حتى لا يخدعنا الصهاينة والمتصهينون الجدد
مملكة داود وسليمان العبرية أو هام لا نهاية لها
لاهوت حتمية تكرار العصر الذهبى
أحمد عزت سليم
عضو اتحاد كتاب مصر
وعضو لجنة الإنترنت بالاتحاد
وعضو آتيليه القاهرة للكتاب والفنانين
رغم وجود أكثر من 300 موقع تقوم فيها البعثات الأثرية بأعمال الحفر، في " إسرائيل " والضفة والقطاع ، لم يتمكن الأثريون من العثور على أى دليل أثرى يؤكد أوحتى يشير إلى مملكة داود وسليمان في فلسطين ، كما لم ترد أية إشارة لهؤلاء الملوك في المصادر التاريخية وأكد ذلك كله كذب المزاعم التوراتية بوجود مملكة إسرائيلية متحدة أيام شاؤول وداود وسليمان ، وأنها روايات أسطورية لا تعبر عن الأحداث التاريخية الحقيقية . وتبين الآن أن قصص التوراة تضمنت أحداثا تاريخية لشعوب وممالك أخرى في الشرق الأوسط، تم اقتباسها لتكون جزءا من تاريخ مملكة بني إسرائيل ، فقد استعار كتبة قصة داود الرواية المتعلقة بتكوين تحتمس الثالث للإمبراطورية المصرية بين النيل والفرات قبل عصر داود بخمسة قرون ـ ونسبوها إلى ملكهم وكما يؤكد ويبين باحث المصريات الكبير العالم أحمد عثمان : لا تزال تفاصيل المعارك التي استعارها الكهنة لقصة داود بني إسرائيل ، مسجلة حتى أيامنا هذه على جدران معبد الكرنك وفي سجلات حروب تحتمس الثالث . ونحن نجد هنا صدى لأهم معركة خاضها تحتمس الثالث ـ عام 1468ق . م ـ عندما تجمع 350 ملكاً بجيوشهم لمحاربته ، عند حصن "مجيدو" بوسط كنعان ، وصار اسم هذه المدينة في اللغة ، منذ ذلك الوقت هو "المجد"، تعبيرا عما حققه الملك المصري في هذه المعركة من أعلى درجات الانتصار . ولا عجب في هذه الحالة لو وجدنا أن هذه المعركة نفسها ، هي التي اختار كتبة سفر صموئيل الثاني اقتباسها لصالح داود بني إسرائيل . كان ملك "قادش" التي كانت تقع في منتصف الطريق بين دمشق وحمص في شمال سورية ، تزعم تحالفا من ملوك سورية وكنعان في حركة تمرد على السلطة المصرية . وخرج تحتمس الثالث بجيشه من مدينة "زارو" الحربية عند القنطرة شرق وسار في "طريق حورس" بشمال سيناء متجهاً إلى كنعان . ووصل الملك إلى مدينة غزة بعد عشرة أيام ، وهناك احتفل بعيد جلوسه الثالث والعشرين . وكانت المعلومات التي وصلت إلى القيادة المصرية تفيد بأن ملك قادش جمع عدداً كبيراً من ملوك سورية وكنعان ، عند مدينة"مجيدو"بوسط كنعان وهي أكبر مدينة محصنة في البلاد . سار تحتمس بجيشه في "طريق البحر" حتى وصل عند سلسلة جبلية وعرة ، كان لا بد من عبورها للوصول إلى مجيدو التي تقع عند الجانب الآخر للجبال ، وكانت هناك ثلاث طرق تؤدي إلى المدينة ، واحدة تقود إلى شمال غربي مجيدو والثانية إلى جنوبها الشرقي ، أما الثالثة والتي تقود مباشرة إلى جنوب المدينة فكانت ضيقة ووعرة . فاختار الملك أصعب الطرق الذي يمر وسط الجبال ، وفوجئ خصومه عندما ظهر الملك أمامهم على رأس جيشه ، فأسرعوا بدخول المدينة والاحتماء بها . وبعد حصار دام حوالي ستة أشهر ، سقطت مجيدو أمام تحتمس ، إلا أن زعيم التمرد ملك قادش تمكن من الهرب . فسار تحتمس إلى قادش في شمال سورية ، التي استولى عليها قبل أن يعبر نهر الفرات ليقيم لوحته في جنوب بلاد الاناضول وكما هو واضح ، فإن هذه الأحداث ليست لها علاقة بقصة داود بني إسرائيل ، وإنما تتفق مع أخبار حروب تحتمس الثالث كما وردت في المصادر التاريخية المصرية . هكذا تم السطو على التاريخ الإنسانى وتزييفه وانتقل فى العصر الحالى إلى " الدولة الصهيونية " لتسعى جاهدة فى سرقة الآثار من التوابيت والأحجار والتماثيل ونقلها إلى متاحفهم لتكون ذريعة لتأكيد للعودة وإقامة الإمبراطورية اليهودية بإعادة مملكة داود وسليمان المزعومة المتمثلة فى "الدولة الصهيونية " وانطلاقا من لاهوت حتمية تكرار العصر الذهبى ، ففى إعلان قيام "دولة إسرائيل" عام 1948 نص على " إعادة إنشاء الدولة اليهودية " Re–establishment of The Jewish Stateانطلاقاً من هذه المزاعم العنصرية التى تدعى أن إعادة إنشاء الدولة ما هو إلا " إعادة بناء لمملكة داود " والتى يُدعى أنها كانت العصرالذهبى للتاريخ الإسرائيلى الذى تحقق فيه " أعلى درجات التطور السياسى ويميز إسرائيل عن غيرها باعتبارها دولة مستقلة ذات سيادة لا تخضع للسيطرة الاستعمارية (1) وكما يرى أولبرايت أن إسرائيل هذه هى مرأة عاكسة لإسرائيل المعاصرة ( 2) أو على حد تعبير جورج إنست رايت " إنها كيان فريد مفصول بشكل حاد عن محيطة الوثنى إلى درجة أنه لا يمكن فهم هذا الكيان بشكل كامل فى السياق التطورى أو البيئى ... وأنها تحول فجائى بفعل إلهى وليس نتيجة حادثة عرضية فى التاريخ " ( 3 ) وذلك بناء على ـ وطبقاً لرأى رايت ـ أن الحضارة والديانة الكنعانيين كانتا أضعف و أحط وأكثر الثقافات اللاأخلاقية التى عرفها العالم المتحضر آنذاك وهكذا فإنه يعتقد : أن إسرائيل كانت الواسطة الإلهية فى تدمير حضارة فاسقة إذا أنه ضمن النظام اللاأخلاقى للحضارات السماوية يجب تدمير مثل هذا الفجور الفظيع ، ومن ناحية أخرى فإن هناك غاية إلهية من وراء اختيار إسرائيل للقيام بهذه المهمة وبإعطائها تلك الأرض، وهذه الغاية موضحة فى الوعود الإلهية لآباء إسرائيل كما فى سفر التكوين ، (4 ) وهكذا ــ على حد رأيه ــ فإن احتلال فلسطين لا يشكل معضلة لأن هذا فى واقع الأمر هو جزء من الخطة الإلهية (5) ويتفق غونفالد مع مندنهول على " أن عقيدة يهوه إله إسرائيل هى التى جعلت من إسرائيل حالة فريدة (6 ) .
تصير هذه الإقامة الإلهية فى سياق الزمن والتاريخ مبرراً لوجود "إسرائيل" فما هى إلا إعادة بناء للدولة اليهودية وأن هذا السياق التاريخى أو السرد التاريخى كما يقول هومى بابا مرتبطاً بشكل وثيق بحقائق الحاضر ويؤدى إلى استبعاد تمثيلات أخرى محتملة للماضى أو أى تصرف مختلف له (7 ) وهكذا تصبح هذه الدولة هى فرضاً على تاريخ المنطقة لا يتفسر وجود المنطقة إلا بوجود هذه الدولة ، وكما أن هذه الدولة ـ بهذا الزعم ـ إمبراطورية " إذ كان داود سيدا على إمبراطورية مترامية الأطراف ، وهنا يتكلم برايت عن " إمبراطورية " تضم عمون ، وسوريا فى الشمال وأدوم ومؤاب فى الشرق ، حتى أن برايت يستنتج أن فتوحات داود حولت " إسرائيل بشكل مفاجئ تماماً إلى أكبر قوة فى فلسطين وسوريا، بل فى الواقع ، ربما كانت إسرائيل فى تلك اللحظة لا تقل جبروتاً عن أى قوة عظمى فى عالمها " (8 ) ويزعم نوث ـ مضيفاً إلى ذلك ـ أصبحت المملكة برمتها بنية سياسية شديدة التعقيد وكبرت إلى أبعد كثيراً من حدود الدولة الإسرائيلة البحتة لقد أصبحت إمبراطورية فلسطينية ـ سورية ، اتحدت بشخص الملك وضمت شعوباً عديدة مختلفة ، إن نظام داود السياسى كان أول قوة عظمى مستقلة فى الأراضى الفلسطينية كما نعرفها ، وقد ضمت بشكل مباشر أو غير مباشر معظم فلسطين وسوريا : وكانت ظاهرة هائلة من وجهة نظر التاريخ العالمى ، وفى الواقع كانت إنجاز شخص واحد ذكى وناجح بشكل غير عادى ، كان الوضع التاريخى العام فى الشرق فى مصر ومابين النهرين فى مصلحة داود ، إذ لم يكن هناك أية قوة أخرى أكبر منهما تستطيع أن تعتدى على فلسطين وتفرض هيمنتها عليها . " (9) وكما يرى أيضاً إنها تعتبر عنصراً أساسياً فى النظام الإلهى السرمدى ، والمملكات الفعلية فى يهوذا وإسرائيل كانت جزءاً من ــ هذا ــ النظام العالمى والسرمدى الثابت (10) .
ويصل الأمر أن يرى فون راد أن هذا العنصر الذهبى قد " أنتج للمملكة العبرية أعمالاً تاريخية أصلية ، لم يكن بمقـدور أى حضارة فى الشرق الأدنى القديم الإتيان بمثلها، حتى أن الإغريق لم يتمكنوا من الوصول إلى مثلها إلا فى ذروة تفوقهم فى القرن الخامس الميلادى .... ويرجع التفوق وإثارة الدهشة لهذا العصر عما عاداة فى كل الحالات التاريخية إلى وجود قدرات فطرية ... تحققت بشكل مستقل وناجح تماماً منذ البداية (11) وتذهب مايرز إلى أن الدراسات الاجتماعية العلمية حول الإمبراطوريات تظهر أنه " ينبغى علينا وضع دولة داود فى فئة الأمبراطورية السابقة للامبراطوريات الحديثة Per-modern empire ، أى أنها دولة تتجاوز حدودها القومية ، لها بيروقراطية مركزية ، ويحكمها ملك يستند إلى شرعية تقليدية مقدسة " (12) ويرى فينكلشتاين أن نشوء هذه المملكة الإسرائيلية قد أنشأ للمرة الأولى كيان سياسى محلى مستقل فى فلسطين ، على شكل دولة وطنية تضم شعباً له هويته الخاصة ولها هويتها الدينية و أيديولوجيتها الخاصة لها " (13) ويضيف بلاكستون إلى كل هذه الأوهام والمزاعم ، أن فلسطين هى وطن اليهود " حسب توزيع الله للأمم ، وهى ملكهم الذى لا يمكن تحويله لغيرهم والذين طرودا منه عنوه لقد كانت أرضاً مثمرة بفضل فلاحتهم لها ، وكانت تعيل ملايين الإسرائليين الذين كانوا يقلمون سفوحها ووديانها بكل نشاط ، كانوا مزارعين ومنتجين ، كانوا أمة عظيمة ذات أهمية تجارية كبرى ـ مركز الحضارة والدين (14) ، وهكذا يرى الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر فى حديثة إلى الكنيست عام 1979 قائلاً " لقد أقام الرواد وأقوام تجمعوا فى كلا الشعبين من دول شتى "إسرائيل" والولايات المتحدة ـ شعبى كذلك أمة مهاجرين ولاجئين ... إننا نتقاسم حقاً ميراث التوراة ، .. وكان يرى ـ كرئيس ـأن دولة "إسرائيل" هى أولاً وقبل كل شئ " عودة إلى الأرض التوراتية إلتى أخرج منها اليهود منذ مئات السنيين .. وأن إنشاء " دولة أسرائيل " هو إنجاز النبوءة التوراتية وجوهره (15) .
وهكذا تصبح "دولة إسرائيل" التى تم إعادة بناءها نظاماً ثيوقراطياً يستند على التفويض الإلهى والأمر الذى يدعو إلى امتلاك الأرض ثم هو يجعل من الشعب يعيش كمركز للعالم على ما يعتقد والعالم الذى حوله هو ضده مركز يبث إلى خارجة ولا يُيث من الخارج إليه بحكم العزلة التى دعا الإله منها الشعب إلى دولته ، حتى تحولت هذه الأفكار الثابتة إلى " العصاب " الذى يتفجر فيه الخوف من الاندماج والقلق والاندفاعات العنصرية ضد الآخرين والممارسات القمعية والتطرف ومن هنا تحرص كل القوى الصهيونية الأرثوذكسية على جعل " إسرائيل " أكبر قوة عسكرية فى المنطقة تحقيقاً لهذه الدولة الثيوقراطية المسيانية التى وجودها حق أوجبه الإله على الأرض قاطبة فأرض " إسرائيل " كما جاءت فى التوراة هى الرمز الرئيسى للصهيونية ولكل يهودى مهما أدعى علمانيته فقوام " الدولة " توراتى وهويتها يهودية وقوميتها أيضاً كذلك ( كما جاء فى قانون تجديد الهوية عام 1985 بأنها دولة يهودية ) لتصير الأداة التنفيذية لأوامر الرب فى العالم .
فى البديات وجد الباحثون صعوبة فى الاتفاق بينهم على الفترة الأثرية التى تتوافق مع عهد الأجداد، متى عاش إبراهيم وأسحَق ويعقوب ؟ متى تم شراء مغارة المكفيلة واستخدمت كقبر للأباء والأمهات ؟ بناءً على التسلسل التورانى أقام سليمان الهيكل المقدس بعد 480 سنة من الخروج من مصر ( ملوك أول ) ولكن يجب أن تضاف إلى ذلك 430 سنة أخرى من المكوث فى مصر وكذلك فترة التواصل العمرية الطويلة للأجداد لتصل إلى تاريخ القرن الحادى والعشرين قبل الميلاد الذى هو تاريخ هجرة إبراهيم إلى كنعان . ولم تظهر فى الحـفريات الأثرية أية دلائل قادرة على تأكيد هذا التسلسل (16) وقد حاولت أجيال من الباحثين وصف موقع جبل سيناء ومحطات وقوف أسباط إسرائيل فى الصحراء ورغم الأبحاث التى تم تبينها، إسرائيل فى الصحراء ، إلا أنه لم يكتشف أثر واحد يمكنه أن يتلائم مع الصورة التوراتية (17) .
وتعتبر حكاية احتلال البلاد من أيدى الكنعانيين إحدى الدعائم الأساسية لشعب إسرائيل فى التاريخ الجغرافى التوراتى ... وقد خيبت الحفريات المتكررة التى أجرتها البعثات المختلفة فى أريحا وعلى المدينتين اللتين وصف احتلالهما بشكل مفصل جداً فى سفر يشوع الأمال بشكل شديد واتضح رغم جهود التنقيب أنه فى أواخر القرن الثاث عشر وفى آخر العهد البرونزى المتأخر . وهى فترة متفق عليها كفترة الاحتلال، لم تكن فى هذين الموقعين أية مدن ولم تكن بالطبع أسوار يمكن إسقاطها . (8 1) وقد اقترح الباحثون التوراتيون منذ عشرين سنة اعتبار حكاية الاحتلال هذه أسطورة حيث اتضح أن المواقع الاستيطانية قد دمرت أو هجرت فى فترات زمنية مختلقة وتعزز الاستنتاج بأنه لا يوجد أساس يقوم على الحقائق لحكاية التوراة حول احتلال " أرض إسرائيل " على يد أسباط إسرائيل فى إطار حملة عسكرية بقيادة يشوع . (91) وإضافة إلى ذلك فإن الروايات التوراتية لاتعترف بالواقع الجيوسياسى فى أرض كنعان التى كانت خاضعة لحكم مصر أواسط القرن الـ 12 قبل الميلاد، وأشرف المصريون على حكمهم هذا للبلاد من خلال مراكز إدارية أقيمت فى غزة ويافا وبيسان ، وظهرت المكتشفات المصرية أيضاً فى مواقع كثيرة على جانبى النهر، ولم يذكر هذا التواجد البارز فى روايات التوارة ، ومن الواضح أنها لم تكن معروفة لمؤلف الروايات التوراتية ومحرريها (20) .
أن " المكتشف الأثرى يناقض بوضوح الصور التورتية فمدن كنعان لم تكن محصنة ولم تكن رؤوسها فى السماء ( كما ورد فى التوراة ) ، " بطولة " المحتلين والأقلية فى مواجهة الأكثرية ( اليهود ويشوع ضد الكنعانيين ) وتخليص الإله الذى قاتل إلى جانب شعبه ، ماهى إلا بدعة لاهوتية وليس لها أساس من الحقيقة (21) . ويرى ليتش أن التوراة العبرية باعتبارها نصاً مقدساً ليست مرجعا ولاتعكس بالضرورة الحقائق التاريخية ، بل أن التوراة ، فى نظره ، تبريرا للماضى يكشف عن عالم القصص الخيالية أكثر مما يكشف عن أى حقيقة تاريخية (22 ) .
كما صرح غارينى وليتش وفلاناغن أن الغياب لأى صرح سجل أثرى هو الذى يعتبر أخطر الشكوك حول تصور إمبراطورية إسرائيلية كانت تعبيراً عن حضارة نهضوية مجيدة مما يوحى بأننا بصدد ماضى متخيل، إن اى فكرة لها معنى معقول عن إمبراطورية داود، وتحقيق " إسرائيل الكبرى " التى تصور باستمرار على أنها أستثناء فى تاريخ المنطقة ويوصف بأنه غير مجرى التاريخ البيروقراطى للحضارة المحيطة أو أن تترك شواهد ملموسة فى الآثار المادية بالمنطقة (23) . كما صرح غارينى وليتش وفلاناغن أن الغياب الأ ثرى لأى أثر هوالذى يثيرأخطرالشكوك حول تصور إمبراطورية إسرائيلية كانت تعبرعن حضارة نهضوية مجيدة مما يوحى بأننا بصدد ماض متخيل ، إن أى فكرة لها معنى معقول عن إمبراطورية داود ، وتحقيق " إسرائيل الكبرى " التى تصور باستمرارعلى أنها استثناء فى تاريخ المنطقة ويوصف بأنه غير مجرى التاريخ ، لا بد أن تكون قد وجدت ما يؤيدها فى الإنتاج البيروقراطى للحضارة المحيطة أو أن تترك شواهد ملموسة فى الآثار المادية بالمنطقة (24)
إن السمات الثلاث الأساسية للإمبراطوريات هى الهيمنة والأرض والمكاسب ... وهذه العوامل الثلاث قد تضافرت فى حالة فلسطين فى تحديد السبب الذى جعل الوجود الإمبريالى فى فلسطين عاملاً دائماً إلى هذا الحد ، (25) وفى هذا الشأن، يذكر كوت ووايتلام أن ضعف البنى التحتية لفلسطين بالمقارنة مع جيرانها أصحاب الحضارات النهرية الكبيرة كان عاملاً دائماً فى خضوعها للقوى العظمى الخارجية ... فلم تستطيع فلسطين ببساطة منافسة الاقتصاديات النهرية والتفوق السكانى فى مصر وبلاد ما بين النهرين وكذلك فإن المزايا الطبيعية التى تمتعت بها هضبة الأناضول والهضبة الفارسية وفيما بعد أوربا متمثلة فى اليونان وروما كانت هى التى هيمنت على فلسطين ، فلم يكن بمقدور منطقة ذات بنى تحتية ضعيفة مثل فلسطين أن تنافس القوى المعاصرة ، فى وقت ظل فيه الإنتاج الزراعى والوضع السكانى عاملين أساسيين فى دينامكية القوى العالمية ويجب أن يفهم الماضى المتخيل لأمبراطورية داود فى ضوء هذه الحقيقة الجوهرية (26) فقد افتقرت فلسطين إلى القاعدة السكانية والاقتصادية التى تتيح لها منافسة القوى العظمى فى العالم القديم (27) .
وقد أظهرت الاكتشافات الأثرية فى مواقع كثيرة أن حركات البناء التى تحدثت عنها التوراة فى هذه الفترة كانت شحيحة وقليلة (28 ) ، ولم تكتشف فى عهد المملكة الموحدة ( حتى حسب التوثيق الذى يحظى بالإجماع ) آثار لمبانى ولم تكتشف فقط إلا مجموعة من الأوانى الفخارية ... وعلى ضوء هذه الآثار المحفوظة من العهود السابقة واللاحقة أصبح واضحاً أن القدس فى عهد سليمان كانت مدينة صغيرة ، وربما كانت لها قلعة ملكية صغيرة ، إلا أنها لم تكن بأى شكل عاصمة الإمبراطورية الموصوفة فى أسفار التوراة ، حيث حرف مؤلف الوصف التوراتى القدس فى القرن الثامن عشر قبل الميلاد بأسوارها وآثارها الغنية التى حفرت فى أجزاء المدينة المختلفة عكست الصورة المتأخرة لعهد المملكة الموحدة ، وقد حظيت القدس بمكانتها المركز بعد دمار السامرة خصمها الشمالى فى عام 722 قبل الميلاد ، وإذا اندمجت المكتشفات الآثرية بشكل جيد فى استنتاجات الباحثين التوراتيين الانتقاديين فإن داود وسليمان كان حكام مماليك قبلية تضم مناطق صغيرة الأول فى الخليل والثانى فى القدس وفى المقابل بدأت تنظيم مملكة منفصلة فى جبل السامرة تجد تعبيرها فى الرواية حول مملكة شاؤول، وكانت مملكتى إسرائيل ويهوذا من البداية مملكتين منفصلتين مستقلتين ، وفى أحياناً كثيرة كانتا متخاصمتين ، ومن هذا كانت المملكة الموحدة الكبرى اختراعاً تاريخياً جغرافياً مبتدعاً دمر فى أواخر عهد مملكة يهوذا ، وربما كان البرهان الحاسم على ذلك ، هو حقيقة ، أننا لا نعرف اسم هذه المملكة، وإلى جانب الاختيارات السياسية تثار أيضاً شكوك حول مصداقية المعطيات حول العقيدة والعبادة (29) .
كما أن داود لم يستطيع أن يسيطر ديموغرافياً وعسكرياً على كامل مدينة أورشاليم التى تفصل بين قبائل الجنوب وقبائل الشمال وبقى محصوراً بالأبنية المهجورة أصلاً فى حصن صهيون اليبوسى ، ( نقد النص التوراتي ج1 ص 290 ـ (30) . وتتضح دلائل الكذب والوهم من فشل المحرر ( التوراتى ) فى أن يزاوج وينسق بين الروايات المختلفة بشأن كل القصص التى كانت ترد بنمطين وروايتين مختلفتين للحادثة نفسها وعلى سبيل المثال لا الحصر ــ فقد ورد فى أخبار الأيام الأول : 21 " ودفع داود لأرنان عن المكان ذهباً وزنة ست مئة شاقِل " أما فى صموئيل الثانى : 24 " فاشترى داود البيدر والبقر بخمسين شاقلاً من الفضة ".
وأيضاً جاء فى أخبار اليوم الأول 9 " وكان لسليمان أربعة آلاف مذود خيل " أمافى سفر الملوك الأول 5 " وكان لسليمان أربعون ألف مذود خيل" وكل التاريخ التوراتى يمكن اعتباره يشكل مجمل عملية تضخيمية مشابهة لتضخيم الأربعة آلاف مذود ( العدد المضخم أصلاً ربما عن رقم أربع مئة مذود ، أوحتى أربعون مذود ) إلى أربعين ألف مذود (31) .
ويمكن أن نضيف أن حدود دولة إسرائيل الشمالية لم تكن تضم الجليل الأعلى الذى كان تحت حكم ملك صور وبالتالى فإن أسباط أشير ونفتالى وزبولون ودان الذين حسب التوراة ينتشرون فى الجليل الأعلى هم تحت سيادة ملك صور ، وقد جاء أن الملك حورام ملك مدينة صور أرسل لسليمان الصائغ ( حيرام أبى ) ابن امرأة من بنات دان وأبوه رجل صورى ( وفى الملوك الأول جاء أنه ابن امرأة أرملة من سبط نفتالى وأبوه رجل صورى) . وهذا يشير إلى أن الدانيين قد تفاعلوا وتعايشوا وتزاجوا مع الفينيقيين وهناك أيضاً بعض الأسباط الأخرى التى لا يرد لها أى ذكر ، ومن خلال القرأة المتأنية نستنتج أن المملكة الموحدة إن كانت قد تشكلت فلم يكن لها أى سيطرة جغرافية إلا على بعض المستوطنات على الجبال الجرداء جنوب أورشليم هذا حسب المقولة التوراتية . ( 32) وقصة زواج سليمان من ابنة فرعون التى أراد محررو التوراة أن يعلوا من شخصية سليمان ، فقد قاموا أيضا ــ ودون روية وكدليل على التلفيق ــ بتقزيم إمبراطورية سليمان التى أتى ذكرها فى التوراة على أنها تمتد من الفرات إلى النيل، بحيث بدت صغيرة إلى درجة أن سليمان لم يكن له سيادة على قرية صغيرة على بعد 17 كم من عاصمة ملكه هى قرية جازر والتى قام فرعون صهر سليمان باحتلالها ، وقدمها مهرا لابنته (33) ، وكما يزعمون .
ومن الناحية الأخلاقية المزعومة التى أسس إليها النظام الألهى السرمدى فعلى العكس من ذلك الزعم جعلت التوراة من داود ( وسليمان ) من خلال سيرته أحط وأخس القادة العبرانيين ولم يتركوا موبقة لم يلصقوها به ، فصوروه على أنه شخصية أنانية بلا أخلاق، نفعية بلا مبادئ، رئيس عصابة مرتزقة كانت تقوم على السطو والسلب والنهب والقتل ، وعلى دفع الإتاوات، وقد تحالف مع أعداء شعبة ( الفلسطينيين ) ضد شعبه دون سبب أخلاقى ، وهو غدار بحيث أوصى أبنه سليمان بعد أن عينه ملكاً على إسرائيل من بعده ، بقتل قائد جيشه وصانع أمجاد إسرائيل يؤاب بن صروية الذى أخلص له طوال فترة حكمه ، كما أوصاه بقتل شمعى الذى كان قد عفا عنه فى أواخر أيامه ، كما زنى بامرأة أوريا الحثى أحد قادة جيشه المخلصين أيضاً ثم تآمر على قتله ، بطريقة مفضوحة، وحمله رسالة موته ، كما أنه لم يتورع فى قتل بعض أزواج النساء من أجل المال ، وذلك من أجل نزواته الجنسية ، وانغماسه فى عالم النساء ، وقد تغلبت فيه الشهوة على الأخلاق والحكمة والضمير ، بحيث استطاع الشيطان أن يغويه " ووقف الشيطان ضد إسرائيل وأغوى داود ليحصى إسرائيل " ( أخبار الأيام الأولى 21 ) كما أن المحرر التوراتى حاول أن يوحى للقارئ أن داود كان على علاقة جنسية شاذة مع ابن شاؤل يونثان ، فقد رثا داود يوناثان عندما قتل بقوله " كنت حلواً لى جداً . محبتك لى أعجب من محبة النساء " ( صموئيل) ، أو على العكس قام المحرر التوراتى بحزف أو إسقاط ما يؤكد هذه العلاقة . وكان داود قد رثا يوناثان ودونت تلك المرثاه فى سفر ياشير الذى تم إسقاطه ، وليس من المستبعد أن يكون هذا السفر قد حذف من الكتاب المقدس لأنه يظهر بجلاء هذه العلاقة الجنسية الشاذة ــ على حد رأى الدكتور إسماعيل ناصر الصمادى (34) .
وعلى الرغم من أن محررى التوراة قد استبعدوا حق البكورية ، والملكية من كل رجل ليس ذا دم عبرانى صاف منذ إبراهيم حتى القضاة ومنهم إسماعيل بكر إبراهيم ، وعيسو بكر اسحق ، حاولوا أن يظهروا ويؤكدوا دون مسوغ أن داود وسليمان من بعده من أصل زنا ، وذوى دماء خليطة حتى قاموا بدس سفر راعوث فى مرحلة لاحقة على ذلك، كما أعادوا نسبه إلى سلالة اشتهرت بالأعمال الجنسية المشينة ، فهو من أحفاد يهوذا من كنته ثومار ( زوجة عير ابن يهوذا ، وزوجة ابنه الثانى أونان ) ، وقد حملت ثومار من يهوذا سفاحاً وولدت له توأمين هما فارص ، وزراح ، ومن ابن الزنا فارص انحدر داود ، أما جدته فكانت راعوث الموآيية التى زنت مع بوعز قريب زوجها الذى كان قد مات ، ومن ثم تزوجها ، أى أن فى عروقه دم أجنبى ، كما يعتقد بعض اليهود أنه ابن زنا ، اعتمادا على ما جاء فى المزامير ، قوله " بالخطيئة حبلت أمى " مزمور 51 " (35) .
فإذا أضفنا إلى ذلك أن المملكة المزعومة سواء فى عهد داود أو سليمان لم تعرف الاستقرار السياسى ، كما يبين النص ، متهالكة من الداخل إلى الدرجة التى يصير فيها الأب داود مختبئاً فى إحدى الحفر أو أحد الأماكن ( صموئيل 17 ــ 9) أو قد يكون مختبئاً فى بئر ( صموئيل 17 ــ 9 1) فكيف يكون لهذا الملك الخائف المختبئ أن يقيم إمبراطورية ، وليس هناك أدل على هذا التهالك والتفتت والصراع ما حدث لسرارى داود ــ والمفترض أنه الملك ــ على يد إبنه ، أبشالوم ، فقد نصب الشعب ، " الشعب " !! خيمة له على السطح ليدخل إليهم ، وأمام من ؟ أمام " الجميع " جميع إسرائيل ( صموئيل الثانى 16 ـ 22 ) ، فكيف حسن هذا الفعل فى عيون هذا الشعب ، الذى يتهم الآخرين بأنهم " أحط وأكثر الثقافات اللا أخلاقية التى عرفها العالم المتحضر " فهل هناك أحط من هذا مثلاً ؟ ! ، والأمثلة كثيرة ، فلقد استجاب الأبن لدعوة أختيوفل لاستغلال ضعف أبيه " الملك " داود وقتله أمام جميع شيوخ إسرائيل ( صموئيل الثانى 17 ـ 1 / 4 ) .
ويفضح يوآب عدم تمتع داود بالحكمة والدهاء السياسيى ونبهه إلى خطورة ذلك عندما قتل أبشالوم على يد أعوانه " لقد أخزيت اليوم وجوه جميع عبيدك منقذى نفسك اليوم وأنفس بنيك وبناتك وأنفس نسائك وأنفس سراريك بمحبتك لمبغضيك وبغضك لمحبيك لأنك أظهرت اليوم أنه ليس لك رؤساء ولا عبيد لأنى علمت اليوم أنه لو كان أبشالوم حياً وكلنا اليوم موتى لحسن حينئذ الأمر فى عينيك " ، وليس هناك أدل على الصراع الذى امتلأت به هذه المملكة المزعومة من النص نفسه ( كما فى صموئيل الثانى 19 ـ 9 ) والذى يقول فى وضوح صريح " وكان جميع الشعب فى خصام فى جميع أسباط إسرائيل " .
وصور لنا هذا السفر باختصار حالة الملك النفسية على لسانه ذاته " أمواج الموت اكتنفتنى ، سيول الهلاك أفزعتنى ، جبال الهاوية أحاطت بى ، ُشرُك الموت أصابتنى " (صموئيل الثانى 5 ) ، وكيف يستطيع ملك مثل داود أن يبنى حضارة راقية لا مثيل لها وأن يكون مثالاً وأنموذجاً للتضحية وقد أهلك من شعبه من دان إلى بئر سبع سبعين ألف رجل واختار أن ينجو بنفسه ولا يقع فى يد أعدائه فاختار أن يصاب شعبه بوباء فى جريمة هو ذاته قد ارتكبها وهى إحصاء الشعب ، ياله من ملك عاشت بلاده الجوع فى أيامه ثلاث سنين ، سنة بعد سنة وتآمر على أبناء شعبه ليس بالوباء فحسب ولكن بتسليمهم إلى أعدائه كما فعل وسلم سبعة من ورثة الملك شاول ، الذى أكرمه ليصلبهم الأعداء وأمام من ؟ أمام الرب !! ، ويالها من علاقة ذات دلالة قوية تلقى بكثير من المكنونات والدلالات البنائية وليست البلاغية والتى تبيح بها عبارات " فسقط السبعة معاً وقتلوا فى أيام الحصاد فى أولها فى ابتداء الشعير " ( صموئيل الثانى ) وهى :
أولا : توضح المباركة الإلهية لتسليم داود أبناء شعبه إلى الأعداء ليقتلولهم ، ومع حصدهم بأيدى أعدئهم يكون أول الخير، حصد الشعير فيستجيب الرب وينقشع الجوع .
ثانياً : تبين الحجم الحقيقى للتأثير الفعلى ــ للملكة المزعومة ــ على من حولها من الشعوب الآخرى والقوى المعادية لها والتى تحكمت فيها بالحصار وإجبارها على تسليم أبناء الشعب ليقتلوا ويصلبوا علنا .
ثالثاً : على مدى تآمر داود مع أعدائه للتخلص من ورثة الملك الحقيقيين ليحافظ على عرشه المزعوم وكيف كان ينظر إلى أبناء الـ " جميع " ( الشعب ) .
رابعاً : اختراع القصص الإلهية لتبرير التخلص من أعدائه الذين يهددون العرش .
خامساً : كيف حرص مؤلفوا النص تبرير وصول الملك لداود الذى ترجع أصوله إلى آدم وإبراهيم ، إلى العرش .
وطوال أربعين سنة حكمها داود لم تعرف المملكة ـ إن صح أنها كذلك ــ غير الصراع والخصام والتفكك بين أفرادها، بين إسرائيل و يهوذا ، وبين الشعوب الأخرى ، ولما شاخ داود ، لم تكن هناك المؤسسات التى تتولى نقل السلطة فى إطارها الطبيعى من خلال آليات متعارف عليها ، لوكانت ـ حقيقية ـ مملكة مستقرة كما يزعم المزيفون ــ ولكن سرعان ما بدأ الصراع فى أواخر حياته وبدأ سليمان التخلص وقتل أخيه بحجة أن الأخير طلب أبيشج إمرأة أبيه لنفسه ، رغم أن هذا مرفوض فى الديانة ، وهذه الحادثة إن دلت فإنما تدل على عدم وضع الديانه المستقر داخل الأسرة الحاكمة التى من المفترض أنها تحمل محبة الرب وتعمل بها على حماية عهده ، بل هى مكلفة بذلك طبقاً للنص ، فضلاً إن لم تكن حيلة من سليمان للتخلص من أخيه وكذلك من مؤلفى النص لتبرير جريمة سليمان الشنعاء وحيلة لتبرير وصولة للملك .
ولا نجد فى سفر الملوك الأول غير العبارات الإنشائية عن مملكة سليمان المتسلطة على جميع المماليك من النهر إلى أرض فلسطين وتخوم مصر ، وكيف فاقت حكمة سليمان جميع بنى المشرق وكل حكمة مصر ( الملوك4 ـ 21 / 30 ) ، بل بلا مقدمات من بيت اكتظ بالصراع ومملكة مفتتة قتل حاكمها أهلها بيد الأعداء ، يصاهر سليمان فرعون لم يذكر اسمه ــ وأخذ بنت ذلك الفرعون وأتى بها إلى مدينة داود ( ملوك الآول 3 ) هكذا بلا أية مقدمات ولا مؤخرات لهذا الزواج ، ولم يبين لنا النص كيف كان هذا التسلط ولا كيف كانت هذه الحكمة التى فاقت حكمة مصر ، إلا أنها أثار الحقد على الخروج من مصر ، ومُلك سليمان بناه خبراء أجانب من الممالك الأخرى بما لديهم من خبرة فنية ومعرفة علمية وفنون ومهن متخصصة ، لم يكن يعرفها أحد فى هذه المملكة ولا هذا المتسلطن ، وكما يوضح النص أن داود لم يستطيع أن يبنى بيتاً لاسم الرب إلهه بسبب الحروب التى أحاطت به ، لكن سليمان بناه بخبرة هذه الشعوب التى حاربته ، وبدلاً من أن يفيد النص فى مدى حكمة سليمان ، أضاع هذه الحكمة فى التفاصيل المغرقة فى التفاصيل المعمارية ، والتى تكشف أول ما تكشف عن عظمة وحضارة وعلم الشعوب الأخرى ، والجمال الذى استعاره سليمان منها ليضفى على حكمة أبهة وسيادة كاذبة ، فكان حيرام ملك صور ـ باعتراف النص ـ ممتلئ حكمة وفهما ومعرفة لبناء هذا البيت ، أنه الحكيم والخبير الأجنبى الآتى ليعلم هؤلاء الفنون والبناء ، حتى المراحض علمها لهم حيرام فكان ما قدمه ملك صور بالحكمة والخبرة والمواد التى افتقرت إليها هذه المملكة المزعومة ـ أو الأمبراطورية كما يزعم المزيفون ، وما كان سليمان يتصرف إلا كما تصرف أبيه ، الأول أهلك سبعين ألفاً من شعبه ، وسليمان أعطى لحيرم ملك صور عشرين مدينة فى أرض الجليل ، هكذا يتصرف الملك المتسلطن فى الأرض المقدسة والتى أعطاها الرب ــ كما ورد وأكد النص أن هذا العطاء الألهى سرمدى وأبدى ، لكن هذه المدن لم تعجب حيرم ملك صور صاحب الحضارة والحكمة والفهم والمعرفة والتى أعطت لسليمان عظمته وأكملت له ملكة وملك الرب بل وأحيت نفوس الشعب بما فيها من عظمة وبهاء !! ـ على حد اعتراف النص ـ فكانت هذه المدن غير ذات قيمة لملك مثل حيرام وهذا المسكوت عنه فى النص يشى أيضاً بأن هذه المملكة المزعومة كانت فقيرة حضارياً لا تملك شيئاً ذات قيمة ، مدنها لا قيمة لها لا استراتيجية ولا اقتصادية ولا إنتاجية ولا ثقافية ولا دينية ، فرفضها ملك صور فأعطاه سليمان مئة وعشرين وزناً ذهباً تعويضاً عنها ولا يدل ذلك إلا على أن سليمان لا كان متسلطاً ولا كان حكيماً وإنما كان خاضعاً صاغراً للممالك الأخرى ، ويسدد ماعليه من ديون ، واخترع مؤلفوا النص هذه الحكاية للتغطية على التأثير الحضارى للشعوب الأخرى عليهم ،وليعوض النص المذلة ويؤكد العظمة المزعومة ليظهر فى الأفق فجأة أن " فرعون ملك مصر ــ صعد ــ وأخذ جازر وأحرقها بالنار وقتل الكنعانيين الساكنين فى المدينة وأعطاها مهراً لأبنته امرأة سليمان ، وهذا النص يطرح قضايا تكشف عن زيف الادعاءات الإسرائيلية ، فمن يدفع مهر من ، فلم تعرف الممالك القديمة المحترمة هذه الطريقة العكسية أن يقدم الأب الملك مهراً لابنته للزوج ، فما بالنا والملك هنا ملك مصر الفرعون ، ثم أليس هذه المدينة واقعة تحت حكم سليمان المتسلط من أول النهر حتى فلسطين وتخوم مصر ولكن مؤلفوا النص اخترعوا هذه الحادثة لإخفاء فشل الملك المزعوم فى عدم السيطرة على هذا الملك المزعوم ، فهذه الحادثة لا يعرف عنها التاريخ شيئاً وليس بالتاريخ المصرى لها مثيلاً ، وهكذا اتخذت ابنة الفرعون وسيلة لتأكيد هذه المزاعم بالسيطرة والسيادة والهيمنة والملك ، بلا مقدمات منطقية وموضوعية ، فصعدت بنت الفرعون من مدينة داود إلى بيتها الذى بناه لها حينئذ بنى القلعة " ولم يحدثنا عن فترة بناء القلعة وكيف انتظرت أبنة فرعون حتى تم البناء ؟ وكيف تم ؟ ومن بناه ؟ وماذا كان يفعل هو فى هذه الأثناء ؟ أربعون سنة أخرى قضاها سليمان هو الأخر فى مملكة لم تعرف الاستقرار السياسى ولا الاستقرار الدينى والثقافى والاقتصادى والاجتماعى وملأتها الصرعات بدءاً من قتل الأعوان الذين أقاموا أبيه ملكاً وقتل أخيه إلى الصراع على السلطة مع يربعام ، على الرغم من محاولة النص المستميتة أن يجد ويؤكد الحكمة والقوة لسليمان من خلال قصة ملكة سبأ ، والذى لم يكن يمتلك حتى الوسائل البحرية التى تأتى إليه بخيراتها من هناك ، فكانت سفن ملك حيرام هى التى تفعل ذلك .
تشكل البناء الأخلاقى الإسرائيلى الذى ميز العلاقات المتوارثة داخل نظام وأسرة ، يفترض منها أنهما يطبقان أحكام الرب وشريعته ، من عناصر وأنماط مكررة داخل الأنظمة التى تضمها من الأسر والقبائل والجماعات المتسلطة والمتصارعة ، بين بعضها البعض وبين الجماعات الواحدة أو الأسرة أو القبيلة الواحدة وهو ماشكل نسقاً تبريرياً تلفيقياً ، مركز الأوامر المقررة التى يتلقها من أعلى ، من الرب ، والتى تكشف العلاقات المسكوت عنها داخل النص استحالة أن تكون هذه الأنظمة قد كونت فيما بينها كياناً اجتماعياً مستقلاً أو مستقراً يقوم على نمط مستقر من العلاقات الاجتماعية السوية والأنشطة المختلفة والأدوار والمعايير والمفاهيم المشتركة التى تستهدف تنظيم الحياة وتحقيق الأغراض التى ينشدها المجتمع وتجعلة كياناً مستقلاً يضمن استمرار الوجود الطبيعى للأفراد والجماعات والأشياء والأفكار فى نطاق حدود تشكل دولة على الأقل ذات سيادة على شعب موحد وعلى الأكثر يمتد تأثير ذلك كل إلى خارج هذه الحدود .
ولنحاول معاً أن نتخيل مرة أخرى المشهد الدرامى الذى لا تبثة الفضائيات المثيرة ولا تنقله من استاد ويمبلدون الشهير وما يحدث فى الملعب ذاته سواء بين اللاعبين أو الجمهور ولنرى " الجميع" قد نصب "جميعه" خيمة السطح ووقف يشاهد كيف دخل أبشالوم على " جميع " سرارى أبيه ، على خلفية الانتهاكات المتكررة والتى تحولت بتكراريتها إلى نمط مقرر على هذا " الجميع " بل مقدس مطلوب الإيمان به ، وفى الخلفية من هذا المشهد ، مشاهد مكملة ، صراع دموى بين الأب والأبن ، يأكل فيه السيف عشرين ألفاً من "الجميع" ، ثم مشاهد مزيدة تكشف أن "جميع" الشعب فى جميع الأسباط فى خصام ، حتى خضعوا دينياً لألهة متعددة ، المسكوت عنه :
ـ أنه ليس هناك تلك الوحدة التى تؤدى إلى وجود الكيان المستقل الفريد فـ " الجميع " هنا وما انتهى إليه جماعات غير متميزة وغير متعينة بأصل موحد أو بنية واحدة ، قد يكون أقرب تعبير حقيقى وموضوعى لتوصيفه هو مصطلح " الجمهور" أو " الجماهير " أو " الكتل البشرية " وهو ما اعترف به النص :"وبارك كل جمهور اسرائيل " و " وكل جمهور اسرائيل واقف " و "وقسم على جميع الشعب كل جمهور إسرائيل " ( ملوك الأول 8 / 64 ) .
ـ وأن هذه الكتل أو الجماهير يتحكم فيها أقلية تستند إلى قوة عسكرية ، لها حرس دينى كهنوتى يستمد قوته من شرعية إلهية قاهرة .
ـ وهذه الجماهير تشعر أكثر مما تفكر وتتصرف فى نشوة وهوس ويتم استغلاها طبقياً ودينياً كما يتضح من سير النص والعبارات والمشاهد السابقة .
ـ وهى تعمل تحت تأثير هذه الأقلية وما تملكه من قوة يؤسس لها الرب ، وهو دائم الصراع والخصام مع كل عناصر " الجميع " جمهوراً وأسباطاً ولا يحمى غضبه الأكثر إلا على هذا " الجميع " .
فتتبدى وتنكشف مسكوتات النص وحقائقه فتكشف : ــ أن هذا " الجميع / الجمهور " يبقى قاصراً عن حكم نفسه وإدارة شئونه واتخاذ القرارات المناسبة والصالحة ، وبالتالى يفتقد العلاقات التى توحده والأهداف المشتركة والقبول المشترك فى طاعة القياديين الذين يحكمون ــ كما يفترض فى المجتمعات السليمة ــ طبقاً لإرادة " الجميع " / الشعب وبما يدعم الانتقال من الحالة البدائية التى يعيشها هذا " الجميع " إلى حاله موحدة ، فيها المؤسسات الضرورية اللازمة لحصول الفعل السياسى الذى يشكل وجود حقيقة سياسية لها كيان مستقر ومستقل .
وليس هناك أدل من المسكوت عنه فى النص من فقدان الوحدة الإثنية والتى قد تساهم فى إنشاء مثل هذا الكيان ، إلا توزيع الأماكن التى تم الاستيلاء عليها ، كل على سبط بعينه وما يعبر عنه هذا التوزيع من سيادة الحالة البدائية القبائلية ، كما تكشف عن فقدان السمات المميزة المشتركة التى يمكن تشكل مايسمى بالسكان سواء كانت هذه السمات بيولوجية أو قانونية أو اجتماعية أو اقتصادية ، وتجمع هذه القبائل فيما بينها .
وإذا نظرنا إلى السلطة الدينية ، على سبيل المثال ، فإن تشريعاتها وأوامرها وطقوسها لا تنطبق على الحكام والمحكومين ، ورؤساء القوة والجمهور الخاضع لها و " الجميع " الخاص بها فسمح النص للنخبة والحكام ورؤساء القوة ــ حتى موسى فى زواجة من كوشيه ــ بكل الخروقات فى حين منع ارتكابها على الجمهور إلى درجة الموت لمرتكبيها ، وحتى وصلت هذه الخروقات إلى أن تصبح خصيصة بنائية تبرر السلوك العنصرى الذى تميز به هذا " الجميع " ، وازداد التدهور مع زيادة العوامل السالبة التى تدور فى المحيط الداخلى لهذا " الجميع " وبالتالى زاد تشتت العلاقات التى يمكن أن توحده ، وبالتالى اتجه إلى الخارج .
ومع طول التاريخ أصبح الاتجاه إلى الخارج خصيصة بنائية تشكل علاقات هذا " الجميع " وهكذا عبد أفراد " الجميع " ما حلا فى نظر كل منهم ، من آلهة الشعوب الأخرى والمفترض أنهم أعداؤهم ، وهذا بدوره عمق مشاعر وحقائق الاغتراب والعزلة داخل أفراد " الجميع " ، هذا الشعور الذى يكشف عنه النص منذ وجودهم وخروجهم من مصر ، حيث تحولت كل أنشطة الحياة داخل " الجميع " حكراً بيد جماعات معينة ، الإدارة ، السلطة ، الدين ، العمل ، ونتيجة تغرب أفراد " الجميع " عن نشاط المجتمع وثمارهذا النشاط ، وأجبروا على ترك فائض العمل للكهنة ورجال القوة وتحول العمل إلى شكل قسرى مفروض على أفراد الجمهور /" الجميع " وأصبح العداء بين مصالح هذه الطبقات المستغلة مستعراً والكل فى خصام وتبدى الاغتراب فى التناقض بين ثبات وتوقف السلطة الكهنوتية والإلهية وعجزها عن ملاحقة التطور الذى لحق أفراد " الجميع " بسكناهم وسط الشعوب الآخرى والاختلاط بهم والتعرف على حضارتهم التى هزت معتقداتهم بهذه السلطة فلجأوا إلى غيرها ، ولا ينكر النص ذلك ، ومن هناك كان اللجوء إلى الخارج هو تعبير من إرادة البشرى التخلص من الغيبى الذى يتسلط على حياته وعمله وثمرة نشاطه فاستمرت التناحرات الاجتماعية والعلاقات الاستغلالية طالما وقع أفراد " الجميع " تحت هذه السلطة وساد الشعور بالبؤس والجوع وعدم الرضا فلا يستطيع أفراد " الجميع " أن ينموا بحرية طاقاتهم الفسيولوجية أو العقلية وافتقدوا حريتهم واستقلالهم الذاتى وأصبحوا عبيدا ملكاً للكهنوت ورجال القوة وشيوخ الأسباط ولذا كانت محاولاتهم المستمرة من التخلص من هذا النير ، ولكن تحت وقع قسوة الكهنوتية المرتبطة بتلاحق الغضب الالهى الملفق ظلت علاقات الاستغلال قائمة .
هذا بدوره أدى إلى فقدان ضرورات امتداد تأثير هذا " الجميع " إلى الشعوب الأخرى سواء كان هذا التأثير سياسياً أو ثقافياً أو دينياً ، وإلى خارج أفراده ، ولم يدلنا النص على شعوب تبنت النص كديانة ومنهج حياة آنذاك .
ومن ناحية أخرى أدت الصراعات المستمرة والتناحر والخصام بين كل العناصر الموجودة فى النص إلى عدم الاستقرار حتى حول المدركات الحسية سواء كانت إلهاً متجسداً فى خيمة أو تابوتا أو عامود نار أو كهنة أو ملوك وأدى ذلك إلى عدم وحود علاقات متوازنة بين كل هذه العناصر التى من المفترض أن ينخلق منها الكيان المستقر وينبعث منها الكيان المميز ، ولكن تصلب وجمود هذه العناصر عند حدود مراكزها السلطوية وفى إطار أنماط وعلاقات مكررة خلال الحركة التى أصابت : الجميع " خلال تنقلاته من مكان إلى آخر ، أدى ذلك إلى جمود أبنية " الجميع " وأدى إلى افتقاد حالة الأمن والأمان التى يستشعر بها الفرد فقائد " الجميع " فضل أن يحصد الوباء من شعبه سبعين ألفا ولا يهرب ثلاثة أشهر أمام أعدائه ، ولا يأمن جندى ـ كما يقول النص ـ مخلص للرب وللتابوت على امرأته فينتهك عرضه ، ويخاطبه حفيد الملك الذى أتاح له الفرصة الاعتلاء العرش " من هو عبدك حتى تلتفت إلى كلب مثلى " فالأمن الجماعى صار مفتقداً على كافة مستويات " الجميع " وأصبح الفرد فى هذا " الجميع" ملكاً لغيره يتصرف أصحاب السلطة فيه تصرفهم فى السلع التجارية . ويالها من قسوة من مؤلفى النص أعماهم الحرص على آل يعقوب ، فى أن يصف أحفاد الملك الورثة الحقيقيين للعرش بمثل هذا الخطاب وهو شخص مسالم لا ذنب له لم يرتكب أيه خروقات بعد ، ويعطف عليه الملك كعطفه على الكلب . وهذه المذلة التى تعاظمت وغزت المشاعر السلبية المتبادلة والمتعاظمة بين العناصر المتناحرة أفرادا وجماعات وفئات غزت حالة الارتياب بين " الجميع " فدفعتهم إلى التحرك ضد بعضه البعض وازادت هوة التفكك والانهيار والانسحاق وسيادة اختلال التوازن فى النمو والسيطرة لصالح الكهنة والملوك وطال التخلف والتبعية والانعزالية والجمود سائر العناصر الأخرى وعجز " الجميع " عن إيجاد الطاقة الاجتماعية والثقافية اللازمة لخلق الجهد اللازم لإحداث التغيير الفعال وإنتاج عناصره المادية وغير المادية التى تميزه عن المجتمعات الأخرى ومنافستها .
وللصراع والتناحر الدينى تاريخ هو تاريخ هذا " الجميع " ، منذ أن طلب يعقوب أن يعزلوا الألهة الغريبة ، ومخاطبة الرب لموسى إلى متى تأبون أن تحفظوا وصاياى وشرائعى إلى التوزع بين الديانات الأخرى والشعوب من حولهم ، وإلى الصراع الدموى كما حدث لسبط بنى بنيامين على يد بنى إسرائيل فضربوهم بحد السيف ، المدينة بأسرها حتى البهائم وحتى كلما وجدوا ، وجميع المدن التى وجدوها للبنياميين أحرقوها بالنار ، كما يتحدث ، والنص يروى ذلك بأمر الرب ، حتى انتهت حكمة سليمان التى فاقت ـ كما يزعم النص ـ حكمة جميع بنى المشرق وكل حكمة مصر والذى كان متسلطاً على جميع الملوك من النهر وإلى أرض فلسطين وإلى تخوم مصر وكانوا يقدمون الهدايا ويخدمون سليمان كل أيام حياته ، إلى أن ذهبت هذه الحكمة وراء عشتروت إلاهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين وبنى مرتفعة لكموش رجس الموآبيين على الجبل تجاه أورشاليم ويالها من عبارة " تجاه أورشاليم " وتكشف عن المسكوت عنه فى النص :
ـ أولا التناقض وتصدع العلاقات والتوافق والايمانات مع أورشاليم الرمز .
ـ ثانياً الصراع مع العاصمة الرمز وعمل ما هو مواز للقوة معها .
ـ ثالثاً عدم قداسة أورشاليم لديه فقد بنى رجساً مقابلاً وموازياً لها ، وبنى رجساً لملوك بنى عمون وفعل كذلك لجميع النساء الغربيات اللواتى كن يوقدن ويذبحن لآلهتهن ، رغم أن الرب قد ظهر لسليمان مرتين وأوصاه ألا يتبع آلهة أخرى .
ولم تنفع سليمان حكمته حتى انتهت به إلى خراب المملكة المزعومة ـ إن كان وجودها حقيقياً ـ ففرعون مصر الذى ادعى النص أنه يقدم المدينة جازر مهراً لإبنته ، يساعد الخصوم عليه ومفارقة غريبة تكشف عنها ـ أكذوبة حكاية جازر هذه ـ وهى إحدى مدن سليمان التى حصن أسوارها بمساعدة ملك صور ورغم ذلك حرقها الفرعون ولم يتحرك بحكمته لإنقاذها ، وقدمها فرعون مصر مهراً لإبنته ثم يظهر ملوك لم يسمع عنهم النص ولا يقدم عنهم شيئاً وهم ملوك العرب وأخفى ما حولهم وعلاقاتهم ، ويظهر يربعام ولنقرأ هذا التعبير الوارد فى النص ... بعد هذا لم يرجع يربعام عن طريق الردية بل عاد فعمل من أطراف الشعب كهنة مرتفعات من شاء ملأ يدة فصار من كهنة المرتفعات ( ملوك الأول 13 / 33 ) .
ويربعام كان يمثل ثورة حقيقية على عهد داود وسليمان وما شهد هذا العهد من استغلال لأفراد " الجميع " وما شهده من نمو التناقضات التناحرية واحتدامها وتحولها إلى نزاع حاد تم حله عن طريق الثورة على رحبعام ابن سليمان وعلى الكهنة اللاويين ، وقد ملك " جميع " إسرائيل يربعام عليهم ما عدا بيت يهوذا وسبط بنيامين ، وأعاد يربعام العجل الذهبى ، وفعل كما فعل هارون قبل ذلك ، وقبل الشعب طائعاً أن تكون آلهته هى تلك وابتدع يربعام أعياداً ابتدعها من قلبه ومارس الكهانة مع الكهنة الجدد وصعد على المذبح ليوقد ، والمسكوت عنه فى هذا النص ، ومما سبق يستبين على النحو التالى :
1 ــ إن يربعام ليس فحسب أعادهم إلى عبادة أصلية حاول هارون إعادتها وحرمها منهم موسى وآل داود ، وظلت فى وجدان " الجميع " بل وهوالقادم من مصر بكل ما تحمله من شبع ولحم أكله الأجداد عند القدور وبكل تأثير حضارى كبير ظل مكنوناً ومختبئاً فى الوجدان فتقبلوا طائعين .
2 ــ كما تدل أيضاً على انتفاء السيطرة على الداخل والخارج وانتفاء السيادة على أية مجتمعات وشعوب أخرى ، قد يكون الزعم أنها شكلت تحت حكم داود وسليمان دولة فريدة وإمبراطورية عظمى يدينون لها بالولاء والخضوع لقوانينها ، والحقيقة ليس الأمر كما يدعى النص بأن سليمان تسلط على شعوب أخرى ، ويبدو أن سليمان فى حقيقة الأمر حاكماً على هذه المنطقة من قبل فرعون فلما فشل فى إدارتها أرسل إليها يربعام ليعيد الأوضاع إلى طبيعتها ويزيل النير عنها ويقضى على القوى والطبقات المتعادية والتى تستخدم " الجميع " كأدوات للصراع بينهما، لذلك حاول يربعام القضاء على السلطة الكهنوتية الممثلة فى اللاويين واستبدل بهم كهنة آخرين وكذلك القضاء على رجال القوة على سلطة رحبعام وريث سليمان .
3 ــ الأمر فى جملته مؤداه أن هذه المنطقة كانت تشكل نوعا من الحكم التابع الذى يحرم عليه ممارسة أيه سيادة خارجية وتتمتع فيه الجماعات بمختلف تنوعاتها إلى نوع من تأكيد ذاتها وهذا ما يشى به المسكوت عنه فى النص: احتفاط بيت يهوذا وسبط بنيامين للولاء لبيت داود كجماعات متميزة داخل " الجميع " بينما انطاعت بنى إسرائيل ليربعام ، وهوما يؤكده تعبير " كهنة المرتفعات " حيث أصبح لكل جماعة داخل نطاق هذه المنطقة التى تمت السيطرة عليها وأعادتها إلى الهدوء ، مراسيمها الخاصة وتقاليدها المختلفة التى تميز كل منها عن الأخرى ، وما يقدمه تعبير " من أطراف الشعب " من تفسير مؤداها التناقض التناحرى وتواجد فئات متعادية بين قلب الحكم كمركز ( كهنوت ورجال قوة ) وبين الأطراف التى تضم عناصر أخرى ممتدة متخاصمة معها وغير معترفة بها .
4 ــ كذلك تبين الاختلافات بين عناصر" الجميع " وما يضمه من جماعات متنافرة فيما بينهما ثقافياً ، شديدة التشتت الدينى فيما بينهما والانقسام إلى وحدات صغيرة وشديدة الصغر ينشد أفرادها النفعية واللذة والشهوة وينتفى معها الانتماء .
لم يكن هناك بالطبع ، وبناء على ذلك ، فى أيه عصر من العصور التى تضمنها النص ، المؤسسة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية المتسعة الامتداد ، وشاملة التأثير ، ومدارة تحت سيطرة شخص واحد مفرد أو عائلة موحدة أو هيئة حاكمة تتمتع بشخصية وكيان مستقل ومستقر ، متميز عن الشعوب الأخرى والمجتمعات التى تعيش بين ظهرانيها وتفرض الولاء والخضوع والحماية وتؤدى إلى وجود ما يمكن تسميته الدولة أو الإمبراطورية وعلى العكس ما فعلة داود وأولادة يثبت أن البناء الأخلاقى والسيادى وهمان كبيران فقد وضع جميع ما فى مدن عمون من شعوب تحت مناشير ونوارج حديد وفؤوس حديد ثم أحرقهم فى أتون الآجر ، إنها المحرقة الحقيقية ، إن كانت حقيقة ، وفورا أعتدى أبشالوم على أخته ثامار ، ولم ينجح فى صد فرعون عن جازر المحصنة ــ كما أوردنا سالفا ــ واختُرعت حكاية مهر زوجته للتغطية على خضوعه للدولة الفرعونية وفقدان السيطرة على مدنه وسرعان ما يصعد ملك مصر شيشق ( المذكور اسمه ) إلى أورشاليم فى عهد رحبعام ويأخذ خزائن الرب وخزائن بيت الملك وأخذ كل شئ وأخذ جميع أتراس الذهب ، وتناحر وتصارع آسا ملك يهوذا مع بعشا ملك إسرائيل حتى أُهلك " الجميع " ، مُلك لا يحمى سريره وما حوله ولا أطرافه وحدوده ، إنما منظومة كهنوتية تبدأ برب الجنود وتابوته وخيمته وخزائنه وعهده وأولاده وشعبه / الجميع / الجمهور / الكهنة ومن خلال المنظومة الدائرية الكل يتخاصم مع الكل يتم إغاظته ويعمل الشر فى عين الآخر ولا يُستثنى رب الجنود من ذلك ، وبالتالى لم يكن هناك أى سلطة قائمة فى النص تستطيع تحقيق إقرار النظام الاجتماعى وتأمين التكامل بين الأفراد فى الجماعة لمصلحة المجموع وتأمين هذا النظام واستمرار وجوده بما يسمح بالتطور والتقدم ، بل العكس ساد نمط إنتاجي بدائي ونمط ثقافي مكرر ، بل ومقرر بواسطة رب الجنود ، وساد نمط ديناميته الهدد والهرب على مساحة واسعة من النص إلى درجة أنه " لما رأى رجال الذين فى عبر الوادى والذين فى عبر الأردن أن رجال إسرائيل قد هربوا وأن شاول وابنه قد ماتوا ، تركوا المدن وهربوا ، فأتى الفلسطينيون وسكنوا فيها ( صموئيل 31 / 7 ) ولا شك أن السكن هنا يعنى الإقامة مقرونة بالاطمئنان والأمن .
وقد انعكس هذا على الوضع الاقتصادى والحضارى لهذا " الجميع " حيث كان الجوع فى أيام داود ثلاث سنين سنة بعد سنة وحاول مؤلفوا النص أن يخفوا حاجاتهم الاقتصادية والثقافية والأمنية للجبعونيين فكان قمة التآمر على ورثة الملك شاول فى أول أيام الحصاد وابتداء حصاد الشعير الذى ينهى الجوع ويخفى تحكم الجبعونيين فى الشعير وإنهاء الجوع على جثامين ورثة الملك الحقيقين خضوعاً للجبعونيين حتى يتحقق الأمن والشبع ولا يتكرر الهرب من المدن مرة أخرى .
وكما ورد فى النص ، أنه ليس بينهم أحد يعرف قطع الأخشاب مثل الصيدونيين ولا هم مسيطرون على لبنان لكى يقطعوا أرزاً منها ، ولأنه لا يوجد العمال المهرة ولا الفنيون فقد عرض المتسلط سليمان على حيرام ملك صور أن يدفع له أجرة عبيده حسب كل ما يقول ليعلم مهرة ملك صور عبيد سليمان قطع الخشب مثل الصيدونيين ، وسخر ثلاثين ألفاً لهذه العملية وحتى ملك صور نقل إليهم النٌحاس حيرام الصورى وصنع لهم الأعمال والمسبوكات التى استغرقت تفاصيلها الفنية من الاصحاح السابع فى سفر الملوك الأول سبعة وثلاثين آية ، حتى المراحض ، التى لم يكن يعرفونها ، علمها لهم ، ولا شك أن هذه التفاصيل الدقيقة تدل على التأثير الحضارى الأجنبى على هذا " الجميع " وتبنى النموذج الخاص به ، فكان حيرام بخبرته الصورية إعجازاً وأعجوبة ، وياله من ملك متسلط هو سليمان ، قد ساعفه آخر بخشب الأرز والسرد والذهب والصناع المهرة وساق النواتى العارفين بالبحر سفن سليمان وأتوا إليه بالذهب من أوفير .
لقد تحول كل الجمهور / " الجميع " كما طرح النص ـ من العبودية للفرعون إلى عبودية الكهنة ، وامتلك الكهنة العمل وفائض العمل وأصبحت المنظومة السابق أنموذجاً فى تناحر الطبقات ، وأنموذجاً لاستغلال الإنسان للإنسان والذى تم بصورة سافرة وصارمة وكان ملاك العبيد يحتكرون وسائل الانتاج ، والأرض وأدوات العمل ، وما أكثر العبيد الذين أمتلأ بهم النص ألافاً مؤلفة من المكرهين على العمل ، ولا ينتزعون منهم فائض المنتوج فحسب بل وجزءاً من المنتج الضرورى لوجوده حتى يبست أنفسهم ، وهذا ما يؤكدة النص من خلال الجوع المستمر والتطلع إلى العودة إلى مصر للشبع حيث كان أكل السمك مجاناً فلم يستغلهم المصريون ـ وهذه حقيقة مسكوت عنها فى النص ـ وكما استغلهم الكهنة ورجال القوة ، فكانت الذبائح والمحروقات من الثيران وغيرها رائحة سرور للرب والشعب جائع ، وحرضتهم الكهنة باسم الرب على سرقة المصريين فما كان من هارون إلا أن أخذ الذهب وصنع عجلاً للعبادة وعمل المحروقات له ، وكان اختراع القداسة " للجميع " واختياره من قبل الرب ليكون له شعباً خاصاً دون الشعوب الأخرى وفوق الشعوب الذين على وجه الأرض وكانت مخالفة الكهنة والرب وممثليهما سبباً للكوارث التى تحيق بهذا " الجميع " ، ورغم ذلك كان هناك التمرد على الرب كما وضحنا سلفاً وعلى ملوكه وكهنته رغبة فى التحرر منهم ، وليس كما يدعى النص لعمل الشر فى عينى الرب وكانت العلاقة بينهما علاقة تبادلية نفعية بين الكهنة ورجال القوة وتستهدف إضفاء الطابع الإلهى على كل منهما لتغطية نفقات كل منهما ، وظهرت أشكال التسلط والطبقية .
ولم يكن هناك أبداً فى يوم من الأيام طوال النص ما يثبت أن المملكة المزعومة كانت ملكاً " للجميع " بل العكس كان " الجميع " ملكا الكهنة وأصحاب القوة ، وبفضل عمل العبيد أمكن لهؤلاء الكهنة مع أهل الحكم الانصراف إلى الصراعات الداخلية والتفرغ للنزوات والزيجات بل حينما أنصرف أهل الحكم عن الرب والكهنة انصرفوا إلى آلهة أخرى تحقق لهم مزيداً من الزيجات والبطولة فى الحصول على أكبر كم منهن ، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل كان هناك بقايا النظام المشاعى والذى تمثل فى الزواج من الأخوات والممارسة الجنسية مع بناتهن وإخواتهن والسرارى التى يمتلكها الآباء ، بل وحظيت الزيجات من الزوانى بالرضا وكانت هذه الأنماط الانحلالية أنماطاً متكررة وأحياناً مقررة بأمر الرب .
وكانت الثورات التى يقوم بها " الجميع " ــ كما قدمنا ــ ضد هذه المنظومة المتسلطة والتى كان يتم فيها استغلال "الجميع" جمهوراً وعبيداً طبقاً لمقتضى الغرض والشهوة وحمل الكافة عليهما ، وقد أدى ذلك إلى زيادة واضحة لانعدام المساواة فى الملكية بين هذه العناصر لصالح الطبقة المستغلة على حساب أفراد الجمهور ومن هنا كان الرب الذى استغله الكهنة لتحقيق ثروات ضخمة لهم ولذوى القوة وتحقيق فقراً للأخرين وكان غضب الرب تفسيراً وسبباً لآليات الصراع وأفراد للنظام الكهنوتى صفحات امتلأت بالتفاصيل الدقيقة تفاصيل التابوت الدقيقة والموائد والمنارات والمسكن ودار السكن وتفاصيل تقديم القرابين وطقوسها وصنع الألواح والشقق من شعرى معزى ، والعوارض والحجاب والسجف والمذبح والثياب والأقمصة وتفاصيل وضع الأطواق ، وطرق الزركشة وسلاسلها وطرق ذبح الكباش وما يقدم للمذبح والمراحض وصنع دهن المسحة ومذبح المحرقة والتقدمات الذهب والفضة والنحاس والأسمانجونى والأرجوانى وجلود كباش محمرة وخشب سنط وزيت للضوء وأطيابا لدهن المسحة والعطور وحجارات الجزع والترصيع للأردية وذبييحة السلامة ورائحة السرور والشحم ، تفاصيل امتلأت بها صفحات لم يكن الغرض منها سوى إدخال " الجميع " فى التفاصيل الدقيقة للتعمية على طرق الاستغلال ونهب العقل للتعمية وعدم الرؤية وتكبيل الإنسان بجهل حقيقة الاستغلال البشع لأفراد "الجميع".
ولذا لم يشهد المجتمع تطوراً من أى نوع فقد ظلت وسائل الانتاج كما هى فى المجتمعات البدائية الإنسان والحيوان والجر والقطع وظلت سيادة هذا النمط بلا تطور سياسى أو اقتصادى أو علمى أو حضارى حتى كان الضياع والتشتت ، وعلى وتيرة واحدة كنمط مكرر ومقرر من الإله وذلك بفعل تأثير النظام الاستغلالى الكهنى ، بفعل قوة غيبية مقصورة عليهم ، بفعل قوة الرب ، ولهذا كثر الصراع والخصام حتى كان كل واحد من أفراد " الجميع " يتصرف كما يشاء .
ولذا سكن بنو إسرائيل فى وسط الكنعانيين والحيثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين واتخذوا بناتهم لأنفسهم وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدو آلهتهم ونسوا الرب إلههم وعبدوا البعليم والسوارى وتم بيعهم بيد كوشاى وشعتاريم ملك آرام النهرين وعبدوا كوشان عشتاريم وهكذا كما يقول النص عبدوا عجلون ملك موآب وتم بيعهم بيد يابين ملك الكنعانيين ، وللعمالقة وعبدوا آلهة آرام والصيدونيين وينى عمون وآلهة الفلسطينيين وليس ذلك لأنهم كما يقول النص بأنهم عملوا الشر فى عين الإله ، ولكنهم عملوا صالح أعمالهم تمرداً على المؤسسة الكهنوتية وأصحاب القوة الذين أذاقوهم الجوع وألبسوهم لباس الفقر بل وبالحرص الشديد على إذلال هذا الشعب الجائع بإقامة المحرقات والذبائح أمامهم لتنتعش المؤسسة الكهنوتية برائحة السرور حتى لم يعد يثقون فى الرب إلههم ( تثنية 1 / 21 ) لقد كان الإغراق فى التفاصيل تدشينا للكهنة وإعطاءً لحق مقرر من الإله هو حق الكهنة على حساب من أفراد " الجميع " وقد كان حقاً تاريخياً " يكون حق الكهنة من الشعب " ويعطون لألعازار رفيعة للرب ، وأعطى موسى ذاته الزكوة رفيعة الرب لألعازار ، وللاويين ، وكذلك يحصل هارون الكاهن ، وكل الباقى من التقدمة لهارون وبنيه قدس أقداس من وقائد الرب ، ومن جميع العطايا يرفعون كل رفيعة للرب من الكل دسمه المقدس ويحسب للاويين كمحصول البيدر ومحصول المعصرة ، فكل رفيعة مع كل أقداس بنى إسرائيل التى يقدموتها للكاهن تكون له وإحضار التقدمات ، وكل من يعترض ويتذكر أيام الهناء فى مصر يرسل عليه الحيات بل حتى الذى يكون قد أخذه الإيمان وأحبه حبا مخلصاً للرب ويحاول تقديم القربان بنفسة للرب دون الكهنة من بنى هارون واللاويين ، يقتله الرب ويصير مدنهم خربة.