كتاب الحج ب2 ف 7 : لماذا إنتصر التواتر القرشى فى الحج ؟

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٧ - فبراير - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين

الباب الثانى : الدين السّنى وصناعة تشريع الحج .

الفصل السابع :  لماذا إنتصر التواتر القرشى فى الحج ؟

أولا : ( لولا ..!! )

1 ـ كان دعوة الاسلام فرصة هائلة للمستضعفين المهمّشين فى مكة ، أعطاهم الاسلام فكرة الأمل فى العدل والمساواة وحرية الدين طالما يلتزم الفرد بالسلام والمسالمة ، لهذا دخل معظمهم الى الاسلام وهم فى مكة ، وقد ظنّوا أن سلبيتهم ومسالمتهم وهامشية وضعهم فى مجتمع قريش سيجعل قريش تستهين بهم .. لولا ..

2 ـ لولا أن العنجهية القرشية إستكثرت على هؤلاء الأتباع وسقط المتاع أن يكون لهم دين يخالف ما وجدت عليه قريش أسلافها ، فاضطهدت قريش أولئك المستضعفين والنبى عليه السلام ، وأجبرتهم على الهجرة للمدينة ، وفيها تمتع أولئك المستضعفون بحريتهم الدينية. فى بداية إستقرارهم فى المدينة أدمنوا عصيان الرسول والاعراض عنه تهاونا بشأنه لأنه ليست هناك عقوبة على عصيان الرسول بمثل ما كانت تفعل بهم قريش فى مكة ، لذا لم يأبهوا بقوله جل وعلا لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)( الأنفال ). أى وقعوا فى العصيان والخيانة ، وكل ما هنالك أن جاء لهم التحذير من عذاب الله جل وعلا  ، فقد كان الأمر لهم بالتقوى والطاعة لله جل وعلا يأتى مشفوعا بالتحذير من عذاب الآخرة ، ولم يكونوا ـ فى معظمهم يؤمنون بالآخرة ، لذا ظلوا متبعين لعقائدهم المشركة متمتعين بالحرية الدينية فى الاسلام لكل مسلم مسالم . ظلوا على تقديسهم للأوثان والأنصاب ، الى درجة أن من أواخر ما نزل من القرآن كان نصيحة لهم بالانتهاء عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام لأنها رجس من عمل الشيطان . هكذا قال لهم رب العزة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91)( المائدة ) ثم يأمرهم بالطاعة ويقرّر لهم إن مسئولية الرسول هى فى مجرد التبليغ وليس الإكراه فى الدين : ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)( المائدة ).

هم الذين ( أمنوا ) سلوكيا فقط ، أى بمعنى ( الأمن والأمان )، أو ( أسلموا ) سلوكيا بمعنى (المسالمة ) وقد عصوا أمر الله جل وعلا لهم وظلوا يعكفون على الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ، ولم يضيفوا الى الايمان السلوكى الظاهرى الايمان القلبى بالله وحده لا شريك له ، وبما أنزل فى كتابه الحكيم وما سبقه من كتب، ولقد قال لهم رب العزة :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) ( النساء). هؤلاء الصحابة ( الذين آمنوا ) بمعنى ( الايمان الظاهرى بالتزام الأمن والسلام ) لم يؤمنوا الايمان القلبى ، ولم يأبهوا بتحذير رب العزّة لهم فى أنّ من يكفر قلبيا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالا بعيدا . هؤلاء الصحابة راهنوا على السلام والمسالمة ، وأحبوا أن يعيشوا فى المدينة فى أمن وأمان متمتعين بعقائدهم الشركية والحرية الدينية التى كفلها الاسلام لكل مسالم ..لولا ..

3 ـ لولا .. إن قريش لم تتركهم ينعمون بحريتهم الدينية وحياتهم المسالمة فى المدينة ، إذ تابعت قريش هجومها الحربى على المسلمين فى المدينة بعد هجرة النبى والمسلمين اليها، وركن أولئك المسلمون المهاجرون الى السلبية والسكون متمتعين بالأمر الالهى لهم بالكفّ عن ردّ العدوان ..لولا  ..

4 ـ لولا .. أن نزل الأمر الالهى يأذن لهم بالقتال الدفاعى ضد أولئك الذين يقاتلونهم ، والذين قاموا من قبل بطرد المسلمين المسالمين من ديارهم وصادروا أموالهم : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ )(40) (الحج ).. عندها علا صوت أولئك الصحابة بالاحتجاج على فرضية القتال الدفاعى. ثم طلبوا مهلة ليستوعبوا الأمر، وجاء الرد الالهى على خوفهم من قريش ومن الموت : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ )(78) النساء ). كرهوا القتال الدفاعى ، ..لولا ..

5 ـ لولا ..إنه فرض مكتوب ، فهو خير لهم من أن تقتلهم قريش بلا مقاومة:(كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (216) البقرة ). لو لم يهبوا للقتال دفاعا عن أنفسهم ستبيدهم قريش . أى تحتّم عليهم القتال الدفاعى ..لولا ..

6 ـ لولا ..إنها قريش.. أى سيحاربون أهلهم وعشيرتهم وقومهم وأصل حسبهم ونسبهم ..أى بالحرب الحتمية ( تحتّم عليهم الاختيار بين نوعين من الانتماء : الانتماء للإسلام بما يعنيه من حرية وعدل ومساواة وكرامة إنسانية ، أو الانتماء للقبيلة ( قريش ) بكل ما يعتيه هذا من فخر وتميز على بقية القبائل . الحرب هنا تعنى الموالاة والتحالف إمّا مع الاسلام والمسلمين المحاربين للدفاع عن النفس ضد عدو مهاجم ، وإمّا أن توالى وتحالف هذا العدو المهاجم المعتدى لأنك تنتسب اليه بصلة الدم والقبيلة . كان ممكنا تجاهل موضوع الولاء الذى يقدح فى إكذوبة عصمة الصحابة ..لولا ..

7 ـ لولا ..أن القرآن الكريم ذكره وأكّده بما يوجب عدم كتمانه ، خصوصا ولأن موضوع الانتماء القبلى وموالاة المهاجرين فى المدينة لأهلهم القرشيين فى مكة هو السبب الأصيل فى إنتصار قريش وفرض تواترها الباطل فى الحج بعد موت النبى عليه السلام .

ثانيا : الصحابة المهاجرون ومحنة الولاء

1 ـ هنا نقرر أن الولاء والموالاة لا تكون إلا فى حالة الحرب . أى أن توالى وتتحالف مع هذا ضد ذاك .

2 ـ ولا يكون هناك مشكلة إلّا إذا تعارضت الولاءات كما هو الحال هنا . فالثقافة العربية ـ وخصوصا الجاهلية ـ مؤسسة على التعصب القبلى ( نسبة للقبيلة ) ، فالقبيلة كانت دولة بأفرادها ومواردها وقادتها وجيشها ، والانتماء للقبيلة يعطى الأمن لأفرادها ، والفخر بالقبيلة دليل الولاء لها ، لذا كان شعر الفخر والتفاخر بالأنساب ثقافة عربية ـ ولا تزال .. وإذا كان هذا ثقافة عربية لكل القبائل فكيف بقريش بعظمتها وعنجهيتها وإستكبارها ؟ !.

3 ـ زاد من حدّة المشكلة عدة عوامل أنّ الاغتراب كان عن الوطن ( مكة ) . فقبيلة قريش ليست من القبائل التى تحترف الرعى وتسير بإبلها خلف الكلأ والمرعى ، حيث تكون القبيلة دولة متحركة لا تعرف الانتماء لوطن معين . إستقرّت قريش فى مكة قرونا جيلا بعد جيل ، أى ( مكة ) هى وطن الأجداد  . ثم هى ( مكة ) حيث البيت الحرام الذى تهوى اليه أفئدة الناس . المهاجرون تركوا مكة وعاشوا يعانون الغربة عن الوطن فى بلد لم يألفوه من قبل. أى جمعوا شعورا مزدوجا بالغربة عن الوطن والأهل والعشيرة . وتناسوا بهذه المعاناة ظلم اهلهم القرشيين فى مكة، وهبط بهم  الحنين الى الوطن والأهل الى موالاة بعضهم لقريش ، وهى التى تشنّ عليهم حربا عدوانية تسلزم مواجهتها بالعداء وليس بالولاء . وخلاف الثقافة القرشية وغلظتها وتجبرها فلا توجد فى شريعة الاسلام عقوبة دنيوية على من يرتكب هذه الموالاة ، طالما لم تتحول الموالاة الى مشاركة فعلية تحمل السلاح وتقاتل .

4 ـ ونجرؤ على القول بأن هذا الولاء لقريش كان لدى جميع المهاجرين ، ولكن بمستويات مختلفة . كان ـ كأى حالة إنسانية  ـ حنينا كامنا فى القلب وحنايا الضلوع مترسبا فى الشعور ، يرتقب الفرصة للظهور . كل ما هنالك أن المؤمن لو زاد إيمانه فإنّه بتغلب على هذا الحنين . أما لو كان ضعيف الايمان فإن حنينه يغلبه. ومثلا ، فإن كبار الصحابة المهاجرين لم يظهر ولاؤهم لأهلهم من قريش طالما كانت قريش فى كفرها وحربها ضد النبى الاسلام ، فلما دخلت قريش فى الاسلام ومات النبى تحالف أولئك الكبار مع أعيان قريش من الأمويين ، وبهم أصبحت قريش كتلة واحدة بمهاجريها و(الطلقاء) منها الذين أسلموا بعد طول حرب للاسلام . وهنا دخلت قريش الموحّدة فى مواجهة ( سياسية) مع الأنصار ، أسفرت عن تهميش الأنصار بعد بيعة السقيفة ، ثم دخلت فى مواجهة عسكرية مع قبائل العرب فى حرب الردّة أسفرت عن فوز قريش الموحّدة ، ثم تولى ( الطلقاء الأمويون ) حرب الفتوحات التى أسّست إمبراطورية قريش ، وأرست تناقضها العملى السلوكى مع الاسلام .    

ثالثا : معالجة القرآن الكريم لمحنة الموالاة والولاء

التفاصيل فى بحث منشور هنا عن إنتماء المسلم ، وفى بحث آخر عن الولاء والبراء فى سورة الممتحنة . ولكن نعطى بعض ملاحظات سريعة فيما يخص موضوعنا :

1 ـ إن تقاعس المؤمنين المهاجرين عن الحرب كان يوازيه أمر للنبى عليه السلام بتحريضهم على الحرب الدفاعية مع تحريض الاهى لهم أيضا . يقول جل وعلا : ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) النساء ). هنا وعد الاهى لهم بالنصر والأجر العظيم . ثم يأتى التحريض الالهى لهم بالتذكير بظلم  قريش وأضطهادها لهم فى مكة ، واستمرار هذا الاضطهاد لمن بقى من المؤمنين عاجزين ممنوعين من الهجرة ( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) النساء ). ثم التأكيد بأن المؤمن الحقيقى هو من يقاتل فى سبيل الله جل وعلا ، والكافر المعتدى هو الذى يقاتل فى سبيل الطاغوت ، وهو ولى للشيطان : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76) النساء ).

ويأتى الأمر للنبى عليه السلام بأن يقاتل فى سبيل الله بنفسه ، وأن يقوم بتحريض المؤمنين على القتال لمواجهة العدوان :( فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً (84) النساء ).

وفى سورة الأنفال يأتى تحريض مزدوج للنبى والمؤمنين بالقتال الدفاعى حتى لو كانوا قلة عددية :( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) الانفال ).

2 ـ وخلال سنوات لم يُجد نفعا هذا التحريض ، فتحوّل التحريض فى النهاية الى تأنيب فى آخر ما نزل من القرآن ، يقول جلّ وعلا : (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) التوبة )، وبعد التأنيب يأتى التحذير والوعيد ( إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) التوبة )

3 ـ بالتوازى مع التقاعس عن القتال كان المهاجرون متهمين قرآنيا بموالاة عشيرتهم المعادية ، وهذا  بثقافة عصرنا ( خيانة عظمى ) وقت الحرب . والغريب أن هذه الموالاة من المهاجرين لأهاليهم القرشيين المعتدين بدأت مباشرة بعد الهجرة ومعاناة المهاجرين للغربة ، وتحولت هذه المعاناة الى موالاة للخصم الظالم ، واستمرت هذه الموالاة الى النهاية .

4 ـ فى مطلع سورة الممتحنة التى نزلت مباشرة بعد الهجرة مباشرة  يوجّه رب العزّة عتابا للمؤمنين الذين يوالون أعداء الله ويبادرون بالقاء المودة اليهم ، مع إن أولئك القرشيين الظالمين قد جمعوا بين الكفر القلبى العقيدى ( الكفر بالقرآن ) والكفر السلوكى بإخراج النبى والمؤمنين بسبب أنهم آمنوا بالله جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ )، فإن كان المؤمنون قد هاجروا جهادا فى سبيل الله جل وعلا فلا يصح أن يلقوا بالمودة سرّا لأولئك الكفار المعتدين  (إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) ، ويحذّرهم رب العزة بأنه يعلم سرائرهم وعلانيتهم ، وأن من يفعل ذلك منهم فقد ضلّ سواء السبيل: (وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) الممتحنة ). ويؤكّد رب العزة لهم مقدما بأن العداوة الحقيقية ستظهر عندما يهاجم أولئك المعتدون المؤمنين بالسيف واللسان لارجاع المؤمنين للكفر:( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2). ويأمرهم رب العزة بالتأسّى بابراهيم ومن معه حين تبرءوا من قومهم :( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ )(4). ثم يوضّح رب العزة إن هذه الموالاة الممنوعة مرتبطة فقط بمن يبدأ بالظلم والعدوان بإخراج المؤمنين من ديارهم والهجوم عليهم بالقتال ، ولكن يجب البر والعدل والاحسان بالمسالمين مهما كان ضلالهم الدينى :( لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(9)الممتحنة ).

5 ـ وعصى الصحابة المهاجرون هذا التوجيه الالهى ، فنزل قوله جل وعلا ينفى الايمان الحقيقى بالله جل وعلا واليوم الآخر عن أولئك الذين يوادّون أقاربهم الذين أظهروا عداءهم لله جل وعل بكفرهم السلوكى وبإعتدائهم وظلمهم وطردهم للمؤمنين : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ )(22) المجادلة ).  

6 ـ وظل عصيان المهاجرين الى النهاية . كما جاء فى سورة التوبة . وقد بدأت السورة بإعلان البراءة من القرشيين ناقضى العهود ، وإعطائهم مهلة أربعة أشهر حتى يركنوا للسلم ، فإن لم يتوبوا ويكفوا عن الاعتداء فيجب شنّ حرب شاملة عليهم  : ( بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) .... ) التوبة ).

والواضح أن هذه الآيات بنبرتها العالية وتفصيلاتها تشير الى حركة ردّة كبرى قامت بها قريش ، فنقضت العهد مع النبى ونجحت فى طرد المسلمين مؤقتا من مكة وإسترداد البيت الحرام والتحكم فيه .

والملاحظ هنا أوّلا : تقاعس المؤمنين المهاجرين عن حرب أولئك القرشيين المعتدين ناكثى العهود ، لذا يأتيهم التحريض مقترنا بالتأنيب فى قوله جل وعلا لهم:( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) التوبة).ولأن أولئك المعتدين من قريش قد جاوزوا الحد فى الاعتداء فإن الله جل وعلا يقول فى التحريض على قتالهم يذكّر بتطرفهم فى العدوان : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) التوبة ). ومن أسف فإن السيرة لم تسجل وقائع تلك الحرب الى شنّها القرشيون واستردوا بها مؤقتا البيت الحرام على غفلة من المؤمنين بعد نقضهم العهد وأخذهم المؤمنين فى الحرم على حين غفلة . ولقد كان الرواة الأوائل للسيرة فى الفترة الشفوية من أبناء الصحابة من المهاجرين والأنصار ، لذا تحرّجوا من رواية الأحداث التى تشين أجدادهم ، ومنها تلك الأحداث التى نزل القرآن يعلّق عليها ، ويضع لها تشريعات خاصة مثل هذه الآيات من سورة التوبة .

والملاحظ  هنا ثانيا : أن تأنيب الصحابة المهاجرين عن تقاعسهم عن القتال الدفاعى إرتبط بتأنيب آخر بسبب موالاتهم لعشيرتهم القرشيين المعتدين ، لذا قال جل وعلا لهم مؤنبا محذّرا مهدّدا يصفهم بالظلم والفسق : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) التوبة ). أى استمر عصيانهم وموالاتهم الاعداء المعتدين الى آخر ما نزل من القرآن ، وفى ظروف غاية فى الدقة والحرج حين قامت قريش بحركة ردة كبرى نقضت فيها العهد .

والملاحظ ثالثا : إن حركة الردة هذه تمت وقت أن كان النبى فى مكة ، لذا همّوا بإخراج الرسول من مكة والحرم ، ولم يتمكنوا، ولولا أن الله جل وعلا سجّل هذا فى كتابه المحفوظ ما عرفنا هذه الحقيقة التاريخية المنسية ، يقول جل وعلا فى سياق التحريض على قتالهم:( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) التوبة ). فهم الذين بدءوا بالحرب على حين غفلة بنقض العهد ورفع السلاح فى بيت الله الحرام ، وكان النبى وقتها فى الحرم ، فعصمه الله جل وعلا منهم ، وفى النهاية كانت هزيمتهم ونزل منع المعتدين من دخول البيت الحرام ، ووصفهم بأصل النجاسة تحقيرا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) التوبة ).

والملاحظ أخيرا : هذا التشابه الواضح بين تأنيب الصحابة المهاجرين بسبب موالاتهم لكفار قريش بعد الهجرة كما جاء فى سورة الممتحنة ثم بعدها فى أواخر ما نزل فى سورة التوبة :( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) التوبة ).( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ). فى الحالتين أخرجت قريش المعتدية النبى أو حاولت إخراجه ، وفى الحالتين بدأت قريش بالعدوان ، وفى الحالتين ظل ـ مكتوما أو معلنا ـ ولاء المهاجرين لقريش برغم ما فعلته .

رابعا : إستخدام قريش الموحدة الاسلام لمصلحتها وإعادة تواترها الباطل فى الحج

1 ـ فى حياة النبى عليه السلام إنقسمت قريش الى قسمين : قسم إحترف الاعتداء والبغى وتمسك بالتواتر الباطل وعاش فى مكة متحكما فى البيت الحرام والحج اليه ، وقسم هاجر الى المدينة ، ولكن ظل ولاؤه صريحا أو مكتوما للقسم الباغى المعتدى . وبموت النبى إتّحدت قريش كلها فى إطار البغى والاعتداء ( الفتوحات )، وبالتالى تأكّد الولاء لقريش على حساب الاسلام والتواتر الحقّ.

2 ـ ودخلت قريش بالفتوحات فى دور جديد عاد به التواتر الباطل أقوى مما كان ـ بل أضافت اليه الفتوحات القرشية العربية أباطيل جديدة منها :

2/ 1 : منع أهل الكتاب من الحج بعد أن قام عمر بن الخطاب فى خلافته بتهجيرهم من الجزيرة العربية وإخراجهم من ديارهم دون أن يرتكبوا إثما . وأسفرت الفتوحات عن تكوين الامبراطورية العربية وتقسيم العالم الى معسكرين متحاربين : معسكر قريش الذى يحمل شعارالاسلام ، ومعسكر الصليب الذى تحملة الامبراطورية البيزنطية. والحرب بين المعسكرين أسفر عنها التأكيد على تحريم البيت الحرام على أهل الكتاب .

2/ 2 : ومنها حصر الحج فى اسبوع واحد بسبب تهديد القبائل العربية والخوارج لقوافل الحج .

2/ 3 : تجاهل ثم نسيان حرمة الأشهر الحرم فى خضم الحروب الأهلية بين الأمويين وخصومهم من الزبيريين والخوارج والشيعة والعلويين والأقباط والبربر والموالى ..الخ ..

3 ـ إذ أنّه بعد الوعى الذى أحدثه الاسلام والقرآن لدى القبائل العربية فلم يعد مقبولا  لديهم عودة الهيمنة القرشية، لذا ثارت القبائل العربية فيما يعرف بحرب الردّة التى كانت إحتجاجا ضد قريش ، عبّر عنه مسيلمة الكذاب بقوله ( لقريش نصف الأرض ولنا نصفها ) . وبإخماد حركة الردة رأت قريش أن توجّه شوكة القبائل العربية للفتوحات الخارجية ، بعد أن أقنعت كبار المهاجرين بأن الجهاد هو قتال غير العرب المسالمين ، بحجة تخييرهم بين واحد من ثلاث ( الاسلام ، الجزية ، الحرب ) . وبالانتصار تم الإحتلال والاستعمار والاستيطان والاستعباد والاسترقاق والسلب والنهب والسبى باسم الاسلام . وإحتكرت قريش خيرات الأمم المفتوحة فثارت الحرب الأهلية بقتل عثمان مما أسفر فى النهاية عن تأسيس ملك الأمويين الذين يعبرون عن التواتر الباطل القرشى . وتحوّل الأعراب الثائرون على قريش الى ما يسمى بالخوارج ، وقد أرهقوا الدولة الأموية فى حروب مستمرة ، وبهم إستمرت الغارات على قوافل الحج مما إستدعى حصر الحج فى اسبوع واحد هو بداية الموسم فى الاسبوع الأول من ذى الحجة .

4 ـ وإذا كانت  المبادرة القرشية بالفتوحات قد أدّت الى تعطيل الاصلاحات القرآنية فى ملة ابراهيم فإن العصر الأموى أعاد التواتر القرشى الباطل فى مناسك الحج .

5 ـ كما إن تهميش الأنصار ثم إنتقال عاصمة المسلمين من المدينة الى الكوفة ثم الى دمشق ثم بغداد ، وإنحسار الأضواء عن المدينة بعد أن كانت مهد الاسلام ـ كل ذلك أدّى الى رد فعل عكسى لدى أهل المدينة ، عبّر عنه الامام مالك فى أول تأليف فقهى إعتمد على الأحاديث المنسوبة للنبى وللصحابة والتابعين وعمل أهل المدينة . وبدأ به تقديس المدينة وتحويلها الى ( حرم ) يضاهىء الحرم المكّى ، وتحول مسجد المدينة الى مزار مقصود بالحج ، وتحول ( قبر النبى ) الى وثن مقدس ، لا يتم الحج للبيت الحرام بدون زيارته .

وهذا يحتاج تفصيلا .   

اجمالي القراءات 13304