انتهت تقريباً المرحلة الأولى من الاستفتاء على الدستور المصري وأظهرت النتائج تصويت غالبية المصريين بنسبة 56%لصالح الدستور..ولكن على خلاف أكثر الرؤى المعارضة والتي يعلوها التشاؤم والصدمة..على خلاف هؤلاء جميعاً أشعر بالتفاؤل خاصة وأن هناك مرحلة أخرى سيجري فيها الحسم، علاوة على أن النتائج الرسمية من اللجنة العليا لم تظهر بعد..وهذه النتائج لن تظهر إلا بعد استيفاء كافة الطعون والتي من المرجح أن ترفع نسبة الرفض 2% على أقل تقدير..إذاً هي نسبة جيدة حازت عليها المعارضة وذلك لعدة لعدة أسباب سنشرحها بإيجاز:
1-التيار الإسلامي كان متفرغاً لحشد التصويت بنعم منذ انطلاق دعوة الرئيس للاستفتاء أي منذ أسبوعين..وهذا أعطاه قدرة على التواصل مع الناس أكثر لذلك ففرصته في التأثير كانت أكبر..بينما لم تتفرغ القوى المدنية والثورية للحشد إلا قبل الاستفتاء ب48 ساعة فقط..وهذه فترة قصيرة للغاية ولا تكفي لإعداد برنامج أو أي استراتيجيات للتوعية.
2-استخدم التيار الإسلامي الحشد الديني"كالعادة"وظهر ذلك جلياً في محافظات الصعيد والتي أصبح الإجماع عليها متحققاً بأن التصويت في تلك المحافظات -النائية عن الوعي المصري- يجري لأسباب طائفية واقتصادية بحتة، ناهيك عن دور الأمية المنتشرة فيها.. مما يجعل التصويت يجري على الهوية الأيدلوجية أو القِبلية العِصبية.
3-التصويت على الأشخاص في الانتخابات التشريعية والرئاسية يختلف عن التصويت للآراء في الاستفتاءات..فالتصويت على الشخص يكفيه الرفض الشخصي أو الانتماء الحزبي، أما التصويت للآراء فيتطلب المعرفة التامة بالرأي وبواعثه ونتائجه وهذا غير متحقق لدى غالبية الشعب المصري، فتقريباً أغلب من أعطى صوته سواء للدستور أو ضد الدستور أعطاه بناءاً عن هويتة أو اعتياده أو انتماءه الحزبي أو الديني...
4-لم يسبق للشعب المصري في تاريخه أن شارك بهذه الكثافة من قبل في أي استفتاءات تخص مستقبله السياسي، فقديماً لم تكن للاستفتاءات قيمة تُذكر.. أما الآن فقد حدثت نقلة نوعية للشعب المصري تمتثلت في هذا الحشد الكبير من الجمهور، فإذا كان التصويت في معظمه اليوم عن الهوية فالثابت أنه وفي الماضي لم يكن للمصري أن يستفتي عن أي درجة من درجات العلم مما يجعل الجهل بهذه المواد -المُستفتى عليها- يكون متحققاً بالإجماع فما بالكم وأن هذا دستوراً كاملاً قرأه من قرأه وأعرض عنه من أعرض.
5-القوى المدنية والثورية تحتفظ بكامل طاقتها الإبداعية والشبابية والتي وإن استخدمتها في المرحلة الثانية استخداماً حسناً فستقلب النتيجة رأساً على عقب.
6-أعتقد أن هناك تزويراً حدث على نطاق واسع خاصة في محافظتي الشرقية والاسكندرية ..والتزوير ليس المقصود منه تسويد بطاقات الرأي فحسب..بل تتعدد أشكاله وتتنوع مصادره..فمثلاً يكون غلق اللجان صاحبة الكثافة التصويتية بالرفض قبل الميعاد المُعلن من اللجنة العامة-عمداً أوجهلاً- يُعد نوعاً من تزوير إرادة الناخبين، وكذلك وجود حشد كبير من التيار الإسلامي داخل عمل اللجان وفي أماكن الفرز هو نوع من التزوير، وكذلك التدليس بنشر مزايا الدستور والتغاضي عن معائبه وطريقة صناعته والعكس غير صحيح، فمن المفترض أن الدستور يُقبل كله أو يُترك كله ، والمزايا بالعموم لا تضيع بل يجري التوافق على تعديل الأخطاء وأعتقد بأن شيئاً من هذا لم يحدث.
7-بعد استعراض أسماء المحافظات في المرحلة الثانية يتبين بأن محافظتي"المنيا والفيوم"سيكونان نقطة انطلاق لكسب معركة الدستور من جانب الإسلاميين، في المقابل تكون محافظتي"المنوفية والقليوبية"هي نقطة تُضاف إلى القوى المدنية والثورية..لذلك أعتقد بأن من سيربح 3 محافظات "محددة" هو الذي سيفوز في معركة الدستور..هذه المحافظات هي.."الجيزة والبحيرة وكفر الشيخ"..وأعتقد اعتقاداً شخصياً أن فرصة انتصار القوى المدنية في هذه المحافظات كبيرة جداً..خاصة مع العلم بأن محافظة الجيزة تمثل أكبر تجمع للقوى المدنية بعد القاهرة والاسكندرية..كذلك فكفر الشيخ تمثل معقلاً للحركة اليسارية وحزب الكرامة وأنصار أبو الفتوح.
أخيراً يتبقى لنا الإشارة إلى عددٍ من السلوكيات الواجب اتباعها في هذه المرحلة:
أولاً:ينبغي تقبل النتائج المُعلن عنها-أياً كانت-فما دامت المعارضة ارتضت لنفسها الدخول في لعبة الصناديق فعليها أن تُكمل مسيرتها في المرحلة الثانية ولكن بقوة أكثر وتنسيق أكبر...فكما أننا ندعو لأن نبتسم عند الهزيمة ونتواضع عند النصر فعلينا الآن أن نبتسم..وأنا شخصياً متفائل مهما كانت النتيجة..فمواد الدستور تضمن إلى حدٍ ما مدنية الدولة، أما الخلاف في ما يخص الأحوال الاقتصادية والحريات الدينية والاجتماعية فقد تتحصل عليه القوى المدنية والثورية بمزيد من النضال والكفاح والترابط في مواجهة قوى الجهل والتطرف.
ثانيا: من الآن ينبغي على القوى المدنية والثورية الإعداد الجيد للمرحلة الثانية فقد تحدث المفاجأة..ولتكن عبر مجموعات شبابية ونخبوية تُنظم حملات لطرق الأبواب والتوعية خاصة في محافظتي "المنيا والفيوم"وهما معقل التيار الإسلامي..فأي نسبة تزيد لرفض الدستور في هاتين المحافظتين ستكون لصالح الرفض في حساب النتيجة النهائية، ولا ينسى هؤلاء أن محافظة القاهرة كانت قد أعطت غالبية للتيار الإسلامي في "إعادة"للانتخابات الرئاسية...أما الآن فقد رفضت القاهرة الدستور بنسبة تفوق 57% في وجود هذا الكم الرهيب من التدليس والتزوير..وهذا له دلالات فالقاهرة تُعد أكثر محافظات الجمهورية في نسبة التعليم والوعي، لذلك فوجود حملات التوعية المنظمة يزيد من فرص الوعي حتى في معاقل الحركة الإسلامية ومناطق التصويت الديني.
ثالثا:ينبغي اتخاذ قراراً شُجاعاً بفض أي اعتصامات وتعليق أي مظاهرات الآن..فهذه المرحلة تتطلب كافة الجهود للتوعية الحقيقية وتحصيل ما عجزت القوى الثورية في تحقيقه في المرحلة الأولى لضيق الوقت..أمام هذه القوى الآن فترة أسبوع كامل..وهذه فترة كافية -إلى حدٍ ما-لًصناعة وعي حقيقي ولكن بخطاب أكثر اعتدالاً وهدوئا..فتتوقف الخطابات والشعارات الرنانة وليتفرغ المعارضون للعمل الجاد على الأرض..هذا لأن المواطن البسيط بحاجة لمُدخل للتعريف أو أبسط مما نتخيل..يكفي أن يعرف هذا المواطن بأن رفض الدستور يعني التوافق السياسي والتفرغ لبناء الوطن علاوة على تعديل كافة ما ورد به من أخطاء..أما الموافقة فتعني أزمات اقتصادية متلاحقة..هذا لأن إدارة فصيل واحد للبلاد في هذه الأزمات ستفشل حتماً دون توافق وتعاون، وهذا ما ينبغي إيصاله بشئٍ من الحِنكة.
رابعاً:نشر صور وأسماء وتصريحات وفتاوى من قالوا"لا للدستور" من شخصيات عامة أو مشهورة..ولتكن عبر منشورات يجري توزيعها في مقار العمل والمحيط الاجتماعي والسكني..وتكون مكتوبة بلغة سهلة الفهم مصحوبة بطرح مختصرات للمواد المرفوضة والإشارة إلى أرقامها دون التعرض لمتنها، فالمواطن المصري بسيط المعرفة.. وهو يمل من قراءة شئ لا يفهمه وتستفزه لغة من يريدون فرض شئ عليه لا يتقبله نفسياً..لذلك فمطلوب الهدوء مع الجميع، والتحلي بأخلاق الدين والدخول للناس من باب التوافق وليس من باب الخلاف.
خامساً:عدم التعرض للآخر في خطابه الدعائي وأقصد"التيار الإسلامي"وعدم إهانة رموزهم وخاصة مشايخ السلفية، فهؤلاء أشهر لديهم من قياداتهم الحِزبية..ولتكن الدعاية من باب" لهم رأيهم ولكنه خطأ وخطير على مصر"..أما نحن فنريد مصلحة الوطن على مبادئ التكافل ونشر الدين الصحيح.وتذكروا أن الإنسان بالعموم يتعاطف مع الضعيف ويحترم القوي ويكره المتغطرس ويخاف من الجبابرة.. فكونوا ضعفاء ليتعاطف معكم الشعب وكونوا أقوياء سيحترمونكم ويعملون على إرضائكم وكونوا متواضعين سيحبونكم وكونوا متسامحين سيأمنوكم على أنفسهم.
أخيراً فالوضع السياسي المصري أراه بدأ يتفتح على قوة شعبية ضخمة للتيار المدني وهذه كافية لردع أي محاولات لجر الدولة إلى الفاشية الدكتاتورية أو إصباغ الدولة بصِبغة دينية أو مذهبية..لذلك فيجب استثمار هذه القوة من الآن في توسيع قاعدة المشاركة السياسية للمواطنين، وينبغي أن لا ينضم الجُدد تحت مسميات شخصية أو حزبية بل على مبادئ عامة..وهذه نقطة هامة يفتقدها التيار الإسلامي بشكلٍ عام، إذ المتعاطفون أو المؤيدون للتيار الإسلامي لا يؤيدون إلا على الشخص أو الحزب أو السُمعة..وحينما يذهب أيٍ من هؤلاء فعليهم أن يشعروا بالخطر..كذلك فمعركة الدستور أنتجت لنا ضربة قاصمة للتيار المتأسلم والذي كان يعتقد بأن الشعب في غالبيته المُطلقة يؤيدهم وينزل لطاعتهم..فسيحذر بعد ذلك في أي خطوة يتخذها على الصعيدين القانوني والسلوكي، كذلك ينبغي من الآن التحضير للانتخابات التشريعية وبدء التنسيق لاحتواء المعارضة في أكبر تكتل عرفته مصر يمثل كافة القوى المدنية القوية.