ولعل أصدق الأنباء عن أحداث القرن الماضي في الواحات ما ُكتب في مذكرات كتبها أصحابها في ذلك العصر، وأهم هذه المذكرات هى تلك التي كتبها الأميرالاي(جارفيس) بيك ..والصاغ(علي علوي) من موظفي مصلحة الحدود ودونوا مذكراتهم في بداية القرن العشرين، ثم كتب / يوسف أحمد مياس مذكراته في الثلاثينات والأربعينات من االقرن الماضي .
وكذلك كتب الطبيب / مصطفى فهمي الذي عمل بوزارة الصحة كتابه عن الوادي وانتدب للعمل بالواحات في تلك الفترة أيضاً.
وكذلك كتب العمدة / نجاتي هنادي .. آخر عمدة لقرية الخارجة وقتها وهى الآن عاصمة الوادي الجديد.. ومدينة منظمة كبيرة جدا بها مطار دولي ومديرية أمن ومستشفى عام كبير مجهز بأحدث الأجهزة ومتحف وطني ومديريات الزراعة والتعليم والأمن والصحة والأوقاف والمالية الخ.. كتب هذا العمدة مذكرات متنوعة أيضاً.
وقد رصد كل منهم أحوال وأحداث تشكل في مجموعها ما كان يجري من أحداث، والتاريخ يتشكل من خلال الحكايات القديمة وأحداث العام أو الحول وهو ما يطلق عليه (حوليات).
ولأنه في مثل هذه الأوقات لامجاملات أو تحيز ضد أو مع فإن التاريخ من خلال ذلك يسجل.. ولا يسجل إلا الكثير جدا من الحقائق .
يقول العمدة في عام 1926م تعين الصاغ أحمد عبدالمنعم محافظاً وكان ضابط مهندس.. وكان رجلا مصلحاً اقترح على الحكومة وقتها إعادة مساحة أراضي الواحتيين ، وطالب بوضع مناسيب على الخرائط لتبيان مدى الارتفاع عن مستوى سطح البحر، وأنشأ المشتل وأمر بتوزيع أشجاره على الأهالي بالمجان لتشجيع زراعة الأشجار.. وعندما طالبته والكلام للعمدة بإنشاء مجلس قروي للخارجة رحب بالفكرة..
وكان ذلك وقت زيارة مدير سلاح الحدود للخارجة الذي أيدَّ الفكرة.
وفي رحلة البحث فوجئنا على عكس ماكان متوقع ـ أن أهالي الواحات ـ يَعُوُن جيداً قيمة تسجيل الأحداث .. هل كانوا يمتلكون القدرة على استشراف المستقبل فيقدرون أهمية كتابة هذه المذكرات؟.. ربما.. فقد قال الحاج عبد الخالق النجاتي.. وهو واحد من أبرز المثقفين في الواحات كلها .. وواحد من المثقفين المصريين عموماً قال : أنه ألح على والده العمدة نجاتي لكي يسجل مذكراته.
في هذا العام 1922م حصلت مصر على تصريح 28فبراير الذي أعطاها شكلا من أشكال الاستقلال وتغير تعريف الحاكم من السلطان إلى الملك، وكان فؤاد بن الخديوي اسماعيل هو ذلك الحاكم.. وطلب الكومندان الانجليزي/ جرفس .. وهو ـ حاكم الواحات ـ طلب من الشيخ خليفة زناتي ووالدي ، السفر إلى مصر لتهنئة الملك .. فرفض والدي السفر .. وحاولت اقناعه فلم أستطع.. فأبديت للمأمور استعدادي للسفر نيابة عن والدي لكبر سنه، وكنا خمسة في هذا السفر أنا وعمي الشيخ خليفة والشيخ محمد سعيد الناظر والشيخ على صالح وآخر.
وعندما جاء دورنا لمقابلة الملك دخلنا فوجدناه واقفاً وتنحنح الملك بشدة.. زلزلت السراي.. وذلك من أثر حاجة في حلقه كما علمت فيما بعد.وتكلم الملك بلغة عربية مكسرة قائلاً: ( أشكركم جداً وإن شاء الله حناخد باقي هكوكنا) .
من الطرائف المدونة :
يذكر العمدة نجاتي هذه الطرفة الواقعية وإن لم يذكر اسم صاحبها لعدم الاحراج، فيقول:
سرق رجلاً من الواحات وقُدِّم للقضاء وكانت محاكمته في أسيوط، ووقف محاميه يقول: يا سيادة القاضي إن الرجل ليس له ذنب إنه كان يسير في الطريق فلم يشعر يا سيادة القاضي إلا ويده اليمنى تمتد فتأخذ المسروق من غير أن يقصد هو.!! فضحك القاضي من "لطافة الدفاع" الذي قدمه محامي المتهم.
وأراد القاضي أن يجاري المحامي في ُظرفه فقال القاضي: حكمت المحكمة ببراءة المتهم والحكم على يده اليمنى بالسجن ثلاثة أشهر.. وللمتهم الحق في مصاحبة يده في السجن أو تركها.. فضحك الناس.. وسأل المحامي القاضي: هل هذا هو الحكم؟ فقال القاضي: نعم.. والناس ما زالوا يتضاحكون..
ولكن ضحكهم هذا انقلب إلى دهشة عظيمة حينما وجدوا المتهم يخلع ذراعه اليمنى الصناعية ويضعها على المنضدة أمام القاضي، ويخرج وسط ذهول الجميع.!.
مذكرات مياس:
تعتبر مذكرات يوسف أحمد مياس نموذجاً رائعاً للوعي بأهمية التاريخ الشعبي للأحداث العامة والخاصة ودليلاً واضحاً على اهتمام أهل الواحات بتاريخ أجدادهم ورغبتهم الصادقة في أن يحفظ هذا التاريخ للأجيال القادمة وكان يسجلها في نفس تاريخ الحدث يوماً بيوم مباشرة وبدقة شديدة وطلاقة لغوية.
وفي ذلك التسجيل عبر بدقة وبصدق عن حال مجتمع الواحات في أوائل القرن العشرين وحتى منتصفه.
في المقال القادم نعرض لكيفية حفر العيون المائية الشعبية واختلافها عن طرق حفر الآبار الحكومية . في ذلك.