دستور مرسى وسلب ثروات المصريين بالأوقاف:( 9 / 5) الاوقاف والأزهر وشيوخ القزلباش

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٣ - يناير - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة

1 ـ فى إطار التصوف دار الصراع السياسى بين السنيين والشيعة بالتصوف السّنى والتصوف الشيعى . واستغل الفاطميون التصوف الشيعى فى مصر . وأحيا صلاح الدين الأيوبى التصوف السنى ليحارب به التشيع وتصوفه . وعند ضعف الأيوبيين أسّس الشيعة حركة سرية كبرى تتخفّى بالتصوف ، مركزها طنطا وتصل فروعها من المغرب الى العراق لاسقاط الدول الأيوبية ، وفشلت الحركة بوصول المماليك  للحكم للماليك ويقظة الظاهر بيبرس ، مما جعل زعيم الحركة الشيعية المتخفى بالتصوف وهو ( أحمد البدوى ) يواصل تخفيه بالتصوف لينجو بحياته هو أصحابه. فشلت هذه الحركة السرية سياسيا ولكن أصبح زعماؤها أشهر الأولياء الصوفية  ومنهم الرفاعى والسيد البدوى وأبو الحسن الشاذلى وأبو العباس المرسى . وقد عرضنا لهذا بالتفصيل فى كتابنا ( السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة ) وهو منشور هنا . بإختصار حاول الشيعة فى أواخر الحكم الأيوبى إرجاع الحكم الفاطمى الشيعى ففشلوا، وعادت خلاياهم السرية للنوم تنتظر الفرصة المناسبة.   

2 ـ ودخلت الدولة المملوكية فى دور الضعف الداخلى بسبب فساد جندها من المماليك الجلب واستيلاء الأوقاف على معظم الأراضى الزراعية واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح وتحول التجارة العالمية اليه بدلا من البحر الأحمر . فى هذا الوقت أسّس شيعة ايران بالتصوف الشيعى الدولة الصفوية التى أخذت تتوسع غربا لتواجه قوتين سنيّتين:الدولة العثمانية فى شبابها والدولة المملوكية الهرمة المترهّلة .  وتجاورت أملاك الدول الثلاث ، وانتهى الصراع بينها بسقوط الدولة المملوكية وتحول مصر والشام والحجاز لولايات عثمانية. كان المفروض أن تتحالف الدولتان السنيتان (العثمانية والمملوكية ) ضد إسماعيل الصفوي الذى أنشأ شبكة من دعاته (القزل باش) لإقامة حكم شيعى على حساب المماليك والعثمانيين معا . ولكن تمكن إسماعيل الصفوى من الوقيعة بين الغورى وسليم العثمانى، فاجتذب السلطان الغورى إلى صفه وجعله يحارب العثمانيين على غير استعداد تام منه لحربهم وعلى غير نية حقيقية من العثمانيين لتدمير الدولة المملوكية. 

3 ـ دولة إسماعيل الصفوى قامت وتوسّعت وانتصرت ثم انهزمت واندثرت من خلال جماعة القزل باش ، هم الذين قاموا برعاية اسماعيل الصفوى فى طفولته ومحنته وهم الذين أسسوا له دولته ، وكانوا جند اسماعيل الصفوى وقادة دولته من الدعاة والسياسيين  الذين أقاموا شبكة من العملاء انتشرت من مصر الى العراق والشام وآسيا الصغرى لتعيد المجد الفارسى باسم التشيع . تسلل الشيعة القزل باش لمصر، وجعلوا جامع الأزهر قبلتهم ، وبهم عقد الغورى تحالفا سريا مع الشاه اسماعيل الصفوى ، وسار الغورى بجيش ليؤازر حليفه الصفوى فى حربه ضد السلطان سليم العثمانى فهزمه سليم العثمانى واستولى على الشام ومصر .

4 ـ أى فى القرن السابع الهجرى ونهاية الدولة الأيوبية وبداية الدولة المملوكية فشلت خطة الشيعة فى استغلال التصوف الشيعى فى إقامة دولة شيعية فى مصر فى حركة البدوى السرية ، و فى القرن العاشر الهجرى أيضا فشل الشيعة القزلباش فى نهاية الدولة المملوكية فى إقامة ملكهم الشيعى باستغلال الأزهر فسقطت مصر ولاية عثمانية . وكما أسفر فشل حركة البدوى عن تأسيس التقديس للبدوى ورفاقه كأشهر الأولياء الصوفية فإنّ فشل شيعة القزل باش فى إستعادة الخلافة الفاطمية أدى الى تقديس(الأزهر) الذى كان مركزا لهم ، جلبوا له الكثير من الأوقاف فانتعش من العصر العثمانى بينما اندثرت المؤسسات الدينية المشهورة الأخرى التى أقامها السلاطين والأمراء المماليك.

ونعطى فى هذا المقال البحثى لمحة عن دور القزل باش فى سقوط الدولة المملوكية، لأنها الجذور التى برز منها دور الأزهر بعد طول خمول .

أولا :العلاقات السيئة بين المماليك والعثمانيين :

1 ـ السبب الأول هو تجاور أملاكهما فى آسيا الصغرى، وبينما كانت تلك الولايات بعيدة عن مركز الدولة المملوكية فقد كانت المجال الحيوى للعثمانيين ، فتنازع محمد الفاتح والظاهر خشقدم حول إمارتي زى الغادر وفرغان ، وتنازع قايتباي وبايزيد الثاني بسبب على دولات. وكانت الدولة الدلغاردية واقعة في الركن الجنوبي الشرقي من الأناضول ،وتابعة للدولة المملوكية. وقد أغتيل حاكمها  الأميرسليمان بتدبير السلطان المملوكى خشقدم ، فثار إبنه الأمير شاه سوار على الدولة المملوكية ، وأيدته الدولة العثمانية . وطالت الحرب بين سوار والمماليك فى عصر قايتباى ، وقد عرضنا لذلك فى كتابنا عن المجتمع المصرى فى عصر قايتباى .وأرسل قايتباى حملته الثالثة فهزمت شاه سوار ، وجىء به للقاهرة حيث تم قتله صلبا مع كبار أتباعه  في ربيع الأول  877 .

2 ـ واستغل المماليك نزاع البيت العثمانى فآوى السلطان برسباي أميرا عثمانيا  واحتفظ به ورقة رابحة ضد عمه مراد العثماني. وبعد موت السلطان  محمد الفاتح تنازع ابناه " جم  وبايزيد على العرش. ولكن الغلبة كانت من نصيب بايزيد، ففر (جم ) إلى مصر حيث احتمى بسلطان قايتباى

 ثانيا ـ العلاقات السيئة بين الدولتين الصفوية والعثمانية :

1 ـ في عهد بايزيد العثمانى ظهرت الدولة الصفوية بزعامة الشاه اسماعيل بن حيدر. ورث الشيخ الصوفى ( حيدر ) عن أجداده طريقة صوفية قوية فخلطها بالتشيع فتكاثر أتباعه وانغمس فى السياسة وصراعاتها ، وأسس جماعة القزل باش، وأنجب اسماعيل ( الصوفى الصفوى )عام 892 ، وأدت الصراعات السياسية الى مقتل حيدر، فقام القزلباش بتهريب وحماية الطفل اسماعيل الى أن أقاموا له ملكه عام 905 . وفي أوائل عام 907 إحتلّ الشاهإسمعيل تبريز بدون مقاومة ، وأعلن  نفسه ملكاً لايران .وأقام القزل باش فى تبريز مذابح للسنيين وفقهائهم . وأمروا أن تكون الخطبة باسم الأئمةالإثني عشر الشيعة ، وأدخلوا في الأذان عبارة: أشهد أن علياً ولي الله ! . وكانوا يلازمون المساجد لمراقبة الخطباء فإذا شكّوا فى أحدهم قتلوه فى المسجد. وفي سنة908، فتح اسمعيل غربإيران، و فتح بغداد في خريفعام 914 .

2 ـ بعدها انتشرت خلايا القزلباش داخل الدولة العثمانية في الأناضول ، فأقاموا ثورة مسلحة قادها داعي دعاة الشاه الشيعي ( الشاه قول ) ضد العثمانيين، وهزم الصدر الأعظم العثمانى وقتله. بل وصل تأثير القزل باش الى البيت العثمانى نفسه ، فانضم لهم الأمير قرقد ابن السلطان بايزيد الثاني الطامع في عرش أبيه والأميران شاهنشاه ومراد ابنا الأمير احمد أخي السلطان سليم . أثار هذا الأمير سليم على أبيه بايزيد   ، وتمكن سليم من إجبار والده التنازل له عن الحكم عام  918 . وبدأ سليم حكمه بإبادة 40 ألفا  من القزل باش المعروفين فى الأناضول، ونقل الشيعة الآخرين الى أوربا العثمانية ليضمن مؤخرته في أي صراع مع الشاه. وفى معركة جالديران عام 920 انتصر سليم ، وهرب الشاه تاركا زوجته اسيرة لدى السلطان سليم .

ثالثا : علاقات الغورى والشاه اسماعيل الصفوى والعثمانيين  :

1 ـ رصدها المؤرخ ابن إياس ، وهو يطلق على الشاه اسماعيل الصفوى لقب ( الصوفى ) نسبة لطريقته الصوفية الشيعية . فقد تحرك الشاه عسكريا ضد الممتلكات المملوكية المجاورة له فى عامى 908  و 913، مما أسهم فى إذابة الجليد فى العلاقات بين المماليك والعثمانيين . وتمكن على دولات التابع للماليك من هزيمة جيش للشاه اسماعيل الصفوى، وارسل للغورى عدة رءوس من القتلى وأسيرا من الأمراء القزلباش يرتدى الزى الرسمى لهم وهو الطرطور الأحمر. وخاف الشاه اسماعيل من عقد تحالف بين الغورى والعثمانيين فأرسل وفدا يصلح العلاقات مع الغورى. ولكن ظهر للغورى نفاق الشاه اسماعيل   ، فقد ثار الشيعة فى الصعيد عام 911 ، بتأثير القزل باش ، وسعى اسماعيل الصفوى الى عقد تحالف مع بعض ملوك الافرنجة ضد المماليك ، وقبض والى الحجاز على ثلاثة من الجواسيس القزل باش. يقول ابن اياس:( قبض على جماعة من عند إسماعيل الصوفي ( الصفوى ) ومعهم ـ مكاتبات منه إلى بعض ملوك الفرنج بأن يكونوا معه عون على ـ سلطان مصر وأنهم يأتون مصر من البحر ويأتي هو من البر ).. ومما يذكر أن الفرنجة قد استولوا في هذا الشهر على طرابلس الغرب ( وقد قبض شريف مكة على ثلاثة منهم متنكرين ). وفى تلك الأثناء كان عسكر الشاه الصفوي يهاجم أطراف البيرة التابعة للمماليك ، وخرج جيش من البيرة لقتال اسماعيل الصفوى ، وكانت المفاجأة أن معظم الجيش كان من عملاء القزل باش ، فانضموا عند القتال للشاه ،وقتلوا القائد المملوكى ( أزبك خان )، وأرسل الشاه الى الغورى برأس أزبك خان مع أبيات من الشعر يفخر فيها بقوته وتشيعه وجنده، بما يؤكّد قوة أتباعه القزلباش ووصولهم الى أبعد ما يتخيله الغورى . فى نفس الوقت تسلل القزل باش الى قبائل الأعراب فى مصر، فثاروا علي الغوري أو كما يقول ابن إياس ( تحالفت سبع طوائف من العربان بأن يكونوا يدا واحدة على العصيان ). وخاف الغوري من أشباح القزل باش ، وقوى الشّك عنده فى تحركات الأشراف الشيعة المشاهير خشية ان يكون من بينهم من يوالى القزل باش ، فاخرج عنهم ( شيئا من الجهات الموقوفة عليهم )( وعقد مجلسا بالقضاة الأربعة للبحث فيمن اتهم بادعاء النسب الشريف ) منهم مخافة أن يكون بينهم من ادعى  النسب وهو جاسوس للشاه . وأرسل الشاه رسالة غاضبة للغورى فيها عبارات (يابسة ) كما يقول ابن اياس ، ورد الغوري بمثلها فى رسالة حملها رسول الغورى ، وهو الأمير المملوكى تمرباى . وقد أساء الشاه اسماعيل معاملة رسول الغورى ، أو على حدّ قول ابن إياس ( أفحش الصوفي في حق تمرباي قاصد الغوري ) . وأدت النتيجة الى هلع الغورى من الشاه ، مما جعله يرد بأن أوكب المواكب لمقابلة سفير الشاه ، أو ( وكان غليظا شديد البأس ).  وفى نفس الوقت حرص الغورى على التقرب للعثمانيين ،     بل أن الغوري توسط للصلح بين الأمير( قرقد ) الذي جاء لمصر مغاضبا لأبيه السلطان بايزيد وبالغ في إكرامه واستجاب لشفاعته في بعض الأمراء ثم عاد الأمير العثماني لبلاده شاكرا ، وتحسنت العلاقات المملوكية العثمانية ، فبعث الغوري الأموال ليشترى الأخشاب والبارود والحديد من الدولة العثمانية فرد السلطان العثماني المال وبعث بمراكب محملة بها، ووصل من لدنه قاصد يمتدح فيها الغوري ويستفسر عن وصول المراكب، وبعد ذلك بعام أرسل الغوري قاصدا لشراء مهمات أخرى فأكرمه ابن عثمان ـ وكان السلطان سليم قد تولى ، فأرسلها في مراكب موسوقة.

وبدت بوادر التحالف بين الغوري وبايزيد الثاني لمواجهة الشاه إسماعيل والقزل باش ، ويقول بايزيد في رسالة للغوري ( ... وأما قصة غلبة الفرقة الضالة القزلباشية في البلاد الشرقية فإنها بلية عامة ظهرت في تلك النواحي فدفعهم لازم بل واجب على الأداني والأقاصي ، فالمقصود من دفعهم واستيصالهم بعناية الملك العلام الموافقة والاهتمام لأنهم أهل البدع والضلالة وأصحاب الشر والشقاوة، كلهم روافض ..). وأدرك الغورى أيضا خطورة القزل باش فكتب رسالة للسلطان بايزيد الثاني رسالة يحث فيها على محاربة القزلباش وعرض عليه المساعدة وقال بوجوب محو ( فئة الصوفية والملاحدة القزلباش ) .  

رابعا : ـ الدور السّرى للقزل باش فى تحالف الغوري مع الشاه اسماعيل الصفوي  

1ـ اخفق الشاه إسماعيل في سياسته ضد الغوري ولم يجن منها إلا مزيد التقارب بين الغوري والعثمانيين . ويبدو أنه شعر بخطورة السلطان سليم بعد والده المسالم . وشعر باقتراب اللحظة الحاسمة للصراع بينه وبين السلطان الجديد المتحمس للقضاء على الخطر الشيعي  فبذل وسعه في إزالة الخلاف بينه وبين الغوري، وعقد أواصر التآلف بينهما في جو من السرية التي أتقنها دعاة الشيعة القزل باش . وتوصل احدهم إلى أن يكون نديم الغوري ، فقد قام الشريف العجمي الشنقجي بدور هام في التحالف السري بين الغوري وإسماعيل الصفوي يقول ابن إياس ( حضر إلى الأبواب الشريفة العجمي الشنقجي نديم السلطان الذي كان توجه بأفيال إلى نائب الشام ونائب حلب ( للاستعانة بها في حرب العثمانيين ). وقد أبطأ مدة طويلة حتى أشاعوا موته غير ما مرة، فظهر أن السلطان ( الغورى ) كان أرسله إلى شاه إسماعيل الصوفي في الخفية، في خبر سرّ للسلطان بينه وبين الصوفي كما أشيع بين الناس ذلك .. فلما كان يوم السبت خامس عشر ربيع الآخر خرج السلطان ... قاصد نحو البلاد الشامية والحلبية )، أى خرج الغورى بجيشه ولم يرجع ، إذ حدثت موقعة مرج دابق . خرج الغورى تنفيذا لذلك الاتفاق السري بين الغوري وإسماعيل الصفوي الذى عقده الشيخ القزلباشى، والذي لم تذكر المصادر شيئا عن بنوده. والمؤرخ الغزّى كان معاصرا مثل ابن اياس لهذه الأحداث ، وهو يقرر ما قاله ابن إياس ، يقول الغزى فى تاريخه ( الكوكاكب السائرة فى تاريخ المائة العاشرة ): ( قبل معركة مرج دابق قرّب الغوري إليه أعجميا كان ينسج المودة في الباطن بينه وبين  شاه إسماعيل حتى أخرجه من مصر لقتال سليم بحجة الإصلاح بينه وبين الصوفي ).وهكذا استطاع ذلك الرسول السري الصوفي الشيعي القزل باشى التأثير على الغوري وأن يخرجه من مأمنه إلى مقتله. وبوسائل لا نعرف عنها شيئا ..

2ـ  بعد إنتصاره على الشاه اسماعيل فى جالديران عام 920 إضطر سليم لمواجهة جيش الغورى ، وهزمه وقتله فى مرج دابق ، وبتشجيع أمراء المماليك الخونة تشجع فى الزحف نحو الشام فتساقطت أمامه دولة المماليك من الشام الى القاهرة ، وهزم السلطان الجديد طومان باى فى معركة الريدانية ، وتحولت مصر الى ولاية عثمانية .

3 ـ لم يكن سليم يطمع في الاستيلاء على الشام ومصر. كان السلطان سليم متخوفا من توغله في الشام ومصر، وحين أصيب ببعض الخسائر صاح في  خايربك ( أنت أغررتني وطمعتني في أخذ هذا الإقليم فأنظر كيف وحين تصنع وتدبر نفسك كيف تتصرف وإلا فهيا براسك ) . وحين أسر طومان باى قال له سليم : والله ما كان قصدي أذيتك ونويت الرجوع من حلب ولو أطعتني من الأول وجعلت السكة والخطبة بأسمى ما جيت لك و لا دُست أرضك ) . لم تكن لسليم أطماع حتى في ممتلكات غريمه إسماعيل الصفوي الذي كان لا يكف عن الاعتداء عليه في عقر داره، والذي كان ظهوره قلبا في استراتيجية الدولة العثمانية السنية المتجهة في فتوحها نحو أوربا المسيحية. وقد صرح سليم في رسالته  للغوري في محرم 922 بأن غرضه هو تأديب القزلباش ( كان لمجرد إظهار النواميس الإلهية والشرائع النبوية .. ولم يخطر ببالنا الشريف حقيقة طمع في المملكة أو استيلاء على الديار واكتفينا بتفريق شملهم وكسر أنوفهم ... ويعلم الله وكفى به شهيد أنه لم يخطر على البال قط طمع في أحد من سلاطين المسلمين أو في مملكته أو رغبة في إلحاق الضرر به لم يحدث ذلك لأن الشرع الشريف ينهى عنه! ) .وإذا كان هذا هو الحال مع الشاه الصفوي فكيف يطمع سليم في حين سابق ـ في الدولة المملوكية ؟. وقد بعث سليم يستميل طومان باى ويطلب طاعته ، وكرر هذه الدعوة بعد هزيمة طومان وفراره للصعيد ، وقد رضي طومان بأن يحكم باسم العثمانيين ولكن قتل بعض المماليك رسل العثمانيين ففشلت الوساطة . المستفاد من ذلك أن القزل باش هم سبب سقوط الدولة المملوكية ، وتحول مصر الى ولاية عثمانية .

خامسا : دسائس القزلباش بعد سقوط الدولة المملوكية

 فوجيء اسماعيل الصفوى بالانهيار السريع للدولة المملوكية غنيمة سهلة أمام خصمه اللدود سليم الأول . وهذا الأتساع الجديد للدولة العثمانية ـ علاوة على ما فيه من مكاسب لسليم ـ فقد سد الطريق أمام إسماعيل الصوفي للتوسع غربا ولم يعد أمامه إلا تكثيف جهود القزلباش للكيد للعثمانيين، فنشطت خلاياهم تلاحق العثمانيين وتؤرقهم بعد سقوط الدولة المملوكية . ونعطى ما توفّر لنا من أمثلة :

1 ـ فى حياة الغورى استولى السلطان سليم على إمارة دلغادر عام 921 التى كانت تابعة للدولة المملوكية، وجعل على بن شاه سوار حاكما عليها باسم العثمانيين مما أغضب السلطان الغورى لأن الوالى الجديد هو ابن شاه سوار الذى حارب السلطان قايتباى . وكان قايتباى قد أمر بصلب شاه سوار على باب زويلة.  وكان على بن سوار هذا حريصا على الثأر لأبيه شاه سوار. وبعد أسر طومان باى كان الذى تولى صلبه على باب زويله هو ذلك الأمير على بن شاه سوار. الغريب هنا أن ينجح القزل باش فى استمالة على بن شاه سوار ، وتشجيعه على الثورة ضد سليم العثمانى ، وانكشفت المؤامرة فأمر سليم باعدام علي بن شاه سوار مصرعه سنة 928 .  

2 ـ  وقام القزل باش فى دمشق بإثارة الشيعة فقاموا بمظاهرات يندبون الحسين ، توطئة لتحويل المظاهرات من شيعية عادية الى ثورة سياسية ، ولكن سارع العثمانيون بإخمادها .

3 ـ وأعتقل العثمانيون جاسوسا بدمشق من القزلباش أقر بأن الصفوى عزم على التوجه إلى آمد .

4 ـ ووصل جواسيس القزلباش الى الأمير العربى ابن حنش الشيعي المقيم في صيدا والمعروف بشدته ، وكان الأمير المملوكى جان  بردى الغزالي بعد هزيمة الغورى قد قام بتسليم دمشق لابن حنش ، ليصد عنها جيش العثمانيين ، بينما تابع هذا الأمير المملوكى سيره مع الأمراء إلى مصر . وقبل ابن حنش تحمل المسؤولية ولا سيما وقد وعده السلطان المملوكى فى القاهرة طومان باى بتوليته على الشام إذا نجح في ذلك ، بل وعينه واليا على حمص. إلا أن الأهالي اتفقوا على التسليم للعثمانيين ، فرضخ ابن حنش للأمر الواقع وأعلن تبعيته للعثمانيين . ولكنه كان يعدّ العدة للثورة على العثمانيين متحالفا مع القزلباش ، وإنكشف أمره للسلطان سليم العثمانى الذى كان قمة فى الحذر من الشيعة خصوصا المشاهير منهم ، فبادر بالأمر بعزل ابن حنش واعتقاله . وفى تاريخ ابن طولون المعاصر للفتح العثمانى لمصر والشام نشم رائحة علاقات خفية بين ابن حنش وأتباع الشاه إسماعيل الصفوى ( القزل باش ) والمماليك المهزومين الذين اختبأوا عنده . وقبل القبض عليه بادر ابن حنش بالثورة على العثمانيين .

5 ـ وأفلح القزلباش فى أن يضموا أمراء آخرين ثاروا مع ابن حنش ، منهم ابن حرفوش في سهل البقاع وابن فخر الدين المعنى الدرزي. واستفحل أمر الثورة بعد مغادرة سليم دمشق إلى حلب وانتهت الثورة بمقتل وهزيمة ابن حنش وابن حرفوش  ، وكان سليم لا يزال في حلب.

6 ـ ووصل القزلباش الى التأثير على الأمير جان بردى الغزالى الذى انضم الى العثمانيين وخان رفاقه المماليك ، بل كان جان بردى الغزالى هو الذى تولى هزيمة صديقه ابن حنش لصالح سيده السلطان سليم . ولكن استطاع القزلباش التأثير على جان بردى الغزالى نفسه وأقنعوه بالثورة على العثمانيين ، وكان القزلباش قد أخبروا جان بردى الغزالى بأن سيدهم الشاه اسماعيل الصفوى سيرسل له 12 ألف جندى لمساعدته ، وعلم بذلك السلطان سليم فاحتاطوا مقدما ، فكان مصير جان بردى الغزالى الفشل. 

7 ـ أكثر من هذا ..كان ظهير الدين الأردبيلي (أحد مشاهير العلماء السنيين فى تبريز) عميلا سريا للقزلباش ، اى كان شيعيا من القزل باش تنكر وسط المحيط السّنى فى تبريز واشتهر بينهم الى درجة أن السلطان سليم العثمانى إعتقد فى إخلاصه للسّنة ، فاصطحبه سليم وأخذه معه إلى عاصمته العثمانية ، وعيّن له كل يوم ثمانين درهما . ثم أرسله السلطان سليم مرشدا ومعلما للوالى العثمانى على مصر ، وكان أحمد باشا مملوك سليم ، وخادمه الأمين المخلص . وبوصول ظهير الدين الأردبيلى الى القاهرة فقد نجح فى إستمالة الوالى العثمانى وجعله ينقلب على سيده السلطان سليم ويثور ليحوّل مصر إلى الدولة الشيعية ، ولكن أسرع الجيش العثمانى فى مصر بقتال وقتل الوالى العثمانى الثائر ، وأفشل ثورته.

الى هذه الدرجة بلغت مهارة القزل باش . فكيف بهم فى الأزهر قبيل وبعد سقوط الدولة المملوكية ؟ كل ما سبق هى الجذور الذى نفهم منها التطور الذى جعل الأزهر مكانة مقدسة بعد طول خمول .

سادسا : ـ القزل باش والأزهر والأوقاف قبل وبعد سقوط الدولة المملوكية

1 ـ كان توافد الصوفية ( الأعاجم ) لمصر شيئا مألوفا ، واشتهروا بإعلان الإلحاد الصوفى فى الحلول والاتحاد والانحلال الخلقى . ولم تكن المؤسسات الصوفية المنشأة بالوقف الأهلى ترحب بهم ، لحرص صاحبها وواقفها على التدقيق فيمن يتم توظيفهم فى مؤسساتهم من مدرسين وصوفية . ولأن أولئك الأعاجم الوافدين كانوا سيئى السّمعة فقد نجح بعضهم فى الالتحاق ببعض المؤسسات الخاملة والتى تتعيش من الوقف الخيرى كالأزهر . وسبق الحديث عن محنة الأزهر عام 810 حيث يقول المقريزى فى الخطط وفى ( السلوك ) : ( وبلغت عدتهم في هذه الأيام سبعمائةوخمسين رجلًا ما بين عجم وزيالعة ومن أهل ريف مصر ومغاربه، ولكل طائفة رواق يعرف بهم ). أى كان ( العجم ) من أوائل من ذكرهم المقريزى ضمن القاطنين بالأزهر ، وقد قام الأمير سودون حاجب الحجاب بالهجوم على الجامع الأزهر والقبض على من ضبطهم متلبسين بالفضائح الخلقية .

2 ـ إختلفت نوعيات القادمين للإقامة فى الأزهر بعد عصر المقريزى ومع ظهور القزلباش، وفدت نوعيات محترمة من الأعاجم شجعت أصحاب الأوقاف الخيرية على العناية بهم وبذل الأوقاف لهم ، بل وتجديد الجامع الأزهر ، فقام السلطان قايتباي عام 873 بهدم الباب الواقع في الجهة الشمالية الغربية للجامع، وشيده من جديد،وأقام على يمينه مئذنة رشيقة ، وأكمل ما زاده في بناء المسجد قبيل وفاته. وبنى الغورى المئذنة ذات البرجين . وأقام الأمير يشبك مأدبة حافلة للطلبة الأزهر في يوم الاثنين 3 ربيع الثاني 877، قبل سفره للشام على أمل أن ينتصر على شاه سوار.  

3 ـ لم يعد معظم ( مجاورو الأزهر ) من شذّاذ الآفاق والهاربين من هنا وهناك بل طلبة علم تقاة من الأعاجم تميزوا بطربوش أحمر مستدير تتدلى منه (زرّ) بلون مختلف أسود أو أزرق أو أخضر ، وتغطيه عمامة صغيرة بيضاء ، وانتشرت هذه الموضة بين رواقات الأزهر وطلبة العلم فيه . لم يعرف الغورى أنه زى مشتق من عمامة أو طربوش القزلباش الأحمر . ولم يعرف الغورى أن عملاء القزلباش هم أصحاب هذا التحول الخطير فى فى نوعية القادمين من الصوفية للأزهر. ربما كان يعرف هذا أعيان الشيعة المصريين أمهر الناس فى التخفى والتقية .

4 ـ وبعد سقوط الدولة المملوكية تولى هؤلاء القزلباش فى مقرهم السرى بأروقة الأزهر مهمة العمل على أقامة الدولة الشيعية فى مصر . ولكن فشلوا كما فشل السيد البدوى من قبل ، ليس فقط ليقظة الدولة العثمانية وهى فى عنفوان قوتها ، ولكن أيضا لأن إلاه القزلباش الذى كانوا يسجدون له وهو الشاه اسماعيل الصوفى الصفوى مات فجأة عام 930 بعد عمر قصير لم يتجاوز ثمانية وثلاثين عاما .

5 ـ بفشل الحركة سياسيا أدّت الظروف الجديدة فى مصر العثمانية الى إندثار المؤسسات الضخمة وأوقافها التى كانت لها الشهرة فى العصر المملوكى ، والتى قامت بالوقف الأهلى . قلنا إن الوقف الأهلى إزدهر فى الدولة المملوكية لحماية ثروات المماليك من المصادرة، وكان بعضهم يتحايل على ذلك بالاستبدال وغيره . أختلف الحال مع النظام الجديد الذى أرساه العثمانيون فى مصر . لم يعد هناك سلطان مملوكى متحكم،ولكن أبقى العثمانيون على المماليك كقوة محلية تدير القاهرة والأقاليم المصرية لصالحها، وجعلوا السلطة موزعة بينهم وبين الوالى والديوان لإضعاف الجميع وضمان تبعيتهم للعثمانيين .  كما أدخل العثمانيون نظام الالتزام، بقيام إحد الأغنياء بدفع مبالغ مالية مقدماً للدولة مقابل تحصيله للضرائب من المواطنين أضعافا مضاعفة . وتم تطبيق نظام الالتزام على الأرض الزراعية التى اعتبرها العثمانيون ملكا لهم بحق ( الفتح ).  وأدى نظام الالتزام الى مزيد من الخراب خصوصا فى أراضى الوقف الأهلى التى كانت من قبل تابعة للسلاطين المماليك فأصبحت مؤسساتها مجرد أطلال وآثار ، ولا تزال ، بينما إزدهر الأزهر وعلماؤه أصحاب الطربوش الأحمر والزر الملون ، لأن ما بقى من الأوقاف الخيرية توجّه نحو ( الأزهر ) فإكتسب قدسية بعد طول خمول .

أخيرا : مفاجأة :

1 ـ معنى القزلباش  أى "ذوو الرؤوس الحمر". والرأس الأحمر فى الطقوس القزلباشية كان يرمز للعضو الذكرى ، أى القضيب . وكان الطرطور الأحمر المنتصب هو الرمز للقضيب !!.

2 ـ تذكروا هذا كلما رأيتم شيخا من شيوخ الأزهر يتيه تقديسا بالزى الأزهرى ، وهو لايعرف أن ذلك الطربوش المقدس يعنى ( العضو الذكرى ، أو القضيب ) . تذكروا منظر الامام الأكبر شيخ الأزهر وهو يسير متفاخرا بالزى الأزهرى المقدس وفوق رأسه رمز القزلباش ،أى القضيب ..!! و..يحيا الجهل ..!!

3 ـ الموضوع القادم عن صلة هذا بالاخوان وايران وتركيا والسعودية والخليج .. 

اجمالي القراءات 14572