدس أو بيت المقدس . إذ لم يذكر سوى البيت الحرام والطور , ووصفهما بالبركة . كما أشار إلى مسجد المدينة أيضا ( التوبة  108 , 109 ) ولو كان ذلك المسجد الأقصى موجودا فعلا فى فلسطين وتم الإسراء إليه لتردد ذكره فى القرآن بديلا عن طور سيناء ولاختلاف الروايات التاريخية عن فتح فلسطين بالاستيلاء عليه والصلاة فيه . ولكن ذلك لم يحدث .

 

 نزول الأقدار ليلة القدر

ـ قلنا أن الله تعالى خلق العالم من اجل اختبار الإنسان , والملائكة عنصر أساسي فى تجهيز ذلك الاختبار . وليلة القدر هي الموعد السنوي لنزول الملائكة بالأقدار , كما كانت موعدا لنزول القرآن .

ـ وفلسفة الاختبار تقوم على أساسين :

(1)ـ حرية الاختيار بين الطاعة والمعصية والإيمان والشرك .. ثم

 (2)ـ حتميات على الإنسان التعرض لها دون اختيار , أو الأقدار الحتمية التي لا يحاسب عليها الإنسان مثلما يحاسب على نتائج حريته فى الاختيار . وهذه الأقدار الحتمية تبدأ بتحديد الميلاد ومن هم الآباء وتنتهي بتجديد موعد ومكان الموت . وبين الميلاد والممات هناك حتميات أخرى فى العمر , مثل الرزق والمصائب التي لا دخل للإنسان بها . أي انه منذ هبوط آدم للأرض ،  فإن الله تعالى قد عين لكل إنسان موعد ميلاده وحدد له آباءه , وضمن له رزقه , وكتب علبه المصائب التي سيقابلها والرزق الذي سيدخل جوفه , ونهاية عمره , ومقدار عمره , وكيفية وتوقيت هذا العمر وذلك الموت .

والإنسان يتقلب بين هذه الأقدار الحتمية ويمارس حريته فى الإرادة والاختيار إلى أن يموت .

وهكذا إلى أن يدخل فى هذه " التجربة " أو ذلك الاختبار كل إنسان ، عندها تقوم القيامة , ويأتي يوم الحساب , ويأتي لقاء الله تعالى , حيث تأتى كل نفس بشرية يصحبها اثنان من الملائكة اللذان رافقاه فى رحلة عمره " سائق وشهيد " ليحاسبه ربه على الاختبار الدنيوي  ..

ـ إذن فالروح جبريل نزل ليلة القدر بشيئين .. الوحي القرآني , وأقدار الناس . وبينما يتمتع الناس بالحرية فى التمسك بالشرع الالهى وتكمن مسئوليتهم على ذلك يوم الحساب ، فإن  الناس ليست لهم حرية الاختيار فى تحديد الآباء والميلاد والموت والرزق والمصائب وبينما انتهى الوحي السماوي للأنبياء بنزول القرآن على خاتم النبيين فإن المهمة الباقية لجبريل هي النزول بأقدار الناس الحتمية . وتظل هذه مهمته كل ليلة قدر ، كل عام إلى انتهاء العالم .

 

الحتميات موجودة فى علم الله تعالى الأزلي :ـ

يؤكد رب العزة على أنه تعالى يعلم ما تحمل كل أنثى وما تنقص الأرحام وما تزداد , وكل شيء عنده تعالى بمقدار (الرعد  : 8) اى أن حمل الأنثى للجنين وولادتها له يكون بعلم سابق وأزلي عند الله تعالى .

وفى نفس المعنى يؤكد رب العزة انه ما من أنثى تحمل ولا تضع حملها إلا بعلمه , كما أن العد التنازلي للمولود يبدأ من لحظة الميلاد , إذا أن عمره مقدر سلفا وموعد موته مقدر مع موعد ميلاده . وقبل أن يوجد إلى المستوى الحسي. لذلك فإن كل دقيقة يمضيها من عمره يتناقص بها عمره المحدد .لأن العمر هو الشيء الوحيد الذي إذا طال قصر المتبقي منه . وذلك معنى قوله تعالى " وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ، وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ.. فاطر : 11 ".

ـ وفى نفس الكتاب المكتوب عند الله تعالى نجد الرزق الذي ضمنه الله تعالى لكل دابة على الأرض , ويقع هذا الرزق المضمون مع أشياء أخرى مسجلة أزلا فى علمه تعالى , يقول رب العزة "  وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ، كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ .. هود : 6 " أي أن مستقر الدابة على الأرض ومستودعها النهائي فيها مسجل سلفا مع الرزق فى علم الله تعالى , وكل المستقبل الموعود من رزق وغيره نجده فى علم الله تعالى  " وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ،  فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ : الذاريات 22 , 23 ".

ـ والإنسان العادي يخشى الموت , ولكن القرآن يقول " قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ .. الجمعة :8 ".

لأنه لابد أن يلاقيك فى لحظة مقدرة سلفا لا تستأخر عنها أو تستقدم ساعة . ولذلك فإنه عندما قال بعض المنافقين بعد غزوة أحد متحسرا على القتلى " لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا " وكان الرد من الله تعالى " قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ : آل عمران : 154 ". أي أن الذي جاء أجله سيذهب إلى المكان المحدد له الموت فيه فى اللحظة المحددة لموته سلفا . ويلقى اجله بالموت أو بالقتل .وهذا معنى تسمية الموت " بالأجل ". أي أنه بالوقت المحدد الذي ستسير إليه حتما .

ـ والإنسان العادي يتحاشى المصائب , ولكن المؤمن يعلم أن المصائب مقررة سلفا على كل إنسان . طبقا لقوله تعالى " كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ : الأنبياء : 35 " . ولذلك فإن المؤمن يقول  " قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا : التوبة : 51 " . أي من بين كل احتمالات الخير والسوء مما لا دخل لك به فلن يصيبك إلا ما كتبه الله سلفا لك  أو عليك من ابتلاء بالخير أو بالشر . والتزاوج مستمر بين الشر والخير , والأمر فيها نسبى , لذلك فالمؤمن يعلم أن كل ما يقع فى الأرض من حتميات لا يستطيع التحكم فيها إنما هو مقدر سلفا فى كتاب الله تعالى قبل خلق الأرض والبشر . يقول تعالى " مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير . لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ  الحديد 22, 23" .

ـ إذن هو تسجيل سابق فى علم الله يحتوى على حتميات يتعين على كل إنسان أن يواجهها فى ميلاده وفى حياته وفى موته . ولكن هذا التسجيل السابق الغيبي يلحق به فى مسيرة كل إنسان تسجيل لاحق يحصى عليه كل أعماله وخطراته وأقواله , ويأتي الحساب على حريته فى الإرادة , وليس على الخطأ والنسيان والإكراه والإجبار والنوم والجنون فيما قال وفعل . وفى هذا التسجيل للكتاب اللاحق يقول تعالى " وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا .اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ، مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ ، وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا : الإسراء : 13: 15" .  أي أن ما يطير عنك إلى عالم البرزخ من أعمال وأقوال يتم تسجيلها وحفظها , وتتجمع فى كتاب يحوى تاريخك يتم قفله عند الموت وتراه عند البعث والحساب منشورا يوم القيامة .

إذن هناك تسجيلان لك . تسجيل بالحتميات التي ستقابلها فى حياتك الدنيوية ولن تحاسب عليها . وتسجيل بأعمالك , وهو محل الاختيار والاختبار والمساءلة يوم الحساب .

والتسجيل السابق فى علم الله تعالى الأزلي يظل علما مكتوبا , ولكنه يتحول إلى دائرة الفعل والتطبيق عن طريق الملائكة . تتلقاه الملائكة وتنزل به إلى الأرض  والبشر فى موعد محدد كل عام , هو ليلة القدر .

 

الملائكة وانتقال الحتميات من دائرة العلم إلى دائرة الفعل :ـ

الزمن هو الحاضر الغائب هنا .

ـ كما تعلم فإن الزمن هو الضلع الرابع للمادة . وحيث توجد المادة يوجد الزمن , والإنسان بجسده ونفسه ، يعيش فى إطار الزمن , فإذا نام وتحررت نفسه من أسر الجسد تحرر أيضا من أسر الزمن . فإذا استيقظ عاد للجسد والزمن  معا . ونفس الإنسان فى النوم وفى الموت تعود إلى عالم البرزخ الذي أتت منه . إلا أنها فى حالة النوم تعود بالاستيقاظ , وفى حالة الموت لا تعود إلا عند البعث . وفى الحالتين معا فإن الإنسان حين يعود لليقظة أو عند البعث فلا يحس بالزمن الذي انقضى عليه وهو البرزخ . يعتقد فى كل الأحوال انه نام أو مات يوما أو بعض يوم . قالها الرجل الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه ( البقرة 259 ) وقالها أصحاب الكهف (الكهف 19) وسيقولها المجرمون عند البعث (الروم 55 ـ) أي أن البرزخ ليس فيه زمن . أو أن زمنه معكوس أو مختلف .. علم ذلك فى غيب الله تعالى .

ـ ولكن الله تعالى يخبرنا فى كتابه باختلاف الأزمنة فيما يتعلق باختلاف المستويات والأوامر .

فالله تعالى يقول " أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . النحل : 1". أي أن أمر الله تعالى بقيام الساعة قد صدر فعلا طبقا للمستوى الالهى فى الأمر . ولكن تطبيق هذا الأمر بقيام الساعة يستلزم أن نصل نحن إلى الزمن المناسب المقدر سلفا , لذلك يقول الله تعالى " أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . " .

وهناك مثل آخر على تفاوت الزمن ، فالله تعالى يقول  فى سورة الأحزاب بعد موقعة الأحزاب عن اليهود " وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا: الأحزاب 27" . وحين نزلت الآية كانوا قد ورثوا فعلا بني قريظة بعد خيانتهم العهد . ولكن الأرض الأخرى التي لم يطؤوها بعد لم يكن قد ورثوها بعد . وهذا ما حدث فى الفتوحات . ونزل القرآن يخبر به من علم الله تعالى الغيبي . والمعنى أن الأمر الإلهي قد صدر ولكن التنفيذ ياتى فى أوانه .

ـ واختلاف الزمن بين عالمنا الارضى وبين العوالم الأخرى يقول عنه رب العزة " وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ، وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ . الحج 47 " . ويقول تعالى فى سرعة تردد الأمر بين السماء والأرض  " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ:  السجدة 5 " . وهذا الاختلاف الزمني يستلزم نقطة زمنية للالتقاء , هي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر . وحيث يتكرر شهر رمضان ألف مرة كل عام فان ذلك اليوم الالهى الذي تتلقى فيه الملائكة أوامر الله تعالى وأقداره للبشر وتنزل به للبشر يساوى هو الآخر ألف سنة فى حساب الزمن الارضى .

ـ وحتى نزيد الأمر وضوحا فإننا نعطى مثلا بحياة نفس بشرية هي فلان .

فلان هذا خلق الله تعالى نفسه البشرية فى نفس الوقت الذي خلق فيه كل الأنفس البشرية معا . لأن الله تعالى خلق الأنفس البشرية كلها معا . وذلك فى عالم البرزخ , ويقول تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ :  النساء : 1" , " وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ " الأنعام : 98 ". أي من نفس واحدة خرجت كل الأنفس البشرية , فى كل منها مستقر الأنفس السابقة التي تسلسلت عنها , وفيها مستودع الأنفس اللاحقة التي سـتـتـسـلـسل عنها  . وعند البعث يحدث الأمر ولكن بصورة عكسية , حيث ترجع الأنفس إلى الأصل الواحد الذي صدرت عنه , يقول تعالى "  مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ  لقمان : 28 " .

 والمهم ونحن نرجع الآن إلى نفس فلان التي خلقت مع جميع الأنفس البشرية فى وقت واحد . تظل فى البرزخ ميتة إلى أن يأتي دورها المقدر لتدخل اختبار الحياة ، و وفى الموعد المحدد يتم نفخها فى الجنين وقد تم الإختيار الإلهي لموقعها فى التسلسل بين آبائها وذريتها . وحين ترتدي النفس زى الجسد تخضع للزمن الأرضي وتخرج للحياة لتواجه اختبار الدنيا بحريتها فى الإرادة ولتواجه الحتميات الأخرى ومنها الرزق والمصائب وتحديد موعد ومكان الموت . ثم يأتيها الموت وترى عنده ملائكة الموت وتعلم مصيرها وتعود إلى البرزخ .

وفى هذا البرزخ توجد الأنفس الأخرى التي أخذت تجربتها فى الحياة , والأنفس الأخرى التي لم تأخذ تجربتها بعد . ولكن الأنفس التي أخذت تجربتا فى الحياة تصطحب معها نتيجة التجربة . حدث هذا مع الآباء وسيحدث مع الأحفاد الذين لا تزال نفوسهم ميتة فى عالم البرزخ لم تدخل تجربة الحياة بعد .

  وما حدث مع نفس فلان . سيحدث مع كل فلان إلى أن تأخذ كل نفس تجربتها واختبارها وبعدها تقوم الساعة .

ـ ولكن ما دور الملائكة هنا ؟ وما موقع ليلة القدر فى قصة نفس فلان هذا ؟.

إن نفس فلان فى موتتها الأول قبل أن تدخل تجربة أو اختبار الحياة لا تعلم عنها الملائكة شيئا . أنها رقم مستقر فى علم الله تعالى لم يدخل بعد فى دائرة الفعل والتنفيذ . وحين ياتى الأمر الالهى بتوقيته وتحقيقه وإدخاله الاختبار تتلقى الملائكة والروح رقمه ضمن أرقام المواليد المقرر ولادتهم فى العام القادم . ويحدث ذلك ليلة القدر , ويشمل الأمر كل ما تحمله الملائكة فى هذه الليلة من علم الله تعالى الذي سيتحقق فى العام القادم من مصائب وأرزاق ومواليد ووفيات . إذن فى ليلة القدر يأتي الأمر الالهى بولادة فلان فى الوقت المحدد لولادته , وفى ليلة القدر فى العالم التالي ياتى ما يتعرض له من أقدار . وهكذا كل عام مقدر له أن يحياه فى هذه الدنيا ، إلى أن تأتى ليلة القدر الأخيرة فى عمره برقمه بين وفيات العام القادم .

 هذا ما يحدث لفلان الذي هو أنا وأنت وهو و هي .. فأنا مثلا قبل موعد ميلادي بخمس سنوات كنت مجرد رقم ثم تحول هذا الرقم إلى حادث يوم أن تم نفخ نفس فى قطعة لحم حية فى رحم والدتي .

 ثم خرجت إلى الحياة بالميلاد . وفى كل ليلة قدر تنزل فيها أقداري للعام المقبل .. والله تعالى هو الأعلم متى ستأتي ليلة القدر التي تحمل فيها الملائكة بموعد موتى فى العام التالي .

ـ وبالتأكيد فإن هناك ملائكة الموت الذين يتسلمون الأوامر الإلهية من الروح والملائكة أصحاب " الملأ الأعلى " الذين يتنزلون بالأوامر الإلهية وأقدار البشر ليلة القدر .

 اى أن هناك إلى جانب الروح والملائكة ملائكة أخرى تقوم بتحويل الأوامر إلى أعمال . وأبرزهم ملائكة الموت الذين يقبضون النفس عند انتهاء أجلها . وملائكة الموت يتبعون ملك الموت . ولهذا فان حديث القرآن عن الموت له مستويات ثلاثة : المستوى الالهى بالأمر الذي تنزل به الملائكة والروح "اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا  الزمر : 42 " , ومستوى التنفيذ العلوي لملك الموت " قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ  السجدة : 11 ". ثم أتباع ملك الموت من رسل الموت " حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ : الأنعام 61 ", وما ينطبق على الموت ينطبق على غيره من الحتميات ..

 

  نبذة عن ليلة القدر فى ضوء العلم الحديث

ـ كاتب هذه السطور ليس متخصصا إلا فى القرآن والتراث . وبالتأكيد فان المتخصص فى العلم الحديث يستطيع أن يعيد كتابة الصفحات السابقة بصورة علمية تربط بين الآيات القرآنية وما وصل إليه العلم الحديث . مع الأخذ فى الاعتبار إن الإعجاز القرآني متجدد , وأن هناك مناطق فى القرآن لم يصل إليها العلم الحديث بعد ..

ولكن كانت هذه السطور فى محاولته المتواضعة إنما يقدم دعوة للمتخصصين فى العلم ليقدموا اجتهاداتهم حول ليلة القدر ، وبنفس الإخلاص يقدم دعوة أخرى لكل مسلم لكي يعطى القرآن العظيم بعض حقوقه علينا فى التدبر والتقدير والتقديس والاهتمام ..

ـ والذي لا شك فيه أن ثورة المعلومات وثورة الاتصالات قد أشعرت الإنسان بقدرة الله تعالى أكثر , بحيث تضاءل عدد الذين انبهروا قديما بمنجزات الثورة الصناعية , فقد اتضح أن الجزء الخفي الغيبي فى مجال ادراكاتنا البشرية يمكن استخدامه . ونرى تكنولوجيا هذا الاستخدام فى التليفون المحمول والتليفزيون والأقمار الصناعية والانترنت , وكلها يؤكد أن مجال التقدم العلمي القادم سيكون أكثره فى العالم الخفي عنا الذي يقع فى مجال ادراكاتنا البشرية . وذلك يؤكد أيضا أن عالم الغيب الذي يقع خارج ادراكاتنا البشرية مثل عوالم البرزخ والملائكة والجن والشياطين سيكون من  السهل الإيمان بها علميا , بعد أن اتضح أن عالمنا المادي الظاهر ليس إلا قمة جبل الثلج الطافي . 

على إن بعض الحقائق العلمية التي اكتشفها الإنسان واستخدمها تكنولوجيا قد جعلته يلامس بعض مظاهر عوالم البرزخ . ونعطى لذلك بعض الأمثلة المتصلة بموضوعنا عن ليلة القدر وملامحها من الملائكة ونزول الوحي ونزول الأقدار ..

ـ أعلن اينشتاين نظرية النسبية الخاصة سنة 1905  م  أكد أن الكون المادي رباعي الأبعاد . ( المادة + الزمن ) وان سرعة الضوء فى الفراغ هي الثابت المطلق والحد الأقصى للسرعة الكونية فى هذا العالم المادي , وكل المقادير الفيزيائية تنسب لهذه السرعة ( 286 ألف ميل/ ثانية ) أو ( 299792.5  كم / ثانية )  ..

وفى مقال للدكتور منصور حسب النبي فى الأهرام ( 11/5/1995 )  قام بتفسير علمي لقوله تعالى  " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ : السجدة : 5" ,  " وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ : الحج : 47 " فقال إن العبارة القرآنية " مما تعدون " أي بالحساب البشرى , أي بالزمن الارضى وعليه فإن المسافة التي يقطعها الأمر الكوني في زمن يوم أرضي تساوي فى الحد والمقدار المسافة التي يقطعها القمر فى مداره حول الأرض فى زمن ألف سنة قمرية بحساب أهل الأرض . وبحل هذه المعادلة القرآنية ينتج لنا أن سرعة هذا الأمر بالحساب الارضى يساوى بالضبط سرعة الضوء فى الفراغ أي 286 ألف ميل فى الثانية أو 299792.5كم /الثانية وفى نفس المقال يقول د. منصور حسب النبي أن معادلات اينشتاين تنبأت قبل نظرية الأوتار الفائقة باحتمال تجاوز سرعة الضوء لجسيمات افتراضية غيبية ذات كتلة تخيلية تسمى التاكيون .

كما تنبأت نظرية الأوتار الفائقة بوجود كون آخر سداسي الأبعاد متداخل مع كوننا الرباعي الأبعاد والسرعة فيه تفوق سرعة الضوء ولكنها لا تخضع لقياسنا . أى انه عالم الغيب الذي تحدثت عنه الرسالات السماوية والذي تشكل ليلة القدر نقطة اتصال بينه وبين عالم الشهادة ..

ـ ولنفترض أن فلانا يعيش فى القاهرة وله أخ يعيش فى الإسكندرية وكان قدر أخيه فى الإسكندرية أن يموت فى الساعة العاشرة من صباح أول مايو فى حادثة فى المكان الفلاني . ولنفرض أن فلانا هذا يريد السفر إلى أخيه فى الإسكندرية فى توقيت مقارب للحادث الذي سيحدث لأخيه وهو لا يعلم بالضبط , وان كان ذلك الحادث قد تم تضمينه ضمن الأقدار وذلك ليلة القدر فى شهر رمضان الحالي والتي ستحدث فى العام التالي .

والمهم أن صاحبنا يسافر إلى أخيه فى الإسكندرية والمسافة بين القاهرة والإسكندرية ( 250كم ) ونريد أن نجعله يصل إلى أخيه فى نفس اللحظة التي ستحدث له فيها حادثة موته . فإذا ركب قطارا سيصل إلى أخيه بعد الحادثة بعدة ساعات . فإذا ركب طائرة وصل بعد الحادثة بأقل من ساعة ولكنه إذا سافر بسرعة الضوء فقد يصل عند الحادثة بالضبط , أي أن الزمن يتضاءل حسب السرعة , فإذا سافر الإنسان بسرعة الضوء انمحى الزمن . ولكن يبقى أن الضوء فى حد ذاته مادة . فإذا سافر الإنسان فرضا بسرعة تفوق سرعة الضوء فإنه حينئذ يرى الحادثة قبل وقوعها . أي يراها فى عالم الغيب.. وهذا يحدث .. فى الأحلام التي تنبئ عن المستقبل ..

ففي المنام تتحرر النفس البشرية من الجسد وتظل على صلة خفية به . ولأنها تنتمي إلى عالم البرزخ حيث السرعة فيه تفوق سرعة الضوء فى عالمنا المادي فإن النفس فى تجوالها بهذه السرعة قد تصطدم ببعض الأحداث وهى فى صورة معنوية لم تتجسد واقعا ماديا فى دنيانا . ولهذا ترى هذه المعاني فى صورة تحتاج فى اليقظة إلى تأويل وتفسير وتحقيق وقصة يوسف خير مثال على ذلك , إذ أنها قامت على أربعة منامات صادقة رؤيا يوسف ورؤيا صاحبي يوسف فى السجن , ورؤيا الملك . والأنفس الأربعة لهم جالت فى البرزخ ورأت أحداثا مستقبلية . ودارت الأيام وتحققت هذه المنامات . وهذا يعنى أن هناك مستويات مختلفة للملائكة وسرعاتها وتعاملها مع الأوامر الإلهية . وفى سورة المعارج يقول تعالى عن الروح والملائكة العلويين "  تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ : المعا رج : 4"

أي أن الأمر الالهى يأخذه جبريل والملائكة العلويون فى زمن مختلف عند العروج لله تعالى , ثم يأخذ هذا الأمر مقياسا آخر فى مستوى اقل فى التعامل بين الملائكة حيث يساوى ألف سنة بحسابنا الارضى . والنفس البشرية فى المنام قد تتجول فتصطدم بنبأ فى مستوى الألف عام , وقد تصطدم بنبأ فى مستوى اعلي . ولكن ليلة القدر تتنزل فيه الأوامر والأقدار التي  للعام التالي .. والله تعالى أعلم.

ـ والدكتور حسب النبي تحدث عما أشارت إليه نظرية النسبية ونظرية الأوتار الفائقة من وجود عالم سداسي الأبعاد متداخل مع عالمنا الارضى الرباعي الأبعاد , والسرعة فيه تفوق سرعة الضوء . وهو هنا يشير إلى اكتشاف آخر أكثر غرابة .

فقد اتضح إن ذرات المادة الأرضية تدور بسرعة تتراوح بين 400 مليار دورة إلى 750 مليار دورة فى الثانية الواحدة , وإذا استطاعت ذرة مادية أن تدور فوق 750 ألف مليون دورة فى الثانية فإننا لا نستطيع أن نراها . وهذا يفسر لنا السبب فى أن مروحة الطائرة إذا اشتد دورانها فإننا لا نراها مع أنها موجودة .. وهكذا بالنسبة لذرات الهواء والذرات المتطايرة من المواد الأخرى والتي نحس بها عن طريق الرائحة دون الرؤية ..

وذرات العالم السداسي الأبعاد أسرع دورانا وبهذا تخرج عن المستوى الاهتزازي لعالمنا المادي فلا نستطيع أن نراها . ومن العالم الذي لا نراه الجن والملائكة والشياطين , وحتى النفس البشرية خارجا عن الجسد . وقد دل علم الميكانيكا الموجية على أن الأساس فى تداخل الأجسام أو عدم تداخلها يرجع إلى اختلاف المستوى الاهتزازي لهذه الأجسام أو تطابقه . فإذا كان المستوى الاهتزازي لهما واحدا لانتمائهما إلى نفس العالم فان تداخلهما يكون مستحيلا , فلا يستطيع الإنسان أن يخترق بجسده الحائط لأن المجال الاهتزازي بينهما واحد . أما إذا اختلف المجال الاهتزازي فيستطيع الكائن الأكثر اهتزازا أن يخترق الكائن الأقل اهتزازا . فالجن والملائكة تستطيع اختراق الجسد الإنساني والعالم المادي . ويكون التداخل بينهما طبيعيا . وعلى ذلك فان وجود جسمين أحدهما أرضى والأخر برزخي متداخلين ويشغلان مكانا واحدا فى وقت واحد يعتبر ظاهرة طبيعية يؤيدها العلم . وجهاز الراديو أبرز مثال على ذلك فالكون ممتلئ بموجات لاسلكية تخترق الجدران لأن ذبذباتها اعلي من نظيرتها فى العالم المادي وهى فى نفس الوقت مختلفة الذبذبات لذلك تتداخل فى جهاز الراديو ولا يحس بعضها ببعض ولا يؤثر بعضها على بعض , وكلها فى نفس جهاز الراديو , فإذا استقر مفتاح الراديو على موجة معينة التقطها دون أن يعوقه وجود موجة أخرى فى نفس المكان أو نفس المحطة لأنها ذات ذبذبة أخرى . فإذا أردنا التشويش على محطة بعينها استخدمنا نفس الذبذبة ..

إذن فالإنسان يعيش فى عالمين متداخلين ولكل منهما مستوى اهتزازي يغاير الآخر . ويتداخل الجسمان : الجسد الارضى والنفس البرزخية فى كائن واحد ومكان واحد .

والإنسان أيضا لا يرى الملائكة بعين جسده , ومن الملائكة رقيب وعتيد , وهما مقترنان بكل إنسان يحفظان أعماله , ومع اقترانهما به ومعرفتهما به فإنه لا يدرى عنهما شيئا . ولا يكشف ذلك إلا عندما يموت لحظة الاحتضار وعند البعث عندما ينكشف عنه الغطاء ..

والنبي محمد فى ليلة القدر انكشف عنه الغطاء فرأى جبريل والعالم البرزخي ورأى من آيات ربه الكبرى . ومنها سدرة المنتهى وجنة المأوى التي يعيش فيها من يقتلون فى سبيل الله ويعيشون فيها متنعمين حيث لا نشعر بهم نحن فى عالمنا المادي , وان كانوا يحسون بنا ( البقرة : 154 , آل عمران ـ 169 ـ  )   ..

أي أن العالم البرزخي يحيط بنا بكل من فيه من ملائكة وشياطين وجان . وبكل ما فيه من أخبار وأنباء , كلها مستقرة فيه إما قد وجدت وسجلت من خلال أولئك الذين عاشوا وماتوا أو لم تحدث بعد وظلت مجرد أنباء وأخبار والله تعالى يقول " لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ : الأنعام : 67"  

وسيأتي الوقت الذي سنعلم فيه .

ونرجو ألا نندم عندما نعلم .. حيث لا ينفع الندم ..

 

 

 

 

 

 

 



[1]
راجع تفسير سورة الإسراء فى تفسير بن كثير .