كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين
الباب الأول : منهج القرآن الكريم فى التأكيد على التقوى غاية ومقصدا لفريضة الحج :
الفصل الأول : التقوى الاسلامية فى فريضة الحج
التقوى هى جوهر الاسلام
على اساسها قامت شريعة الاسلام الحقيقية المذكورة فى القرآن والتى طبقها خاتم الأنبياء محمد عليهم جميعا السلام. تاريخ المسلمين بفتوحاته وغزواته وامبراطورياته وتشريعاته وتراثه يتناقض فى اغلبه مع جوهر الاسلام وبالتالى فان تشريعات المسلمين تتناقض مع تشريعات الاسلام الحقيقية. فى الدين السنى يقولون ( بنى الاسلام على خمسة : شهادة أن لا اله الا الله وان محمدا رسول الله ، واقامة الصلاة وايتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع اليه سبيلا ). ويتعلم الطفل المسلم منذ نعومة أظفاره هذه الأركان الخمسة للاسلام عندهم. ومن أنكرها فهو عندهم كافرلأن هذه الأركان الخمسة هى جوهر ( اسلامهم ). وفى ضوء الاسلام الحقيقى فى القرآن فان التناقض بين الاسلام وبين أولئك المسلمين يبدأ بمقولة تلك الأركان الخمسة عندهم ، ليس فقط لأن للاسلام ركنا واحدا وجوهرا واحدا هو التقوى ولكن أيضا لأن الصيغة التى قيلت بها مفردات الاركان الخمسة عندهم تخالف الاسلام.
1 ـ فشهادة الاسلام واحدة وليست إثنتين ، فهى شهادة أنه لا اله الا الله فقط. ومن شهد بهذا فقد آمن بكل الأنبياء دون أن يفرق بينهم ، أو أن يرفع واحدا من بينهم فوق الآخرين. حين يضاف الشهادة بمحمد رسولا فهنا تفضيل له على غيره من الأنبياء وتمييز له عنهم ، وهذا كفر بالاسلام وفقا لما أكده الله تعالى فى القرآن ( البقرة 136 ، 285 ) ( آل عمران 84 ) ( النساء 150 : 152 ) ( الأحقاف 9 ) ولكن العقيدة الأساسية لديهم إن محمدا هو سيد المرسلين ، وهذا تأليه للنبى محمد يؤكده قيامهم بالحج الى قبره و الصلاة اليه بزعم الصلاة عليه ووضع اسمه الى جانب اسم الله تعالى فى المساجد وفى الأذان للصلاة و قراءة الفاتحة له ، والاعتقاد الجازم فى شفاعته كأنه المالك ليوم الدين . وكل ذلك كفر عقيدى بالاسلام.
2 ـ : بعد الشهادتين يذكرون العبادات ( إقامة الصلاة وايتاء الزكاة وصوم رمضان والحج ). هنا تناسوا فرائض اسلامية أخرى مثل التسبيح وذكر الله تعالى ، وله أوقاته اليومية ( طه 130 ـ الروم 17 : 18 ـ ق 39 : 40 الطور 48 : 49 ) وله طريقته (آل عمران 191 : 194 ـ الأعراف 55 ـ 205 ) وتلاوة القرآن الكريم ( الاسراء 78 ـ النمل 91 ـ 92 ـ فاطر 29 ). ثم أنهم ذكروا إقامة الصلاة وايتاء الزكاة يريدون تأدية الصلاة وتقديم الصدقات. وعندهم فان تأدية الصلاة و تقديم الصدقة و الحج والصوم أهداف فى حد ذاتها ، ومن قام بها فقد ضمن الجنة مهما ارتكب من معاص وآثام.
وليس هذا هو مفهوم اقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وفقا للقرآن الكريم ، إذ تعنى الطهارة الخلقية و السمو فى التعامل مع الناس لأن مجرد تأدية الصلاة و الصدقة و الحج والصوم وكل العبادات ليست هدفا فى حد ذاتها ولكنها وسائل لهدف أعظم هو التقوى جوهر الاسلام . ولذلك فان أكثر المسلمين تدينا هم أسوأهم خلقا و أشدهم تزمتا وأكثرهم تطرفا . لأنه تيقن عندهم أنهم طالما يؤدون العبادات فقد أصبحوا فوق القانون الالهى ، وبل أصبح لهم مهمة التسلط على الآخرين. ان للدين الالهى ثلاثة جوانب أساسية تمثل جوهره الأصيل ( التقوى ) وهى الايمان بالله وحده لا شريك له ولا مثيل ولا ولد ولا زوجة، وعبادته وحده و التمسك بالقيم العليا الأخلاقية من العدل و الرحمة و السلام و الكرم و التسامح والاحسان ..الخ. أو باختصار : ايمان حقيقى بالله تعالى وعمل صالح يشمل عبادة الله تعالى وحده و حسن التعامل مع الناس .أو باختصار أكثر تقوى الله تعالى بحيث لا تؤمن باله سوى الله تعالى و لا تعبد غيره و لا تظلم أحدا من الناس. وهذه هى التقوى التى غفل عنها معظم المسلمين ولا يزالون.هذه لمحة تشير للتناقض بين الاسلام والمسلمين،نتوقف بعدها مع التقوى جوهر الاسلام الدين السماوى لكل الرسالات السماوية . التقوى جوهر الدين السماوى
الاسلام هو دين الله تعالى لكل البشر ، وبه نزلت كل الرسالات السماوية ونطق به كل نبى باللغة التى يتكلم بها قومه ( ابراهيم 4 ) الى أن نطق الاسلام أخيرا باللغة العربية فى القرآن الكريم (مريم 97 ) الذى حمل الرسالة السماوية النهائية للبشر الى قيام الساعة رحمة للعالمين ونذيرا لهم:(الأنبياء 107 )(الفرقان 1). والتقوى هى جوهر كل الرسالات السماوية ، جاءت فى خطاب الله تعالى لكل الرسل فقال (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)( المؤمنون ـ 52 ). أى أمرهم بالتمسك بالتقوى والعمل الصالح.ولذلك فكل نبى كان يأمر قومه بالتقوى، وفى سورة الشعراء ـ التى قصّت سيرة كثير من الأنبياء ـ كان كل نبى منهم يقول لقومه : (أَلَا تَتَّقُونَ ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) وتكرر هذا فى سور أخرى ، يقول تعالى ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ؟) (فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ؟ ) (المؤمنون 23 ـ32 ) (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ؟ ) (الاعراف 65 ) (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ اِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ؟) (الصافات ـ 124 ) (..ٍ وَاذكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (الاعراف171 ).
وخطاب القرآن بالتقوى لم يشر فقط الى الأمم السابقة وانما امتد به من عصره حتى قيام الساعة. فالنبى محمد مأمور بالتقوى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ) ( الاحزاب 1 ) ، وكذلك الذين آمنوا معه وبعده (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) ( التوبة 119 ) والصادقون هم مجموع الأنبياء , ويقول تعالى أيضا للمؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (الحجرات 1) أى يحرم عليهم المزايدة على الله تعالى ورسوله ، ويحذرهم بأنه سميع عليم . ويقول لهم فى نفس السورة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (الحجرات 10 ) وفى التوصية لهم بالصدق يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ) (الاحزاب70 ) وفى التوصية لهم بالصبر يعدهم بالأجر فى الدنيا والآخرة اذا كانوا متقين ، فيقول لهم (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (الزمر 10 )وفى الرسالة الخاتمة أكّد رب العزة أنه أمر المسلمين وأهل الكتاب بالتقوى فقال (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ : أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ ) (النساء131 ). وكرر خطابه لبنى اسرائيل يأمرهم بالتقوى (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ , وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) ( البقرة ـ 41 ). وكان مشركو العرب يؤمنون بأن الله تعالى خالق السماوا ت والأرض وبيده ملكوت كل شىء ومع ذلك يتخذون معه آلهة أخرى ، وفى حوار القرآن معهم اتخذ من ايمانهم بالله تعالى الخالق حجة عليهم فدعاهم لتقوى الله (قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ) (المؤمنون 87 ). بل ان الأمر بالتقوى يتوجه لجميع الناس يذكرهم بماضيهم حيث جاءوا من أصل واحد ولهم اله واحد يراقب أعمالهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) (النساء 1 ـ ) أو يذكرهم بالمستقبل حين تأتى القيامة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) (الحج 1 ).
ان أكرمكم عند الله أتقاكم :
ولأن التقوى هى جوهر الدين الالهى للبشر جميعا فان الله تعالى يخاطبهم قائلا ( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ( الحجرات 13 ) أى انهم جميعا أخوة وابناء آدم وحواء ، وقد جعلهم شعوبا وقبائل مختلفى العنصر والثقافة ليتعارفوا لا ليتقاتلوا ، وهم جميعا متساوون فى نظر الرحمن ولكن الأفضل منهم يوم القيامة ليس هو الأغنى مالا أوالأكثر جاها وانما هو أتقاهم لله تعالى، وكل انسان يستطيع ـ إذا أراد أن يكون أتقى البشر ليصبح الأكرم عند الله مهما كان وضعه فى الدنيا. ولأن التقوى تعامل خاص ومباشر بين الانسان وربه جل وعلا فانه محرم التظاهر بالتقوى وتحويلها الى متاجرة بالدين وخداع للناس، ولذا فان الله تعالى يحرّم تزكية النفس بالتقوى، أى أن يمدح الانسان نفسه بالتقوى، يقول تعالى ( فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) (النجم 32 ). وطالما أن الله وحده هو الأعلم بالسرائر والأعلم بما تخفيه الصدور والأعلم بالمتقين فلا مجال فى الاسلام لتأسيس كهنوت يزعم أنه المتحدث باسم الله تعالى ويتحكم فى الناس باسم الرحمن مغتصبا سلطة الله تعالى .
الجنة للمتقين فقط من عموم البشر
يوصف أصحاب الجنة بأنهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أى أن الإيمان وحده لا يكفى حتى لو كان إيمانا صحيحا بالله تعالى وحده لا شريك له ولا ولد ولا زوجة ، لا بد من اقتران الإيمان الصحيح بعمل صالح ينشغل به المؤمن بحيث لا يجد وقتا لإرتكاب المعاصى ،أى ان هذا الايمان مع العمل الصالح يساوى كلمة واحدة هى التقوى. وبالتالى فلا يدخل الجنة إلا المتقون. يقول تعالى ( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة 212 ). أى ان الكفرة يسخرون فى الدنيا من الذين آمنوا ، وفى الرد على سخريتهم لم يقل تعالى ( والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة ) وإنما قال ( والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ) لأن المتقين فقط من أولئك المؤمنين هم الذين سيدخلون الجنة. وفى نهاية سورة الزمر عرض لمشاهد يوم القيامة ينتهى بدخول أهل النار للنار وأهل الجنة للجنة ، يقول تعالى عن أهل النار ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا) وفى المقابل لم يقل ( وسيق الذين آمنوا الى الجنة ) وانما قال ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) ( الزمر ـ 73 ). وبهذا فانه بالتقوى ـ جوهر الاسلام ـ يفوز البشر بالجنة. وبدونها فهم أصحاب النار .
معنى التقوى :
ومن بعض الايات السابقة نفهم معنى التقوى ، فقوله تعالى لبنى اسرائيل (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) يفيد أن معنى التقوى هو الخوف من الله تعالى بحيث لا يقع الانسان فى معصية ، أو يتوب اذا وقع فى معصية. وتأتى بمعنى الخشية. وتعبير الخشية لا يدل على مجرد الخوف من الله ، ولكنه الخوف الممتزج بالخشوع لذا يأتى فى الأغلب مرتبطا بتقوى الله تعالى والخشية منه كقوله تعالى (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) (النور 52 ). ان الخشية حالة خاصة من الخوف ينبغى أن يتوجه بها المؤمن التقى نحو الله تعالى فلا يخشى الا الله ، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى للنبى محمد فى معرض التأنيب الحاد (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ )( الأحزاب 37 ) وقوله تعالى لأهل التوراة (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ) ( المائدة 44 ) وقوله تعالى للمؤمنين (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ) ( التوبة 13 ) . وتاتى التقوى بمعنى التوبة: وهذا يستدعى من المؤمن التوبة فتأتى التوبة ضمن معانى التقوى وصفات المتقين ، فاذا أذنب أحدهم بادر بالتوبة وعزم على ألاّ يعود الى العصيان ، يقول تعالى عن المتقين (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (آل عمران ـ 135). وهناك من هو أعلى درجة إذ يتذكر ربه قبل الوقوع فى المعصية وقبل ان يغويه الشيطان فيرفض الوقوع فى الذنب مستعيذا بالله تعالى من الشيطان الرجيم (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) (الأعراف 201 )
التقوى أساس الإيمان والعمل الصالح فى الاسلام
1 ــ قد يقال ان تقوى الله تعنى الخوف منه و خشيته و العمل على الفوز برحمته وجنته. وليست هذه العبارة صحيحة بهذا الشكل لأن معظم الناس يقولون انهم يخافون الله تعالى ويخشونه ، ولكن يخشون و يتقون مع الله تعالى آلهة أخرى . لذا فالعبارة الصحيحة أن تتقى الله فقط ولا تخشى غيره. لقد كان العرب قبل نزول القرآن الكريم يؤدون الصلاة و الحج ويقوم القرشيون على رعاية البيت الحرام ، ولكنهم أضافوا الى ذلك الحج الى القبور المقدسة و الأوثان ، و ارتكبوا المذابح والغارات وكل الفواحش معتقدين أن من يؤدى العبادات فقد غفر الله تعالى له ، وهو نفس الحديث الكاذب الذى اخترعوه ونسبوه للنبى محمد فى الدين السنى والقائل ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) أى رجع بدون ذنوب. ردّ الله تعالى على العرب المشركين فقال (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ) أى ان العبرة ليست بالتدين السطحى المظهرى ومجرد تادية الحج و الصلاة فى المساجد مع الاستمرار فى الكفر العقيدى و الظلم أو الكفر السلوكى ، ولكن العبرة بالتقوى ، تقول الآية التالية (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ )( التوبة: 17 ـ 18 ). فالمؤمن الحق بالله واليوم الاخر هو الذى يتحقق ايمانه باقامة الصلاة وايتاء الزكاة أى بالسمو الخلقى فى التعامل مع الناس ولا يخشى إلا الله تعالى.ولذا تأتى الصيغة بالأمر والنهى معا ، أى بخشية الله وعدم خشية غيره (فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ) ( المائدة 3 )( البقرة 150 ) أو تأتى باسلوب القصر والحصر كقوله تعالى (وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ ) (النحل 52 ) أى هو وحده الذى نتقى ونخشى ( وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) (البقرة ـ 41 ).
ولتقرير أن الشفاعة لله وحده تقوم بها الملائكة حين تعرض أعمال الناس فان الأمر بالتقوى يأتى أحيانا ليؤكد نفى الشفاعة البشرية حتى ينهمك الناس فى العمل الصالح و يجتنبوا العمل السىء ، يقول تعالى عن القرآن الكريم و الانذار به ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (الانعام 51 ـ ) فاذا تمسك المؤمن بالتقوى فى حياته فقد أصبح حسابه يوم القيامة يسيرا (الانشقاق 7 ، 8 ) لأنه حاسب نفسه فى الدنيا وتحكم فى غرائزها ، فاصبح حسابه فى الآخرة هينا :(وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (الانعام 69 ) أى لا بد أن يتمسك بالتقوى ليظل على تذكر بها طيلة حياته الدنيا فاذا جاء اليوم الآخر نجا.
ولأن الانذار والبيان لا يكون إلا بالقرآن الكريم المحفوظ بقدرة الله تعالى إلى يوم القيامة فإن هذا القرآن فيه الهدى للمتقين (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)(البقرة 2 ـ )(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ )(الحاقة 48).
لذا جاء بيان القرآن داخل القرآن نفسه بحيث لا يحتاج الى شروح بشرية تشوه حقائق القرآن كما فعل المسلمون فى تراثهم وتفاسيرهم التى أبعدت المسلمين عن التقوى جوهر الاسلام ، يقول تعالى عن بيان القرآن وتوضيحاته (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )( البقرة 187 ) وجاءت الوصية العاشرة فى القرآن الكريم تأمر باتباع القرآن وحده دون غيره أملا فى تحقيق التقوى (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (الانعام 153 ) وهذا ما لم يفعله المسلمون الذين ابتدعوا لهم أديانا أرضية كالسنة و التشيع والتصوف ، وجعلوا لها وحيا إلاهيا بالكذب والإفتراء . وأهملوا ما فى القرآن من وعيد يهدف الى تربية الاحساس بتقوى الله تعالى (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ) (طه 113 ) وأهملوا ما فيه من أمثال وعظات جاءت بتناسق حتى يتقون (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (الزمر ـ 28 ).
ومعلوم ارتباط التقوى بالإيمان الحقيقى بالله تعالى ، وهذه صفة أولياء الله تعالى من كل البشر الذين أمضوا حياتهم مؤمنين متقين (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ )(يونس ـ 63 )،لذا تبشرهم ملائكة الموت عند الاحتضار بالجنة : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)(فصلت) لذا فهم أصحاب الجنة ( وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ )(يوسف 57 )( وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ )(الجاثية 19). وقبل موت المؤمن فإنه حين يجاهد مخلصا فى سبيل الله يكون مواليا لله جل وعلا فيواليه الله جل وعلا ، لأنّ الله تعالى لا يوالى إلا المتقين ( إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ) (الانفال 34 )وقبل اليوم الآخر فان الله تعالى يشمل أولئك المتقين فى الدنيا بعنايته ورحمته ، وقد أنجى المتقين من الأمم السابقة بينما أهلك الظالمين الطغاة وأنجى المتقين (النمل 53 ) (فصلت 18 )
2 ــ وكما يتقى المؤمن ربه جل وعلا فى عقيدته وايمانه فانه يتقى الله تعالى تعامله مع الناس بحيث لا يظلم أحدا، و فى عبادته لتكون خالصة لله جل وعلا وحده . وهنا تأتى التقوى هدفا أساسيا للعبادات. التقوى هى الهدف الأساس من العبادات:
ليس أعظم فى التشريع الاسلامى من أن تكون عبادة الله تعالى مجرد وسيلة للتقوى ، ومن التقوى حسن التعامل مع الناس. فالذى يصلى ويحج ويصوم ويتصدق ولكن يظلم الناس ويعتدى عليهم لا عبرة بعبادته طالما لم تنعكس عبادته خيرا و احسانا فى تعامله مع المجتمع. وقد جعل الله تعالى كل العبادات وسائل للتقوى وخاطب بذلك كل الناس (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (البقرة21 ) فالصلاة ـ مع قراءة القرآن وذكر الله تعالى ـ هدفها إجتناب الفحشاء والمنكر والبغى (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت 45)والصوم حتى نتعلم التقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )(البقرة 183 ).
الفصل القادم : التقوى والذّكر فى فريضة الحج