دستور مرسى : وسلب ثروات المصريين بالأوقاف : ( 9 / 7) : الاوقاف والأقباط

آحمد صبحي منصور في السبت ١٩ - يناير - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا :

 1 ـ كانت الأوقاف على الأديرة وغيرها ظاهرة مصرية عندما فتح العرب مصر ، وجاء تقليدهم لها بالتدريج خلال العصور التالية الى أن أصبحت لمصر مكانتها وريادتها فى العصر الفاطمى فإزدهرت الأوقاف وأصبح لها دورها السياسى والدعوى الذى تغير من الفاطميين الى الأيوبيين والمماليك . ومن الطبيعى فى نظم حكم يسودها التعصب والظلم وتستخدم الدين فى الاستبداد والاستعباد أن ينال الأقباط ظلم ، كان منه أستحلال أوقاف الأقباط . ولسنا فى مجال التأصيل البحثى فى هذا الموضوع حتى لا نخرج عن أساس الموضوع وهو ( دستور مرسى ) ، ولكن نكتفى بأمثلة كاشفة تشى وتشير الى العقلية السلفية الاخوانية الوهابية الحالية .

2 ـ إنّ مدى إستحلال الأوقاف القبطية فى مصر يبدو مرتبطا بمدى إضطهاد الأقباط ، فهى تزيد مع زيادة إضطهادهم وتقلّ وتخف مع خفوته . ينطبق هذا على القرون الوسطى كما ينطبق على تاريخ مصر الحديث والمعاصر . وربما يتفرّغ باحث قبطى لتجلية هذا الموضوع . ولكننذكّر بمقالاتنا عن اضطهاد الأقباط وثقافة الفتوح عند المقريزى ، وهذا الاضطهاد كان ـ ولا يزال ـ البيئة التى كان سلب الأوقاف ظاهرة فيها .

3 ـ وعلى سبيل المثال فقد اشتهر الخليفة الفاطمى المجنون ( الحاكم بأمر الله ) باضطهاد الأقباط ، وكان من ملامح هذا الاضطهاد أنه استولى على أوقاف الكنائس عام 399 . وتوقف الاضطهاد أو خفت فى العصر المملوكى فى فترات واسعة فكان السلاطين المماليك يصدرون مراسيم بعدم تعرض أحد لأوقاف دير سانت كاترين ، أى تقف السلطة حاميا لأوقاف الأقباط ضد الناهبين والمعتدين من ( المسلمين ) المتعصبين . وضمن هذا توصية السلاطين المماليك برعاية الأوقاف على الكنائس المصرية والشامية ، واشتهر بذلك السلطان الظاهر بيبرس برغم احتدام الحروب الصليبية فى عهده . وسار على نهجه السلاطين قلاوون و بيبرس الجاشنكير وبرقوق . وعلى خلاف ذلك نرى موقف السلطان المملوكى صالح ابن الناصر محمد بن قلاوون فى عام 755 ، إذ يأمر بالاستيلاء على أوقاف الكنائس عندما زادت عن 25 ألف فدان ، وأمر بتوزيع الزيادة على الأمراء وبعض الفقهاء . ومع وضوح الجانب السلبى السيىء فى هذا الخبر إلّا إنه يشير الى ناحية إيجابية هى زيادة الوقف على الكنائس الى درجة أثارت الفقهاء المتعصبين فأفتوا لهذا السلطان الصبى أن يصادر الزائد منها.

4 ـ فى بحث ( إضطهاد الأقباط بعد الفتح ( الاسلامى ) قلنا عن عصر الخليفة المتوكل : (وشهد عصر الخليفة المتوكل ظاهرة جديدة هى انتصار الفكر الحنبلى المتشدد وهزيمة الفكر المعتزلى العقلانى، وقد استمال السلفيون من أصحاب ابن حنبل ورواة الأحاديث الخليفة المتوكل إليهم، وبتأثيرهم دخلت الدولة العباسية فى اضطهاد مخالفيها فى المذهب والدين، فحوكم شيوخ التصوف وطورد الشيعة وهدم ضريح الحسين فى كربلاء، وصدرت قرارات لاضطهاد اليهود والنصارى، وانتشرت الروايات والفتاوى التى تضع الإطار التشريعى لتلك الممارسات، ومنها الحديث المشهور "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده..." ذلك الحديث الزائف الذى أثبتنا كذبه فى مقالة بجريدة الأحرار والذى يعتبر الدستور العملى للتطرف حتى الآن. ويهنا أن هذه الفكرة كان لها ابلغ الأثر فى انتقال الاضطهاد للأقباط من دائرة الحكم والسياسة إلى الشارع والعوام، وساعدت الروايات والفتاوى وجهود الفقهاء والقصاصين وأهل الحديث فى شحن الأفراد العاديين بالكراهية ضد مخالفيهم فى المذهب سواء كانوا صوفية أو شيعة أو كانوا مخالفين لهم فى الدين أى من اليهود أو من النصارى.. وبالتالى تحول الاضطهاد الرسمى العنصرى للأقباط إلى اضطهاد دينى يشارك فيه المصرى المسلم ضد أخيه المصرى القبطى.. وبمرور الزمن تعاظم تأثير تلك الروايات والفتاوى وأصبحت ركائز دينية تفرق بين أبناء الشعب الواحد وتباعد بينهم وبين الدين الحق الذى نزل على خاتم الأنبياء عليهم السلام. والمؤسف أن المسلم اليوم - إذا أراد أن يتدين - يجد أمامه كتابات اولئك الأئمة فيما يعرف الآن بكتب الفقه والسنن وقد احتوت على تلك الروايات والفتاوى فيأخذها عنهم كأنها الدين الحق ويصدق نسبتها الكاذبة للنبى محمد ، مع انها – أى تلك الأحاديث – قد كتبوها ونسبوها للنبى بعد موته بأكثر من قرنين من الزمان عبر اسناد شفهى مضحك. الا أن المسلم اليوم يصدق هذه الأحاديث المفتراة ويعتقد أن النبى محمدا عليه السلام قد قالها فعلا ، وعلى أساسها يعتقد أن كراهية المخالفين فى المذهب والاعتقاد من معالم الدين حتى لو كانوا من المسالمين الصابرين. والدليل على ذلك ما نراه فى عصرنا الراهن من اضطهاد للأقباط مع علو لنفوذ التيار الحنبلى السلفى والذى استعادته الدولة السعودية عبر مذهبها الوهابى وأصبح من علاماته التطرف والتعصب والانغلاق واضطهاد المخالفين والحكم بتكفيرهم وما يترتب على التكفير من سفك للدماء واستحلال للأموال..

أعاد ذلك لعصرنا الراهن ما ساد فى عصر الخليفة المتوكل العباسى من سطوة الفقهاء المتزمتين الذين سموا أنفسهم بأهل السنة واستمرت سطوتهم فى عصر من جاء بعده من الخلفاء حتى أصبحت سياسة متبعة . ثم اعاد التطرف الوهابى والنفوذ السعودى هذا التراث حيا فى عصرنا.وليس غريباً بعدها أن نعرف أن أئمة الحديث المشهورين عاشوا تلك الفترة من ابن حنبل إلى البخارى ومسلم والحاكم وغيرهم ،وقد أصبحوا الآن فى عصرنا آلهة منزهة عن الخطأ ومن يناقشهم - معتبرا اياهم بشرا يخطئون ويصيبون – يكون مصيره الاتهام بالكفروإنكار السنة.!!

ونعود إلى التطور الجديد فى اضطهاد الأقباط فى هذه الفترة.

فى سنة 235 هجرية أصدر الخليفة المتوكل مرسوماً يهدف إلى تحقير (أهل الذمة)فى كل الامبراطورية العباسية، وذلك بإلزامهم بارتداء زى معين ومظهر معين، مع هدم الكنائس الجديدة وتحصيل الضرائب والعشور من منازلهم وأن يجعل على أبواب بيوتهم صوراً للشياطين، ونهى المرسوم عن توظيفهم وتعليمهم عند المسلمين، وتسوية قبورهم بالأرض وألا يحملوا الصليب فى أعيادهم وألا يشعلوا المصابيح فى احتفالاتهم وألا يركبوا الخيول.. وقد طبق الولاة ذلك على أقباط مصر وأصبحت سنة متبعة.

ومفهوم تلك القرارات أن يشارك الناس فى إلزام الأقباط بها، ومن هنا بدأ انغماس العوام فى اضطهاد الأقباط.. وتعلموا أن ذلك يعنى إظهار الإخلاص للإسلام، وانتقل ذلك الفهم الخاطىء لبعض الولاة المتدينين مثل أحمد بن طولون الذى استقل بمصر ذاتياً فى إطار الخلافة العباسية، وكان معروفاً بتدينه وجرأته على سفك الدماء لصالح سلطانه، ولم يكن الأقباط يشكلون خطراً على نفوذه، بل كان يستعين بهم فى دواوينه وأعماله ومع ذلك فقد قام بعمليات اضطهاد ضد الأقباط كأفراد ومنشآت دينية.. ولم تكن له فيها دوافع سياسية، مما يرجح أن دوافعه كانت دينية نتيجة تأثره بالفكر السلفى السنى السائد، وقد كان معروفاً بإخلاصه لذلك الفكر. ) انتهى النقل .

ونقول : من هنا نفهم سلوك القاضى بكّار بن قتيبة ، قاضى مصر الذى ولاّاه الخليفة المتوكل عام 246 ، وظل فى منصبه 24 عاما الى ان مات عام 270 . كان هذا القاضى ظالما متعصبا على ملة سيده الخليفة المتوكل العباسى . وكان مطلوبا منه بحكم منصبه ان يشرف على تسجيل أوقاف الأقباط ، و( أهل الذمة ). ومع أن الخليفة المتوكل قد مات فقد ظل هذا الخليفة على تعصبه وظلمه ، حين كانت مصر تحت ولاية ابن طولون ، وكانت بغداد تحت سيطرة الموفق ،ولى العهد المسيطر على أخيه الخليفة المعتمد . ولقد تغيّر مناخ التعصب شيئا بموت الخليفة المتوكل ، إلّا أن هذا القاضى الظالم المتعصب بكّار بن قتيبة لم يتغيّر . والوالى أحمد بن طولون وقتها خلط عملا صالحا وآخر سيئا فى تعامله مع الأقباط ، وتسامحه القليل شجّع أحد الأقباط على أن يتوجّه اليه ليشكو القاضى المتعصب بكّار بن قتيبة . وخاطب القبطى الوالى أحمد بن طولون فى جرأة وشجاعة وكراهية للقاضى ، فقال لابن طولون : ( إنّ هذا الذى يزعم أنه كان قاضيا جعل ريع أبى حبسا ) أى حبس القاضى أو أوقف عقارا يملكه الشاكى . فاستدعى ابن طولون القاضى فقال القاضى بغلظة : ( ثبت عندى أن أباه حبس هذا الريع ، وهو يملكه ، فأمضيت الحبس ، فجاء هذا متظلما ، فضربته ، فخرج الى بغداد ، فجاءنى بكتاب هذا الذى يزعم أنه الموفق : لا تمض أحباس النصارى ، فعرفت أنه جاهل ، فلم ألتفت اليه .! ).

ونحلّل ما سبق :  هذا القاضى يقول (ثبت عندى أن أباه حبس هذا الريع )، أى جاءه شاهدان يشهدان بهذا فاعتمد شهادتهما بأن والد القبطى قد أوقف املاكه ، فاعتمد الوقف ، أى شهد شاهدا زور أن هذا الرجل أوقف املاكه متنازلا عنها فاعتمد القاضى شهادتهما واستولى على أملاك الرجل بزعم أنه تنازل عنها لتكون أوقافا تحت تصرف القاضى ، أى إنّ القاضى سلب أملاك الرجل القبطى بشهادة زور . وواضح بين السطور أن هذا حدث بعد موت الرجل ، فاستولى القاضى على أملاكه بزعم أنه أوقف أملاكه قبل أن يموت . وفوجىء ابن المتوفى بأن تركته قد تحولت الى أوقاف وتم مصادرتها فجاء للقاضى يشكو . القاضى يعترف بظلمه فيقول ( فجاء هذا متظلما فضربته .!)، أى يعترف القاضى بأنه ضرب الذى جاءه ( متظلما ).!!. لم يسكت القبطى فسافر اللى بغداد وشكا القاضى الى  ولى العهد( الموفق ) الذى كان مسيطرا على الخلافة العباسية وعلى أخيه الخليفة المعتمد . وأرسل الموفق برسالة أو بكتاب الى القاضى يأمره الموفق بألّا يقوم بوقف أملاك النصارى ،أى لا يستولى عليها بحجة الوقف . والقاضى المتغطرس يقول عن الموفق وكتابه ( فعرفت أنه جاهل ، فلم ألتفت اليه .! ).. نفهم هنا أننا أمام قاض ظالم سارق ناهب ومتمسك بظلمه. ويبدون انها لم تكن الحالة الوحيدة ، ولكن البطل القبطى الذى تمسّك بحقّه وسافر الى بغداد وقابل الموفق هو الذى أجبر المؤرخين على أن يذكروا هذه الحادثة . ولم يكن كل الأقباط المظاليم فى شجاعة وفى قدرة وإمكانات هذا القبطى . لذا خفيت عنا آهات المظاليم الآخرين .

أخيرا

1 ـ المستفاد ممّا سبق أن شريعة السنيين فى تعصبها يكون سهلا تطبيقها بشهادة الزور ، مجرد أن يشهد شاهدان على أن فلانا القبطى قد أوقف أرضه أو ممتلكاته ، فيقوم القاضى بإمضاء شهادتهما أو أن يعتمد شهادتهما ، ويستولى على أملاكه . حدث هذا فى العصر العباسى ( عصر السّلف ) فما الذى يمنع تطبيقها فى عصر ( السلفيين ) ؟؟

2 ـ من هنا نفهم وجود مادة للوقف فى دستور مرسى .هذه المادة تقف للأقباط بالمرصاد.

اجمالي القراءات 10597