يصف البعض ما يحدث في مصر حالياً بالانقسام أو الاستقطاب الشديد بين دعاة الدولة المدنية والتيار الديني، ويعزو رموز التيار المدني ذلك إلى إخلال الإخوان بعهودهم التي قطعوها على أنفسهم في بداية ثورة 25 يناير برفعهم لشعار "مشاركة لا مغالبة"، فما حدث أن هؤلاء المتعشمين في "مشاركة" الإخوان في كعكة الحكم قد فوجئوا "بمغالبة" تتجاوز حتى حدود التفويض الشعبي الذي حصل عليه التيار الديني في الانتخابات التشريعية الملغاة، وتتجاوز بالطبع حدود التفويض الناجم عن نجاح رئيس الجمهورية الإخوانجي بنسبة تقل عن 52% من مجموع الأصوات الصحيحة، وليس من مجموع من لهم حق التصويت.
يبدو الأمر هكذا من توالي اعتذارات من سبق وأيدوا مرشح الإخوان الرئاسي وكأنه جاء مفاجأة، وكأنهم كانوا حقاً يتصورون أن الإخوان المسلمين أهل مشاركة، لمجرد أنهم رفعوا شعار المشاركة في مرحلة ما من الحراك المصري، وقد تبدو المسألة مجرد نكوث جماعة عن وعدها بمجرد وصولها لكراسي الحكم، بحيث يكون المطلوب الآن دفعها أو إجبارها على العودة لخط المشاركة الأولي، سواء اتخذ هذا الدفع المستهدف شكل الحوار السياسي، أو شكل الضغط عبر التظاهرات والاعتصامات الجماهيرية. . لكن الأمر في الحقيقة كما نراه مختلف عن هذا تماماً، فلا الحوار سيجدي مع جماعة الإخوان المسلمين وملحقاتها من تنظيمات سلفية وجهادية، ولا الضغط بالمظاهرات سيؤدي إلى التزام هذه القوى بقواعد اللعبة السياسية المعروفة في العالم أجمع.
نقول هذا ليس من منطلق نظرة تشاؤمية، ولا من منطلق عدم الرغبة في التوافق والحوار مع الآخر، بما يحرضنا على تبني دفوع استباقية ننسب فيها ميولنا الاستئصالية للآخر، بل نقوله بناء على نظرة موضوعية لطبيعة ما بداخل صندوق مغلق مكتوب عليه من الخارج تصنيف "تيار وطني مصري"، نقول بناء على نظرة موضوعية لما بداخل الصندوق لأن الكثيرين يتصورون أن الحيادية والموضوعية تقتضي التعامل مع صناديق مغلقة وفق المكتوب عليها من الخارج، وأن فتح تلك الصناديق وفحص ما بها هو "كيل بمكيالين" أو "بأكثر من مكيال"، وكأننا لنكون موضوعيين وليبراليين علينا أن نصادق على المثل المصري الذي يقول "كله عند العرب صابون"، وأن نجهل أو نتجاهل عمداً الفرق بين "الحمرة" و"الجمرة"!!
من ينتهجون هذا النهج في عدم التفرقة بين "الحمرة والجمرة" يفترضون أن جماعة الإخوان المسلمين التي ظلت جماعة "محظورة" طوال تاريخها الذي امتد حتى الآن لثمانية عقود، وتعرضت كوادرها لما واجهته من سجون ونفي ومطاردة، كان بسبب سيطرة نظم ديكتاتورية تخنق الشعوب وتعصف بها، وليس بسبب طبيعة هذه الجماعة وأيديولوجيتها بالغة الخطورة على الحياة المدنية وعلى سلامة المجتمع وتقدمه. . من الطبيعي أيضاً هكذا لمن يمد هذا الخط الفكري أو التقييمي على استقامته أن يعتبر الحرب العالمية على الإرهاب هي من قبيل العداء لما نسميه العالم الإسلامي، أو من قبيل محاولة السيطرة على شعوب الشرق وقهرها والحيلولة دون تقدمها، تحقيقاً لمصالح الدول الكبرى في السيطرة على مقدرات الشعوب وتسخيرها لتحقيق مصالح ما قد نسميه الإمبريالية العالمية أو الصهيونية أو إجمالاً قوى الشر العالمي!!
علينا إذن إن أردنا التحلي بالموضوعية التي تكفل لنا رؤية الوضع المصري على حقيقته أن نفتح ذلك الصندوق المغلق الذي لصقت عليه من الخارج عبارة "تيار وطني مصري"، لنفحص أيديولوجية ذلك التيار وطبيعتها وأهدافها، ونقصد بالعبارة الملصقة من "خارج الصندوق" كل ما كانت (أو مازالت) تطلقه رموز الجماعة من عبارات براقة دعائية عن المشاركة والتسامح والوطنية والنهضة وما شابه، وكلها يدخل عندهم في باب "التقية" أو الإيهام في القول" أي "الكذب الحلال"، فهذه النوعية من التصريحات يعدها بعض السذج أو الحمقى تطوراً في فكر الجماعة علينا أن نثمنه ونشجعهم عليه، والحقيقة أن هذه الرؤية ليست أكثر من انخداع أو خداع للنفس، فإن كان لدينا زجاجة بها سم زعاف، فإن التغيير لا يكون بكتابة "فيتامينات" عليها من الخارج، كما لا يكون التغيير بإطلاق تصريحات تمتدح ما بداخل الزجاجة مؤكدة انتفاء أي تأثيرات ضارة عند تجرع محتوياتها، وإنما التغيير الحقيقي يكون بتغيير تركيب المادة بداخل الزجاجة، هذا بالطبع إن كانت تلك المحتويات قابلة للتغيير، وإن كان من الممكن تحويل السم الزعاف إلى شراب مفيد. . نقصد إن كان من الممكن أن تتخلى الجماعة عن استهداف حياة الإنسان الشخصية لقولبته في قالب مصمت وفق الرؤية الإخوانية الماضوية، وعن الخلط بين الدين والسياسة، وعن فكرة الخلافة الإسلامية العابرة والمحطمة للحدود والخصوصيات الوطنية لصالح الإيمان بالوطن وبحقوق المواطنة المفارقة تماماً للانتماء الديني، والتخللي عن فكرة الحاكمية لله المناقضة جوهرياً لمفهوم الديموقراطية، وعدم الاكتفاء بقبول الديموقراطية كآلية تستخدم للوصول للسلطة، ثم نسلك بعد ذلك طريقاً ندعي أنه طريق إلهي يعد فيه المجتهد فكرياً أو المعارض كافراً محارباً لله ولرسوله، وأخيراً هل تتخللى الجماعة عن فكر "سيد قطب" التكفيري الذي أدى بصاحبه إلى الإعدام شنقاً؟!!
أليس ما عرضنا من تغييرات مستهدفة في صميم فكر الإخوان هي الحد الأدني الضروري لكي نستطيع اعتبار هذه الجماعة مجرد "تيار وطني مصري" تسري عليه ذات القواعد التي علينا أن نتعامل على أساسها مع سائر "التيارات الوطنية"؟. . إذا كانت الإجابة بنعم، هل يعد مطلبنا هذا منها منطقياً بأي مقياس، أم نكون في الحقيقة نطالب "جماعة الإخوان المسلمين" بأن تتخللى تماماً عن كينونتها وهويتها؟. . لنقل ذات السؤال بطريقة أخرى: إذا افترضنا قبول الإخوان المسلمين إجراء تغييرات حقيقية وعميقة في مرجعياتهم وأيديولوجيتهم ليكونوا قابلين للتوافق مع العصر ومع سائر التيارات الوطنية، هل يتبقى لهم عندها شيئ من فكرهم الذي اجتمعوا حوله وناضلوا من أجله طوال ثمانين عاماً؟
الحل أو الأمل الوحيد لمصر إذن هو براء الشعب المصري براء تاماً من فكر هذه الجماعات، ولقد كان الحظر القانوني والأمني لها طوال العقود الماضية هو التكتيك أو الاستراتيجية المتبعة، والذي استهدف الأشخاص وليس الأفكار، وهنا كان الخطأ الذي أدى للفشل الذريع لهذا المنهج، فكل هؤلاء الذين تم استهدافهم مصريون، والحل ليس استئصالهم كأشخاص، ولكن تجفيف المستنقعات التي أنتجتهم. . البراء من الفكر الذي ذهب بعقولهم وحولهم من بشر لآلات جهنمية مستعدة بل وتواقة لسفك أنهار من دماء مواطنيها وأهلها في سبيل تحقيق ما آمنت أنه الحقيقة المطلقة. . حتى محاولات التنوير أو الحوار أو دفع شيوخ وقادة تلك الجماعات إلى مراجعات إجبارية من خلف قضبان الزنازين لم تؤد لنتيجة حقيقية لمفارقة تلك الأيديولوجيات المسعورة، وها نحن نرى الآن ماذا يقول وكيف يتصرف هؤلاء المراجعين الكرام، وكيف يهددوننا ويكفروننا ويشهرون سيوفهم وخناجرهم ورصاصهم في وجوهنا وظهورنا!!
لا يتبقى أمامنا والوضع هكذا سوى خيار واحد مرير لا خيار آخر سواه، وهو أن يأخذ الظلاميون فرصتهم كاملة، ليفعلوا ما حلموا به وتاقوا له وانتظروه لعقود طويلة، أن يُخرجوا كل ما في جعبتهم وجرابهم، وأن يحرقوا البلاد بنيران رؤاهم المتخلفة المجنونة، فهذه النيران هي التي بدأت بالفعل في تحويل البلاد إلى بوتقة تنصهر فيها الثقافة والقيم والأفكار والثوابت المصرية، بأمل أن يتحملها الشعب المصري، وأن يطهره سعير حرارتها مما علق به طوال قرون طويلة من شوائب ورؤى متخلفة متكلسة رافضة للتحضر والتطور. . هي إذن نيران مقدسة علينا المحافظة عليها حتى تأتي على كل ما كان يجب أن يختفي من حياتنا منذ مائتي عام، يوم بدأ محمد علي باشا في تأسيس مصر الحديثة. . فلنتوقف إذن عن التفكير أو الحلم بقوى خارجية تنقذ الشعب المصري الآن من أتون الإخوان، سواء كانت قوى عالمية تتدخل لتسقط حكم الإخوان، أو كانت تدخل العسكرية المصرية، لتكرر قصة عبد الناصر مع الإخوان، فإطفاء النيران قبل اكتمال مفعولها التطهيري هو عودة لما كنا عليه، لنعيد انتاج ذاتنا في دائرة مغلقة. . لن تحرق هذه النيران الشعب المصري الخالد، وإنما ستحرق الأشواك والكائنات المشوهة التي أنتجتها التربة المصرية التي افتقدت زمناً طويلاً لنور الشمس والهواء الطلق.
kghobrial@yahoo.com
المصدر ايلاف