أهل القرآن والاحتراف السياسى

آحمد صبحي منصور في الخميس ٠١ - نوفمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة

فى باب الفتاوى ( فاسألوا أهل الذكر ) فى موقعنا ( أهل القرآن ) جاءنى سؤال يستفتينى عن موقفنا من الترشح لمجلس الشعب فى مصر ، وهل يمكن أن أرجع لآخوض المعترك السياسى مدافعا عن الاتجاه القرآنى ورؤيته الاصلاحية . ويرى السائل وجوب هذا نضالا على أرض الواقع وتعاملا معه بمعطياته لإعطاء زخما للحركة التنويرية وتنوعا ضروريا للأطياف السياسية ، ولمواجهة الاحتكار السلفى الاخوانى  الذى لا يؤمن بالديمقراطية ويعتبرها كفرا .

ولأهمية السؤال وأهمية الاجابة عليه فضّلت نشره فى هذا المقال . وأقول :

أولا : هناك فارق بين المشاركة السياسية والاحتراف السياسى .

1 ــ المشاركة السياسية الايجابية التى تتوخّى الخير والنفع هى واجبة وجوبا دينيا حتى يتحوّل المجتمع كله الى قوى حيّة ساعية للخير والنفع ، وليس مجرد أغلبية صامتة . المشاركة السياسية الجمعية تقوم بتنوير الأغلبية الساحقة وتجعل عقولهم تتحرّك وتثرى وعيهم بحقوقهم ، وتجعل لهم مكانة ووزنا ، بما يقى من شرور ( الاحتراف السياسى )

الاحتراف السياسى هو فنّ المنفعة ، أى الوصول الى مواقع السلطة وركوب أكتاف الجماهير بالخداع والتزوير والكذب والافتراء . لا فارق هنا بين أمريكا وبين دول العالم الثالث التى تسير فى أول سنة ديمقراطية . فى أمريكا يوجد رئيس للإدارة الأمريكية ، يخدم الشعب الأمريكى ، ويتنافس على هذا المنصب مرشحون فى الانتخابات ، كل منهم يظهر قدرته الأكثر على خدمة الشعب الأمريكى ، ولكن عينه على كرسى السلطة والقوة التى يعطيها له منصب الرئاسة . وفى هذه الحملات الانتخابية للرئاسة أو للكونجرس تجد كل المرشحين ملائكة ، أى  يظهرون أنفسهم ملائكة، وهذا كله خداع وتزوير ، ولو صدقناه فمعنى ذلك أن الشيطان قد قدّم إستقالته . الوضع فى مصر ودول العالم الثالث أشد سوءا ولا حاجة للشرح . يكفى مهرجان المناقب واللافتات التى نجعل المرشحين ملائكة تسير على قدمين ، مع أن معظمهم من الناحية الأخلاقية من حثالة المجتمع ومن تجار الدين ومن تجار المخدرات والأعراض والمفسدين فى الأرض .

2 ــ الأفظع هنا حين يرتبط الاحتراف الدينى بالاحتراف السياسى كما يحدث الآن فى مصر ، حيث طالت الذقون وتشعبت ، وإتّسع معها ركوب الاسلام وسيلة للوصول الى الحكم . والحكم فى مصر يعنى الاستبداد الظاهر الجلىّ أو الاستبداد المقنع .  الأمر يختلف عن أمريكا والديمقراطية الغربية العريقة . وبالتالى فإن أفظع الاحتراف السياسى هو السائد فى مصر لدى أصحاب الذقون السلفية . أولئك مكانهم السجون أو المصحّات العقلية ، ولكن سادوا فى عصر الفساد ، لأن الفساد لا ينتج سوى هذه الثمار السّامة .

3 ــ نحن أهل القرآن نساهم بالقدر الأكبر فى المشاركة السياسية . مساهمتنا هى بالتنوير والاصلاح ومقاومة الإحتراف الدينى والاحتراف السياسى ، ونعمل من أجل تحريك الأغلبية الصامتة لتسعى لحقها بالعدل وبالطرق السلمية ما أمكن . ونحن أهل القرآن نندّد بالاحتراف السياسى ، خصوصا إذا إرتبط باحتراف دينى ، يجعل الاسلام العظيم مطية لأرذل الناس  ليصلوا به الى التحكم فى السلطة وفى الثروة .

ثانيا :الايمان باليوم الآخر هو الفيصل هنا.  .
1 ــ دعنا نتخيل مصر وقد تخلصت من دكتاتورية العسكر والوهابيين السلفيين والاخوان وأصبحت تنعم بحياة ديمقراطية وانتخابات نزيهة المرجع فيها هو رضى الناخبين وأصواتهم . ثلاثة  قرر كل منهم خوض الانتخابات ودخول المعترك السياسى. أولهم محترف سياسى بلا توجّه دينى ( أى من الفلول مثلا )  ، الثانى ينتمى للدعوة الجاهلية أى يستخدم الاسلام سبيلا للوصول السياسى . الأخير مسلم ملتزم بالاسلام يقدره حق قدره ويراه أعظم من أن يؤخذ قنطرة للوصول الى مغنم دنيوى مهما كان.

ما هو موقع الايمان باليوم الآخر عند كل منهم فى سلوكه السياسى و فى حملته الانتخابية؟
2 ــ ( الفلول ) لا يؤمن باليوم الآخر أصلا .الدنيا هى كل همّه . منتهى أمله هوالوصول الى دائرة السلطة والثروة . وفى سبيل هذه الغاية لا بأس من استخدام أى طريقة مشروعة أو غير مشروعة حتى لو اضطر الى المراءاة بالصلاة والصيام ليخدع "أولئك المتخلفين " ويحوز رضاهم ، فالغاية عنده تبرر الوسيلة.
3 ــ صاحب الاحتراف الدينى والتدين السطحى المظهرى المنافق هو أبرع من يستخدم الدين فى خداعه للناس. يساعده فى ذلك ايمانه الزائف باليوم الآخر طبقا لما جاء فى أكاذيب كتب السّنة حيث مفتريات أحاديث الشفاعة وسهولة دخول الجنة بدون حساب،أو بمجرد نطق "الشهادتين" ، ومن كان فى قلبه مثقال ذرة من ايمان سيدخل الجنة"، وحتى ان سرق وان زنا فسيدخل الجنة ، وحتى لو دخل فى النار سيخرج منها بعد قليل بالشفاعة ويدخل الجنة. وبامكانه أن يطيح فى الأرض فسادا طوال عمره ثم يؤدى فريضة الحج بمال حرام وفى اسبوع واحد فيرجع كما ولدته أمّه مهما سرق ونهب وقتل . تلك الأكاذيب أو" الأحاديث النبوية بزعمهم " خير من يشجعه على اقتحام معترك السياسة بقلب جسور، فيكذب ، ويخلف الوعد، ويخدع الناس،ويتآمر، ويناور، ويخطط بالايقاع بالآخرين ، وربما يقتل من يقف فى طريقه بحجة أنه نصرانى كافر أو مرتد مستحق للقتل.  كل شىء فى شريعة دينه الأرضى جائز لأن الغاية عنده أيضا تبرر الوسيلة. والغاية لديه هى الوصول الى الحكم ليحكم بالشريعة.الشريعة هنا هى ليس ما قال الله تعالى فى كتابه وطبّقه رسوله محمد عليه السلام ولكنها ما كتبه الفقهاء ـ وهم بشر ـ ولكن أساطيرهم وخرافاتهم تصبح شريعة الاهية ، وتصبح أسفارها  ذات قدسية. فى سبيل تطبيقها يباح كل شىء .

4 ــ بعد هذين النوعين ( الملحد والمنتمى للدعوة الجاهلية صاحب الدين الأرضى ، يبقى لنا المسلم المؤمن بالقرآن وحده الملتزم بالاسلام فى سلوكه وأخلاقه ، ماذا سيفعل هذا المسلم الحقيقى الملتزم فى هذا المعترك السياسى ،أو هذا السيرك السياسى الذى يتصارع فيه الأفّاقون من فلول وإخوان وسلفيين ؟

 ثالثا ـ  المسلم الحقيقى هنا نوعان بالنسبة للإحتراف السياسى :
  1 : النوع الأول : مسلم عادى ليس مؤهلا لأن يكون داعية الا انه مخلص فى تطبيق الاسلام الحقيقى على نفسه، وقد دخل المعركة ليس باسلامه أو بشعارات دينية ولكن ببرنامج سياسى واقعى بدراسات وخطط ومشروعات. هذا المسلم الملتزم لا يستطيع منافسة غيره فى المعركة الانتخابية لأنها معركة تستخدم فيها كل الأسلحة السيّئة المعتادة ، ولكن دينه يقف حائلا بينه وبين استعمال الأسلحة التى يستعملها خصومه، لأنه لا يكذب ولا يخلف الوعد ولا ينقض الميثاق ولا يخدع ولا يظلم ولا يتهم احدا بما ليس فيه ولا يتآمر على أحد، ولا يمكن ان يستجلب رضى الناس بما يغضب رب الناس جل وعلا.
هذا المسلم الحقيقى يؤمن باليوم الآخر ايمانا حقيقيا ينعكس على سلوكه فى تقواه لله تعالى فى السر والعلن وفى تعامله مع الناس على أعلى مستوى من الخلق الكريم. هذه هى وسائله للوصول الى الغاية العظمى وهى الخلود فى الجنة والنجاة من النار. وهى غاية يهون من أجلها كل ما فى الدنيا من متاع زائل .
هذا المسلم الحقيقى يعلم علم اليقين أن الله تعالى لم يخلق الناس عبثا، وهو دائما يتذكر ما سيقوله رب العزة للخاسرين يوم القيامة حين يؤنبهم متسائلا :"( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ؟) المؤمنون 115). لذا يستعد لهذا اليوم بالتقوى فلن يدخل الجنة الا المتقون.
هذا المسلم الحقيقى لا يرضى لنفسه أن يعلو فى الأرض بالاستبداد السياسى وما يتبعه من فساد ، لأن العلو فى الأرض هى طريقة فرعون الذى علا فى الأرض ووصل الى ادعاء الألوهية ( القصص :4 &38 ) ولأن العلو لا يكون الا لله تعالى وحده ، لذا يقال له" جل وعلا" و"سبحانه وتعالى". أعداء الله تعالى الذين يستخدمون دينه فى تحقيق طموحهم السياسى والدنيوى يهدفون الى العلو بالزور والبهتان. ليس لهم نصيب فى الآخرة طبقا لقوله تعالى:"( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) القصص 83 )
النتيجة النهائية أنه – ذلك المسلم الملتزم غير الداعية – سينسحب من المعترك السياسى.
  2 : النوع الثانى: هو مسلم مؤهل للدعوة مشهور بها.
هذا الداعية للاسلام لا مكان له أساسا فى تلك المعركة الانتخابية. فالخصوم يتقربون للناس وينافقونهم ويوافقونهم طلبا لأصواتهم ، والناس عادة لا ترضى بالمصلح الدينى الحقيقى لأنها تستثقل ظله إذ  لا يتحدث الا فى السيئات ولا يحلو له الا التأنيب والوعظ ، اذن هو مقدما قد رسب فى الانتخابات قبل دخولها، والدليل أن الدعاة الآخرين – فى مجال دعوة الجاهلية - يتقلبون فى النعيم فى كل مكان، تراهم فى القنوات الفضائية يقدمون للناس ما يحبون ، مثل مطربى الكباريهات ومنتجى الأفلام والأغنيات الذين يتبعون منهج ارضاء الزبون ، لذا يمدحون الأسلاف ولا يتحدثون الا فى الايجابيات وكل ما يؤكد للمسلمين انهم عال العال وانهم خير أمة أخرجت للناس مهما ارتكبوا من آثام ، وانه طالما ينتظرهم النبى محمد بشفاعته فقد نجحوا فى الامتحان مقدما وضمنوا لأنفسهم الجنة مهما إرتكبوا من جرائم وآثام . أى يبيعون للناس الجنة وصكوك الغفران ، المطلوب من الناس فقط التبرع وشراء الفتاوى الجاهزة والمعلبة وحمل أولئك الدعاة فى القلوب وعلى الأكتاف والأعناق والظهور.هم يرون كل ما يحدث للمسلمين ليس سببه من المسلمين ولكن من تآمر ( أعداء الاسلام ) وبالتالى فلا حاجة الى الاصلاح لأن السبب آت من الخارج ولا علاج له إلا بهزيمة هذا العدو الخارجى : أمريكا واسرائيل والغرب ..والشرق أيضا .
صاحبنا الداعية للاسلام الحق الذى يريد إصلاح قومه سلميا بالاسلام لا يستطيع أن يجارى أساطين الدعوة الجاهلية الدينية فى هرائهم وفى خداعهم وبغيهم وجرأتهم على الله جل وعلا وإستخدامهم إسمه العظيم مطية لوصولهم للسلطة والثروة . كما لا يستطيع أن يجارى خصومه الآخرين فى إحترافهم السياسى القائم على الاحتيال وخداع الناس. 
لذا لا طريق أمامه الا الدعوة الاسلامية الاصلاحية وفق شروطها وآدابها . وهذا موضوع آخر .

اجمالي القراءات 11960