المستشار الجليل ممدوح مرعي قاض، سيذكره التاريخ. زملاؤه الذين عملوا معه، ومرؤوسوه الذين تعلموا منه، يثنون عليه الثناء الحسن في عمله القضائي، منذ بدايته حتي تركه محكمة استئناف القاهرة بعد رئاسته لها، ليصبح رئيساً للمحكمة الدستورية العليا التي غادرها ببلوغ السن القانونية، ليصبح بعد مدة بالغة القصر، وزيراً للعدل، وظروف توليه الوزارة يعرفها الكافة. والأزمة القضائية المصرية التي اختير المستشار الجليل للوزارة في ظلها تناولتها تفصيلاً في كتاب «القاضي والسلطان»،
الذي تصدر طبعته الثانية هذه الأيام عن دار الشروق. ولم تنته الأزمة القضائية بتولي المستشار الجليل الوزارة، بل ازدادت تعقيداً، وتصاعدت الأفعال وردودها من جانبي السلطة التنفيذية ورجال القضاء العادي والإداري، وناديي القضاة ومجلس الدولة، بصورة أخافت كثيرين من أن نكون علي شفا مذبحة جديدة للقضاة. وعبر عن الإشفاق من هذه المخافة عدد من كبار أساتذة القانون ذوي المكانة العلمية والسياسية، كما عبر عنه شيوخ القضاة، وكثيرون من الكتاب والسياسيين وأهل الرأي.
وآخر فصول التعقيدات، التي أصابت أزمة السلطة القضائية مع السلطة التنفيذية، كان بسبب الإعلان عن مشروع القرار الجمهوري بقانون، في شأن مجلس الهيئات القضائية، الذي نحمد الله أنه لم يصدر بعد، وندعوه أن يهدي من بيدهم مقاليد الأمور إلي عدم إصداره بصورته الحالية.
أُعِدَّ هذا المشروع تطبيقاً للنص المعدل سنة ٢٠٠٧ للمادة «١٧٣» من الدستور، الذي يقول: «تقوم كل هيئة قضائية علي شؤونها، ويشكل مجلس يضم رؤساء الهيئات القضائية، يرأسه رئيس الجمهورية، يرعي شؤونها المشتركة، ويبين القانون تشكيله واختصاصاته وقواعد سير العمل به».
وهذا النص، عند تفصيله، يقول:
١ ـ إن كل هيئة قضائية تقوم علي شؤونها.
٢ ـ إن المجلس المشار إليه فيه يضم رؤساء الهيئات القضائية.
٣ ـ إن رئيس الجمهورية هو الذي يرأس ذلك المجلس.
٤ ـ إن المجلس يرعي الشؤون المشتركة للهيئات القضائية.
فهل جاء مشروع القانون (أو القرار الجمهوري بقانون) مستجيباً لما يقوله النص الدستوري؟ هذا هو ما أحاول النظر فيه في هذه السطور.
إن أول ما يلفت النظر في هذا المشروع أنه معد ليصدر به قرار جمهوري بقانون، في الوقت الذي لدينا فيه مجلس شعب ومجلس شوري، كل منهما في دور انعقاد عادي، وكانت جلستهما المشتركة التي افتتح فيها دور انعقادهما رئيس الجمهورية، قبل أيام معدودة من تاريخ توزيع وزارة العدل مشروع القرار الجمهوري بقانون في شأن مجلس الهيئات القضائية.
فلماذا لا يعرض المشروع علي مجلسي الشعب والشوري، ويعطي حقه من المناقشة والدراسة، ثم يصدر به قانون لا قرار جمهوري بقانون؟
لقد حكمت المحكمة الدستورية العليا، غير مرة، بعدم دستورية قرارات جمهورية بقوانين، لأنها صدرت في أثناء دور انعقاد مجلس الشعب، ولم تعرض عليه، أو لأنها صدرت في المدة الواقعة بين دوري انعقاد، ثم لم تعرض عليه في الموعد الواجب عرضها فيه، فهل تريد وزارة العدل أن يكون مآل هذا المشروع بقرار جمهوري مصير تلك القرارات الجمهورية بقوانين التي حكم بعدم دستوريتها؟
وإذا وقع ذلك، فمن الذي يستفيد من القلاقل والهزات التي تصيب كيان السلطة القضائية، والهيئات التي تسميها قوانينها «هيئات قضائية»؟
أم أن وزارة العدل أعدت مشروعها ليصدر بقرار جمهوري، توقياً لما قد يجده المشروع من معارضة في المجلسين، وفي مجلس الشعب بوجه خاص، تخاف الوزارة من تأثيرها علي الصياغة التي أعدت المشروع بها، ومن نتائج هذا التأثير علي مدي تحقيق المشروع الأهداف التي أريدت منه؟
لا أملك ـ طبعاً ـ إجابة هذه الأسئلة، لكن الذي يملكها عليه أن يراجع نفسه، بعد تعديل المشروع بما يجعله مستجيباً للنص الدستوري «المادة ١٧٣»، فيجعله في صورة مشروع قانون عادي، ويحيله مجلس الوزراء، بعد موافقة قسم التشريع في مجلس الدولة عليه، إلي مجلسي الشعب والشوري، ليناقش كسائر مشروعات القوانين.
والنص الدستوري يتحدث عن مجلس يضم رؤساء الهيئات القضائية. وقد ملَّت الحروف من تكرار القول إن الهيئة القضائية هي التي تتولي الفصل في المنازعات بين أطرافها بحكم ناهٍ للخصومة، وليست الهيئة القضائية هي أي كيان يصفه القانون المنظم له بهذا الوصف.
إن هيئة قضايا الدولة، إدارة قضايا الحكومة سابقاً، ولجنة قضايا الحكومة وقلم قضايا الحكومة، في أسمائها الأولي، تقوم بعمل جليل هو النيابة القانونية عن الدولة والجهات التابعة للحكومة: وعمل رجال هذه الهيئة ونسائها هو المحاماة عن شخص معنوي واحد، هو في المحصلة النهائية، الحكومة المصرية. وهؤلاء الرجال والنساء يستميتون في أداء واجبهم بصورة تثير الإعجاب، ويحسنون إلي الحكومة حتي حين تسيء هي إلي نفسها، وأحياناً إليهم، باتخاذ مواقف وإصدار قرارات، وفعل أشياء يصعب علي ذوي النفوس الأبية الدفاع عنها. وقد حدثني أستاذي الجليل المستشار عبدالحليم الجندي،
الرئيس المؤسس لهيئة قضايا الدولة بصورتها الحالية، أنه يوم أنشئت محكمة القضاء الإداري لأول مرة، كان هو المحامي المكلف بالدفاع عن الحكومة أمامها، فأخبر رئيس المحكمة بأنه لن يدافع عن الباطل أبداً، لكنه لا يستطيع ترك الحكومة بلا دفاع، مهما يكن من أمر ما يجري التقاضي بشأنه من أعمالها وقراراتها. قال عبدالحليم الجندي ـ كما حدثني ـ إنه قال لرئيس المحكمة: إذا وجدتم توقيعي باسمي الصريح المقروء علي مذكرة الحكومة فاعلموا أن هذا ـ في نظري ـ هو صحيح القانون، وإذا رأيتم توقيع «الأوزة» فاعلموا أن هذا باطل صريح فلا تقضوا به (!)، ثم رسم لي ـ رحمه الله ـ علي ورقة بيضاء توقيعاً مضحكاً لا يشبه شيئاً إلا أن يشبه أثر مشي الطيور علي الرمال (!).
ورجال هيئة قضايا الدولة، ونساؤها، لا يقلون ـ إلا من شَذَّ منهم ـ عن أستاذنا الجليل المستشار عبدالحليم الجندي، إيماناً بسيادة القانون، ورغبة في إعلاء كلمته الصحيحة. لكن ذلك لا يحولهم من محامين إلي قضاة، ولا يسوغ أن يشترك رئيسهم في مجلس يرعي الشؤون المشتركة لـ «الهيئات القضائية»، لأن المحامين، مهما علا قدرهم، ليس من عملهم الفصل في الخصومات بقضاء ناهٍ للمنازعات. هذا عمل القضاة وحدهم. والجهات التي تضمهم هي التي تستحق أن تسمي «هيئات قضائية».
والنيابة الإدارية هي الجهة التي تتولي ـ بصفة أساسية ـ التحقيق مع العاملين المدنيين بالدولة، ونظرائهم من الخاضعين لغير قانون العاملين المدنيين، في شأن ما ينسب إليهم من إخلال بواجبات وظائفهم، ولها سلطات محددة في تحريك الدعوي التأديبية، وفي اقتراح توقيع الجزاء الإداري، لا تدخل، تحت أي نظر صحيح، ضمن القيام بالفصل في الخصومات، الذي هو الخصيصة المميزة للقاضي والقضاء.
والنيابة الإدارية ـ برجالها ونسائها ـ تؤدي عملاً بالغ الدقة والخطر، عظيم الأثر، علي الوظيفة العامة، وكيفية قيام المكلفين بها بواجباتهم، وهي تعين الحكومة عوناً لا مراء فيه في وضع ضوابط، ما يعتبر خروجاً علي الواجب الوظيفي وما لا يعتبر كذلك. وهي تمثل الاتهام أمام المحاكم التأديبية بدرجاتها كافة. وهذه المحاكم جزء من القضاء الإداري الذي يضم سائر أجزائه مجلس الدولة. والقائم بالاتهام أحد طرفي الخصومة التأديبية، يقوم بعمله هذا نائباً عن الجهة التي ناط بها القانون شأن الدعوي التأديبية، ويقابله من ناحية المُحال إلي المحاكمة التأديبية محام يدافع عنه. فالمركز القانوني للمدعي «ممثل النيابة الإدارية» يقابله المركز القانوني للموكل عن المدعي عليه «المحال إلي المحاكمة التأديبية». وهما يتفاضلان أمام المحكمة، ويبديان لقضاتها حججهما وأسانيدهما، وهي تحكم، في نهاية المطاف، بقول فصل تنتهي به الخصومة التأديبية. فالقضاة هم وحدهم الذين يحكمون، وهم وحدهم ـ لذلك ـ الذين يصدق عليهم أنهم قضاة، وعلي محكمتهم أنها «هيئة قضائية».
ودور النيابة الإدارية ـ علي خطره وجلال قدره وأهميته للوظيفة الحكومية ـ لا يسوغ أن تعتبر من الهيئات القضائية ولا أن يصبح رئيسها عضواً في مجلس، مهمته الشؤون المشتركة بين الهيئات القضائية.
ولمن شاء أن يسأل: أي شأن تراه يكون مشتركا بين قضاة الحكم والمحامين عن الحكومة أو ممثلي جهات الاتهام التأديبي؟ وما الذي يمكن أن يقوم المجلس، المزمع إنشاؤه، بالتنسيق فيه بين القضاة والممثلين للخصوم الذين يقفون أمامهم؟ وما الذي يمكن أن يرعاه المجلس، المزمع إنشاؤه، من شؤون يشترك القضاة فيها مع ممثلي الخصوم، الذين لا عمل للقضاة إلا للفصل في المنازعات الناشبة بينهم؟
وهل يجوز أن يكون لهذا المجلس، وفيه غير القضاة كما بينت، قول في شأن التصرف في أموال الميزانيات المخصصة للقضاء ـ بمعناه الصحيح ـ فضلا عن أن يكون هذا القول هو القول الفصل في الشأن المالي «سلطات وزير المالية»؟!
وهل يجوز أن يكون لهذا المجلس، وفيه المحامي الأول للحكومة «رئيس هيئة قضايا الدولة»، أن يكون له قول في اختيار أعضاء الدائرة الأولي بالمحكمة الإدارية العليا من الشخصيات العامة، فضلا عن أن يكون ذلك القول هو القول الفصل «تحديد أسماء...»؟!
وهل عهد أحد ـ في غير نظم التحكيم التجارية والصناعية ـ أنه يجوز لأحد الخصمين أن يختار قضاته بأسمائهم وذواتهم؟!
إن هذا هو ما يعطيه هذا المشروع للحكومة، إذ هي خصم دائم في جميع قضايا الأحزاب، وهي تشارك بحكم الفقرة الخامسة من المادة «١» من مشروع القانون في تحديد أسماء نصف أعضاء محكمة الأحزاب «!!»
وهل يجوز أن يترأس وزير العدل ذلك المجلس المزمع إنشاؤه، عند غياب رئيس الجمهورية، وأن يكون الوزير نفسه هو سيد المكان الذي يجتمع المجلس فيه «وزارة العدل»؟ أليس ذلك عين التدخل في السلطة التنفيذية، بل عين الهيمنة والسيطرة علي شؤون القضاء والقضاة؟
وهل يجوز أن يكون رئيس هيئة قضايا الدولة ورئيس النيابة الإدارية عضوين في اللجنة، التي يشكلها مشروع القانون للنظر في طعن النائب العام علي قرار المجلس، إذا صدر برفض طلب النائب العام رفع الحصانة عن القاضي، وللنظر في تظلم القاضي من قرار المجلس برفع الحصانة عنه؟ وما المشترك في مسألة الحصانة بين القضاة في كفة وهيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية في الكفة الأخري؟
لقد صدر بيان عن وزارة العدل، يحمل توقيع المتحدث الرسمي لها، يقول إن الوزارة رأت إبقاء شأن الحصانة علي حاله، وحذف المادة الخامسة من المشروع، التي تضمنت الحكمين سالفي الذكر. لكن هذا البيان نفسه حمل ثلاث طامات، كل منها أكبر من أختها.
أما الطامة الأولي فقول البيان: إن التظلم من القرار الصادر برفع الحصانة عن القاضي «أمام لجنة قضائية لا تضم في تشكيلها أياً من غير رجال القضاء، ولا حتي وزير العدل، علي خلاف ما أشيع، ولا النائب العام بطبيعة الحال..».
ومن المؤسف أن هذا الكلام غير صحيح، فالفقرة الثالثة من المادة الخامسة من المشروع تنص علي تشكيل اللجنة المختصة بنظر التظلمات من رئيس مجلس الدستورية العليا «رئيساً» ورئيس محكمة النقض ورئيس مجلس الدولة، ورئيس محكمة استئناف القاهرة، ورئيس هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية «أعضاء». فكيف يجيز المتحدث الرسمي لوزارة العدل لنفسه، وقلمه ولسانه، أن يقول إن اللجنة لا تضم في تشكيلها «أياً من غير رجال القضاء»؟!. إن القارئ يعلم علماً لا شك فيه ـ مما ذكرناه ـ أن الرئيسين الجليلين لهيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية ليسا قاضيين، لأنهما لا يتوليان الفصل في الخصومات، وهي المهمة الوحيدة للقضاء. ولأن قصاري صلتهما بالمحاكم هي تمثيل الحكومة أمامها: الأول محاميا والثاني مدعيا في القضايا التأديبية. فكيف يقول المتحدث الرسمي لوزارة العدل إنهما ليسا من غير القضاة؟
ولكن هذه الطامة ـ علي كل حال ـ هي أهون الطامات الثلاث. فأما الثانية فهي قول البيان: إن ما ثار حول المشروع «نشأ من جراء فهم خاطئ لحكمين أتت بهما مسودة مشروع القانون المقترح».
ونسبة خطأ الفهم إلي جموع القضاة كبيرة، لا يجوز أن يقع فيها من يتحدث باسم وزارة العدل. إن من آداب التقاضي عند الطعن في الأحكام، أن يكون التناول بالنقد والتعييب محدد الوجهة نحو ورقة الحكم المطعون فيه، دون أن يتجاوز ذلك ـ بأي وجه ـ إلي الهيئة التي أصدرته، فكيف يجوز لوزارة العدل أن ترمي جموع القضاة، بهيئاتهم «أي محاكمهم» كافة بأن مهم الحكمين المذكورين في البيان كان فهماً خاطئاً؟. وإذا كان ذلك صحيحا ـ وهو باطل قطعا ـ فلماذا استجابت الحكومة «وهي لا يلوي ذراعها أحد» لهذا الفهم الخاطئ ـ في زعم المتحدث باسم وزارة العدل ـ وحذفت نص المادة الخامسة من المشروع وعدلت نص مادته الأولي؟! وهل واجب الحكومة هو أن تبين للمخطئ وجه خطئه أم أن تنزل عند قوله وتجاريه في مجانبة الصواب؟ والحكومة التي تفعل هذا ـ بفرض صحة قولها ـ هل تكون قد أدت الأمانة، التي تحملها علي كاهلها، أداءها الواجب أو الجائز؟
أما الطامة الثالثة في بيان المتحدث الرسمي لوزارة العدل فهي قوله: «فوجئت وزارة العدل أنه قد ثار لغط بين جموع القضاة، نشأ جراء فهم خاطئ لحكمين..».
وقد أخّرتُ ذكر هذه الطامة، مع أنها أولاها وروداً في البيان، لأنها أكبر الطامات الثلاث وأسوأها.
إن المتحدث باسم الوزارة يصف كلام القضاة، بل كلام جموعهم بأنه «لغط». واللغط هو الأصوات المبهمة، والجلبة التي لا تفهم، والضجة التي لا يفهم معناها، والكلام الذي لا يبين. هكذا فسرته المعاجم العربية، وليس للكلمة سوي هذه المعاني المتقاربة، وهي عربية صحيحة صريحة، فلا يصلح فيها التمحل بأنها مستعملة بالمعني العامي أو الدارج ـ كما يفعل بعض الناس حين يخطئون ويأبون الاعتراف بخطئهم ـ لأنها ليس لها معني دارج أو عامي سوي ذلك الذي ذكرته المعاجم.
والقضاة قد تكلموا بلغة واضحة مفهومة، لا يخطئها إلا سمع مضروب عليه، أو عقل مسلوب من صاحبه. ولا أريد أن أعيد كلامهم فكله، كان منشوراً علي الكافة، وكان لـ «المصري اليوم» القدح المعلّي في إبرازه، ونقله بصدق وشجاعة.
ولولا أن الكلام فهم علي وجهه الصحيح، ولولا أنه كان في ذاته صحيحا، ما رجعت وزارة العدل عما كانت بينته من نصوص معيبة في مشروع القانون، وهو كله ـ عندي ـ معيب، ولا يرفع عيوبه، ولا يستر عوراته، أن يوافق عليه رئيس هذه المحكمة أو تلك، أو يصرح بقبوله رئيس هيئة من الهيئات التي يسميها قانونها «هيئة قضائية»، لأنه لا يصح إلا الصحيح، ولأن العبرة بالحقائق لا بالأوهام، وبتحقيق مصالح المجموع لا بشهوات الأفراد أو أهوائهم.
إنه من حق المستشار الجليل ممدوح مرعي علي شخصيا، لسبب لا أجد في نفسي الشجاعة الحاملة علي البوح به، أن أذكره بأنني أفضِّل عمل ممدوح مرعي القاضي ألف مرة علي عمل ممدوح مرعي الوزير.
فأما عمل الوزير، فالذي ذكرته عن مشروع القانون كان آخر حلقاته، وأما عمل القاضي فإنني أذكّره منه بحكم واحد له.
لقد حكم المستشار الجليل ممدوح مرعي، وهو رئيس للمحكمة الدستورية العليا، بأن: «تنظيم العدالة وإدارتها، إدارة فعالة، مسألة وثيقة الصلة بالحرية وصون الحقوق علي اختلافها.. والدستور جعل من هذا الاستقلال (أي استقلال القضاء) عاصماً من التدخل في أعمالها (أي العدالة) أو التأثير فيها، أو تحريفها، أو الإخلال بمقوماتها، لتكون لها الكلمة النهائية في كل مسألة من طبيعة قضائية، وما ذلك إلا لأن السلطة القضائية سلطة أصيلة تقف علي قدم المساواة مع السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتستمد وجودها وكيانها من الدستور ذاته لا من التشريع. وقد ناط بها الدستور وحدها أمر العدالة مستقلة عن باقي السلطات.. أعضاء هذه السلطة لا يدينون بالتبعية للسلطة التنفيذية أو أحد وزرائها، ولا يستقيم كذلك القول بتمثيل الأخير (وزارة العدل) لمرفق العدالة، إذ العدالة لا تعد مرفقاً، بل هي سلطة بكل ما للسلطة من مقومات» (حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم ١٥ لسنة ٢٢ قضائية، بتاريخ ٧/٣/٢٠٠٤).
إن الذي يقرأ هذا الحكم العظيم، ويقرأ مشروع القرار الجمهوري بقانون مجلس الهيئات القضائية لا يمكن أن يصدّق أن منشئ الكلامين شخص واحد، الفارق الوحيد هو موقعه. فقد حكم وهو قاضٍ بما قرأت. وأجاز لنفسه أن يقترح التشريع وهو وزير علي نحو ما رأيت.. فتأمّل «!».