مصطلح الشفاعة في كتاب الله
مفهوم الشفاعة في القرآن الكريم!

نسيم بسالم في السبت ١٣ - أكتوبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

المُصر على مَعصِيَة مِن مَعاصي الله عزَّ وجل؛ المُستَحلي لَها؛ المُنغَمس في أوحالِها إلى الأَذقان؛ يبحَث عَن أيِّ خَيط يتمسَّكُ بِه ويُبرِّرُ بِه ضَلالَه ولَو كانَ أوهَى مِن خَيطِ العَنكبُوت!

   المُهم عِندَه أن يَشعُرَ بشيء مِن الأَمان يُحرِّرُه مِن نَفسِه اللَّوَّامَة التي تؤنِّبُه وتُشعِرُه كُلَّما اقتَرَف جَريرَة أنَّه ليسَ على الخطِّ الذي يَرضَى خالِقُه عَنه؛ وأنَّه قَد جانَبَ المَنهَج وحادَ عَن الفِطرة السَّويَّة التي فطَره الله عَليها!

   مِن بينِ تِلك الخُيوط التي تمسَّك بِها أربابُ الكُتبِ السّماويَّة جَميعا على حدّ سَواء واتَّخذُوها مِشجَبا لتَعليق آمالِهم في النّجاة غَدا مِن النَّار ولَو ماتُوا مُثقَلين بأوزار كالجِبال؛ خيط الشَّفاعَة! تَواضعُوا عَليها مِن غَير هُدى مِن الله ولا عِلم ولا كِتاب مُنير!

   فاليهُود يعتَبرُون أنفُسَهم أبناءُ الله وأحبَّاؤُه ما داموا مُتَّصلين نَسبا إلى نبي الله إسرائيل الذي فضَّل الله ذُرِّيتَه على العَالَمين؛ وأفرَز فيهم هَذا الفِكر اعتِبار أنَّه لَن تمسَّهُم النَّار إلاَّ أياما مَعدُودات!

{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ . بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة :80- 81].

   والنَّصارى يقُولون بِعقيدَة المُخلِّص؛ السيّد المَسيح الذي قدَّم نَفسَه فِداء ليُصلَب ويكُون صَلبُه كفَّارَة لذُنوب البَشريَّة جَمعاء؛ على اختِلاف بَينَ الأرثوذوكس والبروتستانت مِنهُم؛ هَل المَسيح وَحدَهُ يشفَع أم تَشفع مَعه العَذراء والقدِّيسون؟!

   ثمَّ جاءَ مَن يُسمَّون ب "المُسلِمين" ليَظهَر فيهِم هذا الفِكر مُؤصَّلا بِروايات مَنسُوبَة زُورا وبُهتانا إلى الرَّسُول الكَريم ذِي الخُلق العَظيم؛ أو بِأوهام وسَراب كذَاك الذي عِند الذينَ قالُوا إنَّا نَصارى!

   فالشِّيعَة تتبنَّى فِكرا قريبا مِن فِكر النَّصارى فَحواه أنَّ ما لاقاه عَلي مِن اضطِهاد وسَوم لسُوء العَذاب؛ وما لاقاه ابنُه الحُسين في كَربَلاء مِن تَعذيب وتَشريد وسَبي لنِسائِه وذَراريه؛ وما لاقاه الأَئمَّة الإثنا عَشر عُموما كُلُّه مُخلِّص للشِّيعَة مِن عذابِ سَقر!

ما عَليهم إلاَّ أن يُقيموا مَنادِب سنَويَّة للبُكاء والنَّحيب وشَق الجُيوب والدُّعاء بِدَعوى الجَاهليَّة؛ ويُحاوِلُوا أن يُسافِرُوا ولو مرَّة في العَام لزيارَة مراقِد أولئِك الأَئمَّة ومَن تناسَل مِن أصلابِهم؛ مُتوسِّلين خاضِعين؛ فإنَّ ذَلك كاف في نَجاتِهم وخَلاصِهم بقُدرَة قادِر!

  وأمَّا السُّنَّة فإنَّ مصانِع الرِّوايات التي أُنشئت في القَرن الثَّالِث الهِجري في عَهد بني العَبَّاس لم تَعجَز كعادَتِها في سكِّ عَشرات الرِّوايات التي تُثبِت شَفاعَة مَزعُومة للنَّبي الكَريم (صَلوات ربي وسَلامُه عَليه)؛ وحتَّى تَضمَن سيرُورَتها في الأغرار مِن النَّاس قنَّنَتها بتأصيل "الوَحي الثَّاني" المَزعُوم الذي يجعَل الرِّوايات على وِزان الآيات حذوَ القُذَّة بالقُذَّة، والسَّاق بالسَّاق مِن غَير عَرض ولا غَربَلة!

  مِن بينِ تِلك الرِّوايات ما رواه البُخاري عَن أنس قَالَ : ( إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْتُونِي فَأَقُولُ أَنَا لَهَا فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ) فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ قُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا: لَوْ مَرَرْنَا بِالْحَسَنِ وَهُوَ مُتَوَارٍ فِي مَنْزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَأَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَنَا فَقُلْنَا لَهُ : يَا أَبَا سَعِيدٍ جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِي الشَّفَاعَةِ ، فَقَالَ: هِيهْ ، فَحَدَّثْنَاهُ بِالْحَدِيثِ فَانْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَالَ : هِيهْ فَقُلْنَا لَمْ يَزِدْ لَنَا عَلَى هَذَا فَقَالَ لَقَدْ حَدَّثَنِي وَهُوَ جَمِيعٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَمْ كَرِهَ أَنْ تَتَّكِلُوا ، قُلْنَا : يَا أَبَا سَعِيدٍ فَحَدِّثْنَا ، فَضَحِكَ وَقَالَ : خُلِقَ الإِنْسَانُ عَجُولا مَا ذَكَرْتُهُ إِلا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدَّثَنِي كَمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ قَالَ : ( ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَيَقُولُ وَعِزَّتِي وَجَلالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ) رواه البخاري.

   ومِنها ما رواه أنَس دائِما كَما في التَّرمذي: ( شَفَاعَتِي لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي).

  ولا أدري لمَ ورَد حَديث آخَر عَن أنس دَوما ينسِب فيه إلى الرَّسُول (صلى الله عليه وسلَّم) قَوله: ( كل نبي يسأل سؤالاً أو قال : لكل نبي دعوة دعاها لأمته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة).

   ولَم يكتَفِ أربابُ تِلك المَدرسَة بِشَفاعَة الرَّسُول (صلَّى الله عليه وسلَّم) حتَّى أثبتُوا شَفاعَة للأنبياء والعُلماء والشُّهداء؛ بل حتَّى للآباء على أبنائِهم، والمُصلِّين على ميِّتِهم...الخ.

فهل ما يقُوله هؤلاءِ صَحيح؟! وهَل هُنالِك شَفاعَة بهذه المَعاني التي ذَكرُوها في القُرآ ن الكَريم؟!أم أنَّه مَحض افتئات على النَّص الخالِص الذي لا يأتيه البَاطِل مِن بين يديه ولا مِن خَلفِه؟!

   قَبل أن نُبيِّن مَعنى الشَّفاعَة في القُرآن الكَريم ونَستَعرِض آياتِها واقِفين عَلى ما يسَّر الله مِن مَعانيها؛ حريٌّ بِنا أن نعلمَ مَعناها لُغة.

فالشَّفاعَة عِند مُحقِّقي اللُّغَة هِيَ إلحَاقُ شَيء أَو قُوَّة بآخَر لِغرَض مَطلُوب وتَحصيل نتيجَة مَقصُودَة؛ فهِيَ بِهذا تَفتَرقُ عَن الوَلايَة التي هِيَ  اختِيار كامِل وتصرُّف استِقلالي في أمرِ المُولَّى عَليه؛ وأمَّا الشَّفاعَة فهي تأييد وتَقويَة بإلحاقِ قُوَّته وضمِّ نفوذِه إلى ما لآخَر.

   واضِح إذَن مِن هذا التَّعريفِ اللُّغَوي أنَّ الشَّفاعَة تكُون عِندَ الحاجَة والضُّر التي تَستلزِم تدخُّلا خارِجيا للإنقاذ وفك العَنت!

شفاعَة الدُّنيا

  قَبل أن نتكلَّم عَن شَفاعَة الآخِرة التي هيَ المَقصُود الأَوَّل مِن مَقالِنا جدير بِنا أن نقِفَ عِند آيات تتكلَّم عَن الشَّفاعَة في الدُّنيا في عالَم الخَلق والشَّهادة.

يقُول الله سُبحانَه وتَعالى في سُورة يُونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [يونس : 3].

السياق الذي تتحدَّثُ عَنه هذه الآيَة سياقُ خَلق وتَدبير واستواء عَلى مقاليد السماوات والأَرض! فرجُحَ أن تكُون الشَّفاعَة هُنا بِمعنى تدخُّل البَاري عزَّ وجل لإنقاذِ إنسان مِن ضُر ألمَّ بِه بواسِطَة مِن الوَسائِط المادِّيَّة (إنسانا أو حَيوانا أو جَمادا). وهذا الشَّفيعُ المُنقِذ لا يسير ولا يتحرَّك ولا ينفُذُ إنقاذُه إلا بإذن مِن الله سُبحانَه وتَعالى.

ونَفس المَعنى نَجدُه في سُورة السَّجدَة في قَوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة : 4]. والسِّياقُ أيضا سياقُ خَلق وتَدبير.

   ولكن الإنسانَ الغافِل الشَّارِد عَن ربّه يتَّخِذُ مِن دُون الله شُفعاء يلتَمسُ مِنهُم النَّفع وكَشف الضُّر؛ مُعلِّقا آمالَه عَليهِم؛ ناسيا الشَّفيع الحَقيقي الذي هُو الله سُبحانَه وَحدَه! فيُذكِّرُه الباري عزَّ وجل بقَوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ . قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر :43- 44].

  وممَّا يُؤكِّد أنَّ الله تَعالى يُورِد الشَّفاعَة في القُرآن في سياقِ الإنقاذ الدُّنيَوي قَول مُؤمن سُورة يس لقَومِه: {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ} [يس : 23]... فالأقرَب للسِّياق أنَّ المَقصُود بالضُّر هُنا هُو ضرُّ الدُّنيا لا ضُرُّ الآخِرة؛ وهذا لا يَقدَحُ في عُموميَّة الآيَة طَبعا.

ولِهذه الآيَة شاهِد في سُورة الحَج في قَوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)}.فهذا الجاحِد لَم يُؤمِن باسمِ الله الشَّفيع؛ فيتعلَّقُ مِن ثمَّ بالأسباب لا بربِّ الأسباب!

  وثمَّة آيَة تُفصِّلُ مسألَة "شفاعَة الإنسان لأخيه الإنسان"؛ بمَعنى استِعمالُ نُفوذِه وقُوَّتِه وما أوتِي مِن حيلَة لاقتِطاع حق لأخيهِ بسُوء أَم بِشر.

يقُول تعالى في سُورة النِّساء: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} [النساء : 85] .

  رُوَيَ في تَفسيرِ هذه الآيَة أنَّ المُنافقين كانُوا يَشفعُون لإخوانِهم عِند الرَّسُول rبأعذار وتَعلاَّت حتَّى لا يَخرجوا للجِهاد؛ فنَزلت الآيَة؛ وهذا مُناسِب لسياق الآيات التي تُحرِّض على القِتال.

ورُويَ أيضا أنَّ  مِن المُؤمنين مَن يَشفَع لإخوانِهم عِند آخَرين أوتوا بَسَطة في المَال حتَّى يُجهِّزُوهُم للخُروج مَع النبي rفنَزلَت هذه الآيَة كالمُثنيَة عَليهم.

ورُغمَ خُصوص هَذين السَّبَبين واحتِماليَّة الآيَة لهُما مَعا؛ فإنَّ الآيَة يَنبَغي تَعميمُها لتشمُل كلَّ مَن يتدخَّل بقُوَّته أو بسَطوَته أو بِجاهِه أو بِمالِه لتَقويَة جنابِ طَرف آخَر؛ فإن كانَت المَقاصِد محمُودَة والوَسائِل مَشرُوعَة حصل للشَّافِع نَصيبٌ مِن الخَير؛ وإن كانَت شرّا وظُلما لحِقَ بِه مِن الوِزر بِقَدر ما أحدَثَت شَفاعتُه مِن آثار سلبيَّة. ورُبَّما الآيَة أقرَب لأن تُحمَل على المُنازَعات والخُصومات لمُناسَبَة سُورة النِّساء التي تتحدَّث عَن هذِه المَواضيع تَفصيلا!

شفاعَة الآخِرة

لا رَيبَ أنَّ الشَّفاعَة ثابِتة في الآخِرة قَطعا لا يَمتَري فيها إلاَّ مَن أنكَر دَلالَة النُّصوص الصَّريحَة الواضِحة وُضوحَ الشَّمس؛ ولَكِن ممَّن تكُون؟ ولِمن تكُون؟وهَل  هيَ بالمَعنى الذي نَجدُه في الرِّوايات مِن إنقاذِ أصحابِ الكَباِئِر، وإخراج المُوحِّدين مِن النَّار؛ والإلحاح أمامَ ربِّ العزَّة لبَدء الحِساب؟!

طَبعا الجَواب الصَّحيح على هذه الأَسئلَة وغَيرِها – سيَما ما يتعلَّقُ مِنها بالغَيب-  لا نَجدُه إلا في الوَحي الإلهي الخالِص في كِتاب الله تَعالى الذي لَم تتنزَّل بِه الشَّياطين؛ وما يَنبَغي لَهم وما يستطيعُون! كيفَ لا! والله يُصرِّحُ أنَّه ما مِن عالِم للغَيبِ إلاَّ هُو!

{قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }[النمل : 65].

والرَّسُول الكَريم  يحفَظ مَقامَ ربِّه ولا يجرُؤ عَلى أن يتخطَّى حدَّا مِن حدُودِه سُبحانَه وتَعالى أو يتألَّى عَليه!

{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف : 188].

وهُو في هذا مُتِّبع لأبيه نُوح الذي يقُول لقَومِه مُخاطِبا: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام : 50].

وهكذا الأَنبياءُ جميعُهم صلوات ربِّي وسَلامُه عَليهم... {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام : 90].

   مَوضُوع الشَّفاعَة واضِح مُبيَّن في القُرآن يحتاجُ إلى تدبُّر يسير؛ وتجرُّد مِن النَّظَّارات الخارجيَّة في التَّعامُل مَع نُصوصِه إلا نظَّارات القُرآن ذاتُه! أُحاوِل أن أُبيِّنَه في نُقطَتين اثنَتين:

أولاهُما:أنَّ الشَّفاعَة في القُرآن منسُوبَة إلى المَلائِكة حَصرا! ولا تَصدُر أبَدا مِن أحَد الثَّقَلين؛ الإنس أو الجِن!

يقُول تَعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم :26].

ويقُول في سُورة الأَنبياء: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ . يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء :26-28].

   ولا غَرو في هَذا فالمَلائِكَة هُم مُسيِّرو السِّيناريُو؛ يَوم القيامَة مِن بِدايَتِه إلى نِهايَتِه؛ ومَن سِواهُم مِن الخَلق واجِم ساكِت ينتَظِرُ ما يُفعَل فيه!

أمَّا الأَشقياء فإنَّهُم يُغلُّون ويُدعُّون إلى نَار جَهنَّم دعا؛ ويُوقَفُون في كُلِّ مرَّة في أرضِ المَحشَر يُسألون: أكذّبتُم بآياتي ولَم تُحيطُوا بِها عِلما أمَّاذا كُنتُم تعمَلُون؟! فيَقع القَول عَليهم بِما ظَلمُوا فهُم لا يَنطِقُون! ثمَّ يتَّبعُون الدَّاعيَ لا عِوجَ له (وهُو مَلك طَبعا) وتَخشَع الأَصوات للرَّحمن فَلا تَسمَع إلاَّ هَمسا!

   فأينَ ذَلِك الصَّخَب الذي تُصوِّرُه لَنا المَسرحيَّات الرِّوائيَّة؛ وأينَ ذَلك الأَخذ والرَّد مَع الباري عزَّ وجل وأنبيائِه؟! والله قَد بيَّن لَنا مِن خِلالِ استِقراءِ الآيات القُرآنيَّة أن لا التِقاءَ البتَّة بينَ السُّعداء والأشقياء؛ بل كُلٌّ في أرضِه يَلقَى ما قدَّمَت يداه!

ثمَّ يكُبكَبُون في جهنَّم (والعياذُ بالله) فَوجا بَعدَ فَوج؛ كُلَّما ألقيَ فيها فَوج سألَهم خَزنتُها (وهُم المَلائِكة) ألَم يأتِكُم نَذير؟ قالوا بلى قد جاءَنا نَذير فكذّبنا وقُلنا ما نزَّل الله مِن شَيء! نَعم: كُنَّا نعبُد الرِّوايات وأقوالَ البَشر فضلَّ عنَّا في هذا اليَوم ما كُنَّا نَفتَري على الله!

وأمَّا السُّعَداء فتتلقَّاهُم المَلائِكَة مِن لحظَة خُروجِهم مِن القبُور مُبشِّرَة مُهنِّئَة بالفَوز الكَبير؛ مُرافِقَة إيَّاهُم في أرضِ المَحشَر.قائِلة لَهم: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت : 31].

وهذه هِي الشَّفاعَة الحَقيقيَّة التي لا تكُون إلاَّ للخُلَّص مِن عبادِ الله المُتَّقين الذينَ ماتُوا تائبين مُنيبين؛ وهِي هُنا بِمعنى نَزع عامِل الخَوف تَماما وبقاء الطَّمع فقَط؛ لأنَّهُم كانُوا يَعيشُون في الدُّنيا بمشاعِر الخَوف والطَّمع مَعا؛ فاستَحقُّوا بِذَلك الأَمن التَّام يَوم القِيامَة!

{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل : 89].

{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء : 103].

   بربِّكُم: أينَ مسرحيَّة العَرق ودُنو الشَّمس مِن رؤوس العِباد مِن المُعادَلة القُرآنيَّة؟! والشّمس قَد كُوِّرَت والنُّجوم قَد انكَدرَت؟

ودَوما لا نَنسَى القانُون: "ما مِن شَفيع إلا مِن بَعد إذنِه"! فالله يُنبئنا في سُورة النَّبأ أنَّ المَلائِكَة جَميعا يقُومون بينَ يدَي بارئِهم لا يتكلَّمُون ثمَّ يأذَن الله لَهم بأن يقُولوا ليسَ أيَّ قَول! بل قولا صَوابا!

{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً. يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً . ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} [النبأ :37- 39].

   فإذا كَان المَلائِكة الكِرام الذين لا يَعصُون الله ما أمَرهم ويَفعلُون ما يؤمَرون، يسبِّحُون الليل والنَّهار لا يفتُرون؛ لا يستَكبرُون عَن عبادَته ولا يستَحسرُون؛ لا يملكُون خِطابا ولا يتكلَّمُون إلاَّ بالإذن فكيفَ بمَن دُونَهم؟!

   تقِف المَلائِكَة على الأَعراف (وهِي الحُدود الفاصِلَة بينَ مَسيرِ الأشقياء والسُّعداء)؛ فيَعرِفُون كُلا بسيماهُم ثمَّ يُخاطِبُونَ السُّعدَاء أوَّلا والأشقياءَ ثانيا:

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ. وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف : 46-47].

   المَلائِكَة (مَع تسبيحِهم وعبادَتِهم) لا زالُوا خائِفين مِن غَضب الباري عَزَّ وجل عَليهم؛ وأمَّا عُبَّاد الرِّوايات فمُستَمسكُون بأهداب الشَّفاعَة الكُبرَى التي تُخرِجُ مِن النَّار مَن كان في قَلبِه مِثقال ذرَّة مِن (إيمان)! أو قالَ يَوما: لا إله إلا الله!

   الخُلاصَة أنَّ الشَّفاعَة في الآخِرة خاصَّة بالمَلائِكَة وَحدَهُم؛ ولا أحَد مِن البَشر يستَطيع مُخاطَبة الرَّحمن ومُراجَعة قراراتِه حاشاه؛ أمَّا السُّعداء فيُسألون عَن الوَحي فيقُولون: ما وَجدنا فيه إلاَّ خَيرا! وأمَّا الأشقياء فإنَّهم كذَلكَ لا يَنطِقُون؛ وإذا تكلَّمُوا لا يتكلَّمُون إلاَّ اعتِرافا وإقرارا لا مُحاجَجة ومُخاصَمة!

ثاني تِلك النِّقاط:أنَّ الشَّفاعَة في جَميعِ موارِدِها في القُرآن الكَريم لا تكُون إلاَّ بَعد إذنِ الباري الذي هُو الشَّفيع أوَّلا وآخِرا!

هذا الاسم المُبارَك مِن أسماءِ الله مَهجُور تَماما على السَّاحَة (الإسلاميَّة) مِن أثَر الرِّوايات التي ألصَقت هذا الاسم بالرَّسُول (صلى الله عليه وسلَّم)؛ ومَن لَم يُصدِّق؛ فليتفرَّس في تِلك اللَّوحات والمُعلَّقات التي تحمِل بَعضا مِن أسماء الله الحُسنَى هَل يجدُ فيها اسم الله "الشَّفيع"؟!

يقُول تَعالى: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة : 255].

ويقُول: {يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً }[طه : 109].

ويقُول أيضا: {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ : 23].

وفي سُورة الزُّخرُف نَقرأ قَولَه تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 6].

نُصوص واضِحَة تُعلِّق الشَّفاعَة بإذنِ الباري عزَّ وجَل ورِضاه: والسُّؤال: هَل هذا الإذن مُلقى عَلى عَواهِنِه مِن غَير ضابِط ولا حاكِم؟!

الإذن في القُرآن هُو صِنوُ المَشيئَة؛ وإن أُطلقَ في بَعض المَواضيع فإنَّه مُقيَّد في البَعض الآخَر إمَّا بقانُون غَيبي أو مادِّي! وأكتَفي بِمثالَين حتَّى لا أُطيلَ المَوضُوع كَثيرا.

فإذا قال الله تَعالى في سُورة يُونس: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}[يونس 100]... فليسَ هذا الإِذن في الإيمان عَشوائِيا؛ بل هُو مقيَّد بالآيات الكَثيرَة التي تُبيِّن سُبلَ الإيمان الحَق وطَرائِقه؛ كقَوله تعالى مَثلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات : 15].

وحينَما يقُول الله تَعالى في البَقرَة: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة : 97]... فإنَّ تَنزيلَ القُرآن في القَلب كنُور وشِفاء ليسَ هديَّة مجَّانيَّة تُعطَى مِن غَير مُقابِل؛ بل بِصبر وتَضحيَة وبَذل للأوقَات.

يقُول تعالى في سُورة الإنسان: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)}.

وهكذا الشَّأن في جَميع القُرآن! فيتحصَّل إذَن أنَّ إذنَ الله تَعالى للمَلائِكَة في الشَّفاعَة لا يكُون إلاَّ في صالِح المُتَّقين، ويستَحيلُ أن يكُون للعُصاة والمَردَة والطُّغاة!

لَو اكتَفى الباري بِهذه الآياتِ التي أورَدتُها فقَط لكانَت لِوحدِها حُجَّة ناصِعَة بيِّنَة؛ فكيفَ وأنَّه ينُصُّ في آيات أُخَر على أنَّ شفاعَته لا تَنالُ الظَّالمين؟!

{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر : 18].

والظَّالِم هُو كُلُّ عاصِ مُصِر مُتماد؛ لَم يُرِد أن ينكف ويَرعَوي عَن غيِّه وماتَ على ذَلك. فماذا ينتَظِرُ أمثالُ هؤلاء؟! هَل ينتَظرُون إلا تأويلَ حقائِق القُرآن؛ أي وُقوعَها؟! حينئذ لا تَنفع خُلَّة ولا شَفاعَة! إلا النَّار وبيسَ مَثوى الظَّالِمين!

{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }[الأعراف : 53].

   يودُّ المُجرِم الظَّالِم للآيات لَو افتَدَى بمِلئِ الأَرض ذَهبا؛ بل يود أحدُهم لَو يفتَدي مِن عذاب يَومئذ ببنيه وصاحِبتِه وأخيه! لنستَبصِر بِهذه الآيات البيِّنات؛ فهِي لا تَحتاجُ إلى تَعليق:

- {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَرَاهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15)} المَعارج.

- {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة : 3].

- {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام : 51].

- {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [الأنعام : 70].

   هؤلاءِ الأَشقياء كانُوا يتَّخِذُون في الدُّنيا شُفعاء ينتَظرُون إنقاذَهُم ويتمسَّكُون بِوَساطَتِهم؛ فتأتي لَحظات المَوت الرَّهيبَة التي يُصوِّرُها الباري عزَّ وجل في قَوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام : 94].

إذَن صَدق الباري حينَ قال: {وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} [الروم : 13].

  أمثالُ هؤلاءِ لا تَنفعُهم شَفاعَة الشَّافِعين الذين هُم ملائِكَة الرَّحمن حَصرا!

يقُول تعالى في سُورة المُدَّثر بشأن الأشقياء: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51)} المُدَّثر.

لا تَنفعُهم شَفاعَة الشَّافِعين لأنَّهُم لَم يتَّخذُوا عِند الرحمن عَهدا؛ وعَهد الله لا ينالُه الظَّالِمُون كَما هُو صريحُ القُرآن!

{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً . وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً . لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم :85- 87].

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة : 124].

   وإلى كُلِّ مَن لا يَزالُ يَرى في النبي مُحمَّد (صلى الله عليه وسلّم) مُخلِّصا؛ أُهدي إليه هذه الآيَة الحاسِمة:

{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} [الزمر : 19].

لا أخالُ أنَّ بعدَ هذا البيان الإلَهي بيان ولا حُجَّة لإنسان! فلنتَّقِ الله تَعالى ولنعُد إلى كِتابِ ربِّنا عَودا جَميلا مِن غَير خَلفيَّة مِن هَوى أو آبائيَّة حتَّى تسلَم لَنا دُنيانا وأُخرانا!

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة : 254].

والسَّلام عليكم ورحمة الله وبرَكاتُه

اجمالي القراءات 24724