الطبيعة الغير مستقرة للمجتمع المصري

سامح عسكر في الخميس ١٤ - فبراير - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 

إذا أردت أن تعرف شعباً ما كيف يفكر وكيف يسلك فانظر إلى طبيعته..هل هي طبيعة تعتمد على التاريخ أم على الحِسّ القومي والديني، وإذا كان هناك رابط لتشكيل هذا الحِسّ بالتاريخ فما هي الأحداث التي أثرت فيه وكيف نفهمها أو نتعامل معها، وهل هناك ما يُقابلها في الحاضر أم لا؟..وإذا كان هناك وافد ثقافي يعتبر نفسه أصيلاً في المجتمع.. إذن ما الذي صنع هذا الوافد، وهل الطبيعة -التي نتحدث عنها- هي التي أنشأت هذا الوافد أم أن هناك نماذج للطبيعة تتشكل حسب غلبة الحِسّ؟..الحل هو في التسليم بتعدد نماذج للطبيعة.. نظراً لأن مؤثر الوافد يكون عبر طبيعة أخرى تربطها مع الطبيعة الأم بروابط دينية أو عِرقية، فمن السهل أن أدعو كمصري برباط الدين والعِرق في بلاد المغرب ولكن لن أستطيع فِعلُ ذلك في بلاد الصين، ونظراً لأن هناك ضروريات لا غِنى عنها لكل البشر فيجوز لي أن أدعو بهذه الضروريات في المجتمع الصيني والمغربي معاً...وهذا ما يجعل التسليم "بكثرة نماذج الطبيعة" حلاً لتضمن أي طبيعة ضروريات لا غِنى عنها.

هناك إشكالية أخرى وهي أنه لو سلمنا بوجود عِدة نماذج للطبيعة الواحدة فهذا يعني وجود إشكالية في مفهوم" الهوية" -لذلك الشعب- ذلك لأن كثرة النماذج تعني تعدد الهويات، فالهوية هنا ليست هوية شخص ولا هوية مجتمع بل هي هوية مكان، فيجوز أن يكون لكل مكان هوية خاصة عبر طبيعة خاصة، لأن المجتمع –في الغالب-يُفكر بالمرجعية التي أنشأها الحِسّ القومي والديني أو بما يُعرف عند البعض.."بالعقل الجمعي"..أما الاستثناء فيكون في شيوع العقلانية التي هي لا تُشكل أُطر تفكير –مجتمعية-خارج صندوق هذا الحِسّ...ونعترف بأن هذه العقلانية هي أكبر خطر على الهوية ومبادئها، وإذا كانت هناك مجتمعات بدأ مفهوم الهوية لديها يندثر فهناك مجتمعات أخرى تطور لديها مفهوم العقل بتطور "معاني الضرورة"فأصبحت تلك المجتمعات تُشكل هويتها الخاصة في كل حُقبة زمنية..وبالتالي فهي تحتفظ بهويتها التي تتطابق مع عقلها الجمعي باستمرار. 

المجتمع المصري ملئ بتعدد الثقافات والنزعات ..ولكن على كثرتها فهي لا تفصل-لديه-مابين مبادئ الدين ومبادئ الهوية.. فالاثنان عند المصريين واحد، كذلك في الاعتقاد بتلازم المعرفة مع الأخلاق وهذا الاعتقاد سمة من سمات المجتمعات الأمية والمصريون يعانون من هذا الاعتقاد للأسف الشديد، والسبب يقبع في تراكب معاني الاستبداد في النفس المصرية منذ أمدٍ طويل، ويأتي هذا التراكب في وجوه لها قابلية عند المصريين كمثال"النزعة الأبوية"و يُعبر عنها المصريون في المَثَل الشهير.."اللي مالوش كبير يشتري له كبير"..وهو تعبير عن اليقين بقصور الذات واستحالة المعرفة..وفي ظل هذا الاعتقاد تتضخم مفاهيم "الضرورة"فتقوم بتشكيل هوية "المكان" باستمرار.. وتتجدد بتجدد قوانين وهوية هذا المكان.

ولكن في النهاية تكون هذه الأمثلة –في صناعة الهوية-هي ذاتها تكون الأزمة مع الحرية وما يتعلق بها سمات وإسقاطات .

فتصادم الهوية مع الحرية يأتي من فهم الضروريات في المقام الأول، ذلك لأن تضخم الضروريات -عبر معاني الاستبداد- ينزع معنى الضرورة من سياقها التاريخي ويضعه في سياق آخر واقعي، فيأتي الاعتقاد المخطئ بتشابه الأحداث ومظاريفها في جميع الأشياء وهذا خطر كبير تعاني منه المجتمعات الغير مستقرة، ذلك لأن من أهم معالم المجتمع المستقر هو النَظَر للتاريخ للاعتبار من الأحداث ومن النتائج وليس للتطابق..هذا لأن التاريخ هو غير خطي أصلاً، فهذا المجتمع المستقر هو القادر على إنشاء معايير أكثر صرامة له وتكون أكثر دقة في الاحتفاظ بهويته حتى في ظل إشكالها مع الحُرية، وأعتقد أن المجتمع الأوربي يملك هذه الميزة..فقد استطاع الاحتفاظ بهويته رغم شيوع معاني الحرية فيه، في المقابل لو كانت معاني الحرية تلك متوفرة في المجتمع العربي"الآن" وبنفس المقدار لضاعت هوية العرب في زمن قصير.

إن الحُكم باستقرار وعدم استقرار أي مجتمع يكون عبر دراسة فهم هذا المجتمع للحريات، ذلك لأن المجتمع يحوي -في الغالب- عقلاً جمعياً تراثياً ومبادئ وأخلاق عامة تكون هي المعايير لديه..والمجتمع الذي يفهم الحرية من منظور الهوية تختلط لديه المعايير فيكون الصدام والعُنف هو سمته العامة، بينما ليس بالضرورة أن نفهم الحرية من أي مناظير.. يكفي بأن نعتقد في حرياتنا أنها خاضعة للمعايير العامة وليست-الخاصة-ويعني ذلك أنه يجوز لنا بأن نصف التنويري بالاستبدادي، والمنغلق بالحر العادل والعكس صحيح، فالتنويري قد يعمل في إطار حِزبي فيرى الآخر بمنظور هويته، وقد يعمل في إطار عاطفي فيكون رأيه تابعاً لانفعالاته.. وحينها يجور على كافة المعايير لديه، أما المُنغلق فهو بالأصل مستبد ولكن يجوز لنا بأن نصفه بالمستبد العادل، هذا لأن استبداده يكون من حيثية الأحكام المُطلقة لديه، ويكون عدله من حيثية فهمه للحرية..ولدينا أمثلة كثيرة في الواقع وفي التاريخ للاعتبار.

ما أود قوله في النهاية أننا إزاء مجتمع غير مستقر في مصر، وأن من طبيعة مجتمعات كهذه أنها لا تُفكر بنَسَق واحد.. نظراً لأن تعدد الطبيعة خلق لديها مشاكل في الهوية، وأن هذه المُشكلات يأتي علاجها من رحم الحُرية، وأن المؤثرات الخارجية -على فرض قوتها- هي تعمل في هذا الإطار، وأن معاني الاستبداد الكامنة -على فرض ضعفها-هي التي تواجه هذه المؤثرات عبر حِسّها القومي والديني وجذورها التاريخية..هذا الصراع مشتعل في مصر منذ بداية عصر التنوير فيها...أي منذ زمان رفاعة الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وغيرهم..ولكل طرف في هذا الصراع جولات خاسرة وأخرى رابحة، وأن معاني الاستبداد تربح حين يكون الانطلاق والتفكير من الهوية ، وأن الحرية تربح حين يكون الانطلاق والتفكير بالمعايير والضروريات...وأظن أننا الآن في مصر نعيش إرهاصات جولة صراع من هذه الجولات، وربما لن تكون الأخيرة ولكن الراجح-فيما يبدو-أن المجتمع يسير بخُطى ثابتة نحو فهم حقيقي للحرية.. ولكن –على ما يبدو أيضاً-أن التكلفة ستكون أكبر من أي جولة من جولات الماضي.

اجمالي القراءات 8220