البلطجة الدستورية

كمال غبريال في الأحد ٠٢ - ديسمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

حتى لو أخذوا السفينة المصرية ليحطموها على صخور جهالاتهم، فنحن قادرون حتماً على إعادة بنائها يوماً ما من جديد، فالحقيقة الناصعة الآن هي أن قطاعات معتبرة من الشعب المصري قد خرجت من سلبيتها وغيبوبتها، لتبدأ في تجميع خيوط أضواء الفجر القادم لا محالة، فالمصريون الذين شيد أجدادهم الصروح المعمارية الشامخة والباقية تتحدى الزمن قادرون على العبور بوطنهم سواد هذا الليل البهيم.
ليعلم القاصي والداني أن الإخوان المسلمين قد فَصَّلوا لنا دستوراً على مقاسهم وحدهم، دستور "غير دستوري" بأي مقياس وكل مقياس، دستور هو جريمة في حد ذاته. . هم مصممون إذن على ارتداء مصر السواد، ونحن إن ارتديناه رغماً عنا سنكون في حالة حداد حتى نستطيع خلعه والتطويح بعيداً بالسواد وبمن أرغموننا عليه!!. . الأمور واضحة هكذا، لا شرعية ولا دستورية، هو حكم بقوة البلطجة والاستجرام، وكل الاحترام والتقدير لقيادات الكنائس المصرية ولسائر مكونات المجتمع المصري التي رفضت المشاركة في مراسم جريمة دستور الإخوان، فالأخطر من المآخذ الموضوعية على مشروع الدستور الإخواني هو هذا العصف بالشرعية القانونية واحتقارها وتحريض الغوغاء عليها، مما يعني إمكانية أن نفاجأ في أي وقت بالعصف بهذا الدستور ذاته، مادمنا قد انتهجنا شرعية البلطجة، الخطير في الأمر أن ما يحكمنا الآن ليس نظاماً ديكتاتورياً كالذي عرفناه وعرفته أنحاء عديدة من العالم، فنحن في قبضة عصابة تتخذ من الجهل والتخلف الفكري بل وحتى العقلي منهجاً لها. . قامت ثورة 25 يناير بإسقاط النظام، ويقوم الإخوان والسلفيين الآن بإسقاط الدولة المصرية ذاتها. . هم الآن يفخخون الدولة ليفجروها، لتصبح مصر الوطن مجرد أشلاء، وهل هناك تفجير للدولة المصرية أكثر من تجمهر غوغاء الجماعات الدينية أمام المحكمة الدستورية واعتصامهم ليلة إصدار حكمها على دستورية مجلس الشورى وتأسيسية الدستور، مما اضطر قضاتها إلى تأجيل الحكم إلى أجل غير مسمى، هل هناك هدم للدولة أكثر من إرهاب القضاة وتعطيل القانون ووقف القضاء؟!! نحن إذن لسنا أمام مشروع دستور مطلوب منا قبوله أو رفضه عبر استفتاء شعبي، ولكن أمام مشروع لقيط، مر أثناء تشكله بمراحل غير دستورية، وبالتالي فالاستفتاء ذته مرفوض وغير شرعي، وليس فقط المحتوى الرديء للدستور ، وهذه نقطة جوهرية عند محاولة تقرير الموقف من عملية الاستفتاء، إن كان بالمشاركة رفضاً له أو المقاطعة أو العصيان المدني لمنع إجراء الاستفتاء أساساً.
المشوار أمام مصر للخروج من هذه الهاوية طويل ومرير، فقبل أن نحاول إسقاط تجار الدين عن الحكم يلزم أن نسقطهم من اعتبار بسطاء شعبنا، ونطهر عقولنا وقلوبنا من خداعهم وهلوساتهم، فليس ما نشهده الآن انقساماً قد حدث فجأة شطر الشعب المصري إلى فريقين متناحرين، فالانقسام أو الانشطار حدث منذ أتاح السادات للجماعات الدينية استباحة البلاد والعباد قبل أن يقوموا باغتياله، وما يجري الآن هو استفاقة مصرية تنتزع الأشواك من تربة وادي النيل الطيبة، لذا فقبل أن نهتف "يسقط مرسي والإخوان"، علينا بملء الوعي أن نقول لأنفسنا قبل أن تنطق حناجرنا "تسقط هيمنة تجار الدين" بمختلف العقائد والأديان، تسقط هيمنة أصحاب الفضيلة والقداسة، فما فعله الشباب المصري أخيراً في مسجد الشربتلي مع الخطيب في حضور مرسي، حين بدأ في نفاق الحاكم الجالس أمامه، هو وداع للانصياع والخنوع لتجار الدين، وهو الثورة الحقيقية على الواقع المتردي، والعقبى في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، حين يقلع الأقباط عن الجلوس كالقتلى أمام الكاهن وهو يغمرهم بمخدراته وغيبياته التي تحولهم إلى صفر وطني واجتماعي!!
الآن يفضح الإخوان أنفسهم بأنفسهم، فسوف يدللون إن كان من يحكمنا رجال دولة وسياسة أم عصابة، فرجال الدولة يعملون لصالح الجماهير ويرصدون نبضها ويسعون لتوافق سياساتهم معها، حتى لو استدعى ذلك في حالة فشلهم تقديم استقالاتهم والتخلي على السلطة، وهذا ما فعله الملك فاروق ومبارك، أما العصابة فكل ما يعنيها الإمساك بالسلطة، حتى لو لفظت الفريسة أنفاسها بين مخالبهم، وهذا بالتحديد هو ما ينتهجونه. هذه الآلاف التي استطاعوا حشدها فيما أطلقوا عليه مليونية "الشرعية والشريعة"، لتهتف للعبودية والتخلف والظلامية تثير التساؤل، هل نحن أول شعب يخرج للهتاف للعبودية أم سبقتنا إلى ذلك شعوب أخرى؟. . لكن رغم هذا، ورغم الكثير من الهتافات العدائية، لا ينبغي لنا أن نغفل عن آثار نهضة القوى الوطنية الظاهرة بوضوح على العديد من هذه التظاهرات الأخيرة للتيارات الدينية وإن كان ليس جميعها، فالأعلام المرفوعة في الأغلب مصرية، وتضاءلت نسبياً أعلام تنظيم القاعدة وصور بن لادن، والهتافات والشعارات المرفوعة كثير منها مقابلة ومماثلة لهتافات القوى الوطنية وبعضها هي نفس الشعارات، وبالتالي فالمظهر جزئياً ليس أفغانياً قندهارياً كما تعودنا، حتى لو كان المحتوى هو ذات المحتوى، والذي يطالب بالعودة بمصر إلى عصور الجاهلية. . هذا الحراك ولو الطفيف لدى أشد مكونات المجتمع المصري تخلفاً يبعث على المزيد من التفاؤل، فحتى لو كان هذا التطور تكتيكياً وسطحياً ولا ينطبق على سائر التجمعات والفعاليات، إلا أن مجرد انتباه هؤلاء إلى وجوب مراعاة ما بالشارع المصري من رؤى وتوجهات مقابلة هو في حد ذاته تطور إيجابي، يخفف من حدة الانغلاق والانكفاء على اجترار المقولات والأفكار السلفية العتيقة المفارقة للزمان والمكان. . الآلاف المساقة للتظاهر كالنعاج ليست جديدة بمصر، الجديد بالفعل هو مئات الآلاف من الأحرار الذين خرجوا للتصدي لحكم خريجي السجون.
ليس بكاء على اللبن المسكوب، وإنما لتبين موقعنا ومسيرتنا نتأمل ما كان، فالفشل في التقييم الموضوعي لما كنا عليه وما أصبحنا فيه كان من أهم عوامل تحول ثورة شعب إلى كارثة عليه وعلى أجياله العديدة القادمة. . كان دستور 1971 دستوراً حديثاً تشوبه بعض المآخذ، ويعطي رئيس الجمهورية سلطات أكثر مما يجب، وكان نظام الحكم أيضاً نظاماً حديثاً شابه الفساد، بالضرورة تأثراً بالفساد المنتشر في القاعدة الشعبية المصرية على مدى قرون، لكننا أتينا بنظام لا يستحق كلمة "نظام"، فقد دخلنا بأرجلنا أو تم دفعنا إلى عصر التخلف والبلطجة والاستجرام و"اللادولة"، بالتأكيد كان الفريق/ أحمد شفيق هو الرئيس الذي لا نستحقه، فعلى الأقل أحمد شفيق لو عارضناه لم يكن سيدعي أنه حامي الإسلام من أعدائه، ولم يكن يخرج أعوانه ليكفرونا ويتهموننا بالعداء للهورسوله مهدرين دمائنا!!. . أفهم أن يستحي المقاطعون والمصوتون منا لمرسي، وأن نستذوق نحن ولا نذلهم بجريمتهم، لكن أن يستمر البعض منهم في المكابرة والحديث الباعث على القيء عن الفلول فهذا فوق المحتمل. . اللعنة. .هل لدينا من الطرح السوداء والغوايش والحلقان والخلاخيل ما يكفي لمن قاطعوا ومن أبطلوا ومن انتخبوا مرسي؟!!
يجوز لي القول أن هذا الاستقواء والاستجرام من عصابات التخلف والارتزاق بالدين هو ذاته الذي سيعجل بنهايتهم التي يستحقونها، وهم ذاتهم من سيدفعون الشعب المصري دفعاً للاستيقاظ من السبات والغيبوبة والانخداع، ليبدأ الشعب رويداً رويداً في شق طريقه نحو العصر والحرية والحداثة.

kghobrial@yahoo.com
 عن ايلاف

 

 

اجمالي القراءات 7407