كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى): دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .
الباب الثانى : أحوال الشارع المصري في ظل تطبيق الشريعة فى عصر السلطان قايتباى:
الفصل السادس : كوارث للمصريين فى ظل تطبيق الشريعة فى عصر قايتباى
أخبار الطاعون
كان الطاعون والمجاعات من مآسى التاريخ المصري في العصور الوسطي، وكان غالباً ما يحدثان معاً، وواضح أنه كانت لهما دورة تأتى بهما في تتابع زمني خلال القرن الواحد، وكان طاعون 873 أبرز أحداث المجتمع المصري في عصر قايتباى. وفي أول صفر 873 وردت أخبار بانتشار الطاعون بالثغر الإسكندري، ويبدو أنه جاء من مصدر خارجي، وبدأ انتشاره من الإسكندرية إلى باقى أقاليم مصر ثم إلى القاهرة، وبعدها وصل للشام. ونتتبع خطوات انتشاره على النحو التالى:
1 ــ في 29 صفر 873 وصلت جثة خوند بنت الأشرف اينال من الإسكندرية إلى القاهرة، وكانت قد توجهت إلى الإسكندرية مع والدتها خوند زينب لزيارة أخيها الملك المؤيد أحمد المقيم بالإسكندرية ولحضور ختان ولده، وعندما وصلوا إلى الإسكندرية مات الولد الذى يريدون ختانه، ثم أصابها الطاعون وماتت وكانت دون الثلاثين من عمرها، ونقلوا جثتها إلى القاهرة فوصلت يوم السبت 29 صفر، ويبدو أن الوباء انتقل معها إلى القاهرة. وفي يوم الأربعاء 3 ربيع الأول وصل الخبر للسلطان بوفاة الملك الظاهر يلباى الاينالى بالطاعون وكان معتقلاً بسجن الإسكندرية، وكان قد تولى السلطنة فترة يسيرة ثم عزلوه.وفي يوم الاثنين 6 ربيع الآخر وصلت الأخبار من الإسكندرية بأن الطاعون أهلك معظم أهلها وأنه لا يزال منتشراً بها إلى تاريخه. وفي يوم الاثنين 13 ربيع الآخر عاد الأتابك أزبك من البحيرة بعد قيامه بحمله ضد الأعراب هناك، وأخبر بأن الطاعون لا يزال مستمراً بالإسكندرية وأنه انتشر بالبحيرة ووصل إلى دمنهور، وأخبر بموت جماعة من أعراب غزالة من رؤوس الشر والفساد وبلغ عددهم نحو ثمانين نفراً.
2 ــ وبسبب التنقل من البلاد الموبوءة بالطاعون إلى غيرها انتقل الطاعون من الإسكندرية إلى البحيرة ثم إلى الغربية ثم إلى القاهرة. يقول مؤرخنا في أحداث يوم السبت أول جمادى الثانية : ( وفيه فشى الطاعون بإقليم البحيرة من الوجه البحرى من أسفل مصر وبعض بلاد الغربية (أى وسط الدلتا) بل وظهر الطاعون بالبلاد المصرية (أى القاهرة وضواحيها) لكنه غير فاش ، فإنه ظهر ببعض الأماكن، وبعض الأماكن لم يظهر بها شيء، والوقت بدرى ، فإنها خامس يوم من فصل الشتاء، والأمر لله يفعل ما يريد ولا يسأل عما يفعل.). أى بدأت بوادر الطاعون في القاهرة، ولابد أن يسود الذعر في أرجائها، يقول مؤرخنا في أخبار يوم الأحد أول رجب: ( والناس في أمر مدلج من غلو الأسعار وبوادر الطعن، (أى الطاعون) ببيوت بعض الناس بالقاهرة ،غير أنه قليل. ). وكالعادة يرتبط الطاعون بالغلاء، إذ تتوقف الأنشطة الاقتصادية في القاهرة وأعمالها ويلزم الناس بيوتهم وتشتعل الأسعار.
3 ـ وبمرور أيام شهر رجب انتشر الطاعون بالقاهرة. وكان مؤرخنا ابن الصيرفي يتبع الإحصاءات الرسمية بأعداد الموتى من الطاعون. في يوم الأربعاء 18 رجب وصل عدد من يموت بالقاهرة المحروسة إلى واحد وستين نفراً.. ثم وصل يوم الجمعة 20 رجب إلى مائة نفر، ويقول مؤرخنا ( فإن المائة التى ذكروها عن القاهرة كلها جاءه عدة من يموت وصلى عليه ) ويذكر أنّ من تمت صلاة الجنازة عليه بباب النصر أكثر من خمسين نفراً ، ( فما بالك ببقية المصلات التى بالقاهرة فإن عدتها سبع عشرة مصلاة وبهذا المقتضى لا نعتمد على ضبطهم . ). وهذه لفتة تضاف إلى رصيد الدقة والتحرى من جانب ابن الصيرفي. وكان ابن الصيرفي يأخذ إحصاءاته الرسمية من ديوان المواريث الحشرية،ويرى أنه لا ينبئ عن العدد الحقيقي للأموات.
وعن أحداث الخميس 26 رجب يقول:( وضبط اسم من يموت بالتعريف بالمواريث الحشرية من الأموات فبلغت مائة نفر وسبعة أنفار، وقد قدمنا أنه لا عبرة بضبط التعريف)، ثم يقول: ( وفي هذا اليوم أخذ الطاعون في الزيادة حسبما نذكره بعد ذلك بما ضبط من الأموات بمصلى باب النصر، فإنها أكثر وارداً من جميع المصلات.)
4 ـ ثم هلّ شهر شعبان وقد فشا الطاعون بالقاهرة ومصر وبولاق.. وقد ذكر مؤرخنا بعض الإحصاءات، ففي أحداث الجمعة 5 شعبان : ( وصل عدد الأموات بمصلي باب النصر والبياطرة إلى مائتى نفر بباب النصر مائة وثلاثون، والبياطرة سبعون، وقس على هذا ما بقي من المصلات بالقاهرة وهى خمس عشرة مصلاة.). وفي يوم الثلاثاء 19 شعبان مات جماعة من العسكر المملوكي المسافر لحرب شاه سوار، ماتوا بالطاعون قبل السفر، ووصل عدد الأموات بمصلى باب النصر أكثر من 230، وبمصلى البياطرة أكثر من 130، يقول مؤرخنا وقس على ذلك باقى المصلات.). وفي يوم الأحد 21 شعبان بلغ عدد الموتى الذين صلوا عليهم بمصلى باب النصر 441، يقول مؤرخنا: ( وقس على هذا بقية المصلات التى بالقاهرة وظواهرها، والناس يقطعون ويجزمون بأن من يصلى عليه بمصلى باب النصر من الأموات يكون أكثر عشر من يموت بالقاهرة ، فعلى هذا يكون عدد من يموت بالقاهرة وظواهرها في كل يوم أربعة آلاف إنسان وأربعمائة إنسان، ومعظم الطاعون الأن بأسفل مصر من جهة الحسينية وغيرها إلى بين القصرين، ومن جامع باب زويلة الطاعون أخف مما تتقدم.) . وفي يوم السبت 27 شعبان أول فصل الربيع بلغ عدد الموتى الذين صلى عليهم بمصلى باب النصر 407، وفي مصلى البياطرة 215، ومصلى المؤمني185.وفي يوم الاثنين 29 شعبان توفي بالطاعون طفل للسلطان السابق خشقدم وكان في السادسة من عمره.
5 ــ وبسبب كثرة الموتى بالطاعون يومياً فإن عدد المساجد أو المصلات التى كانوا يغسلون فيها الموتي لم يعد كافياً، لذلك أنشأ الداودار الكبير يشبك من مهدي مغسلاً خاصاً للأموات ليستوعب تلك الأعداد الزائدة، خصوصاً من الفقراء، وانتهى العمل في هذه المغسلة في شهر شعبان 873، وقد احتفل مؤرخنا ابن الصيرفي بهذا البناء وصاحبه الداودار الكبير، يقول : ( في هذا الشهر كان الفراغ من بناء المغسل الرابع الذى يعلوه بالرملية مقابل مدرسة السلطان حسن، أنشأه عظيم الدنيا على الاطلاق المقر الأشرف الكريم العالى الملاذى مدير المملكة ومشيرها ووزيرها واستادارها وداودارها الكبير وصاحب حلها وعقدها يشبك من مهدي أعز الله أنصاره، وأنشاؤه لهذا المغسل لأجل الأموات الفقراء، والغرباء بل غيرهم كافة، فحملوا له الخلق الأموات من كل فج ، وأقام به كتاباً يضبطون الأموات، وصار يغسلهم ويكفنهم ويحملهم من ماله ليدفنهم في المقابر، فجزاه الله عن المسلمين خيراً دنيا وأخرى وأحسن صنيعه وأكثر بره وخيره، واستمر هذا الخير متواصلاً باقياً مستمراً على الدوام.)
6 ــ وفي هذه الأيام وردت الأنباء بوجود غلاء ومجاعة في الشام فكانت هذه الأخبار مع طاعون القاهرة ومصر ومن أبرز المحن خصوصاً مع التجهيزات المملوكية لحرب شاه سوار بعد أن انتصر على العسكر المملوكي قبيل ذلك، يقول مؤرخنا عن أحداث الأربعاء أول رمضان: ( عظُم الخطب والمصاب بما دهم الناس من الطاعون بالديار المصرية وظواهرها ونواحيها وقراها وذلك ، مع شدة الغلاء المفرط أيضاً بمصر والشام، غير أن البلاد الشامية كان الغلاء فيها خارجاً عن الحد، وتزايد الطاعون في هذا الشهر.)
7 ــ إلا أن حدة الطاعون قد بدأتتتوقف بعد العشرة الأوائل من رمضان، يقول ابن الصيرفي: ( وبعد العشرة الأوائل من شهر رمضان أخذ الطاعون في النقص قليلاً بقليل بعد أن كان وصل في اليوم الواحد إلى خمسة آلاف على قول المكثر وفي قوله غيره أربعة آلاف، وكان معظم من يموت فيه من جنس المماليك وأولادهم الصغار والعبيد والجوارى والغرباء. ). وهذا يعنى أنه كانت للمصريين نوع من الحصانة تزيد بكثير على ما كانت للمماليك وأولادهم الغرباء، ومرجع ذلك إلى أن المصريين اعتادوا على هذا النوع من الأوبئة كان يأتى في دورة متتابعة ويحصد منهم مئات الألوف، ومن يبقي حياً تبى له نوعية من الحصانة قد يتغلب بها على الهجمة التالية للطاعون. وفي يوم الأربعاء أول رمضان توفيت بنت لأحمد بن السلطان الأشرف برسباى، ثم ماتت أمها أيضاً، وكانت أختها لأبيها قد ماتت قبل ذلك بأيام، وبذلك انقرضت ذرية السلطان برسباى بسبب ذلك الطاعون. وفي يوم الخميس 23 رمضان ماتت بالطاعون بنت السلطان قايتباى وكانت في الرابعة من عمرها، وفي نفس اليوم توفي ولد أخر للسلطان السابق خشقدم، وكانت لهما جنازة مشتركة، ويقول مؤرخنا أنه مع نقص الطاعون فالموت موجود بكثرة بين الأمراء والأعيان من المماليك.
وبمجئ عيد الفطر يوم الخميس ظهر واضحاً أن الطاعون قد بدأ ينكشف خطره وتراجع عدد الموتى الذين يصلون عليهم بمصلى باب النصر إلى 38 شخصاً، وبمصلى المؤمني إلى 17 شخصاً، ويقول ابن الصيرفي "غير أن العلة موجودة كثيراُ والموت فاشٍ".
8 ــ ثم انتهى وباء الطاعون من مصر وانتقل إلى الشام. وفي بداية السنة التالية محرم 874 فشا الطاعون في الشام ( حتى يصير الميت ثلاثة أيام لا يجد من يحمله إلا على سلم أو باب وأمثال ذلك، وتزايد الغلاء جداً عندهم )
9 ــ وودّع ابن الصيرفي هذا العام 873 بعبارات مريرة يقول: "وانقضت هذه السنة بعد أن قاسى الناس منها شدائد وبلاءاً ومحناً وإحنا من عظم الغلاء وكثرة الطاعون وخوف السبيل والطرق" . وكان الغلاء هو المحنة الأخرى التى نتوقف معها.الهوامش
- الهصر: 12، 16، 17، 31، 32، 46، 50، 53، 55، 57، 60، 118، 79.
أخبار الغلاء.. والأسعار
الغلاء مع الطاعون ومصائب أخرى:
يقول ابن الصيرفي يودع عام 873 وانقضت هذه السنة والناس في أمر جهيد وبلاء عظيم من كثرة الفتن وشتات العسكر المصري بالبلاد الحلبية، وفقدأكثرهم في واقعة شاه سوار، ثم مات منهم طائفة بالطاعون وغيره، فإن المماليك السلطانية لما عادوا إلى الديار المصرية اعتراهم في الطريق مرض فمات من المماليك السلطانية خلائق كثيرون، وصار الموت معهم طوال الطريق إلى أن وصلوا إلى القاهرة. وأيضاً الطاعون الذى وقع بمصر ثم بالبلاد الشامية إلى الآن،) . ويقول عن عام 874 : ( وعظُم الغلاء بالديار المصرية حتى وصل أردب القمح إلى ألف درهم، ووقع الغلاء بالديار الشامية أعظم من الديار المصرية. ). أى جاء الطاعون كالعادة وقد صحب معه الغلاء، ثم أضيفت لذلك نكسة الجيش المملوكى في شمال حلب أمام شاه سوار، والمماليك نشروا جراثيم الطاعون ما بين الإسكندرية والقاهرة ومدن الشام ، وأينما يسير الطاعون فالغلاء في ركبه، كانت محنة مركبة، وما يعلم جنود ربك إلا هو.
أسباب متنوعة للغلاء:
1 ــ مع بداية الطاعون خاف المسئولون من الغلاء فحددوا تسعيرة للقمح الأردب بأربعمائة درهم، وأدت المناداة بالتسعيرة الجديدة إلى ارتفاع سعر القمح وباقى الحبوب، وخصوصاً وأن النيل توقف عن الزيادة، وبدأ الناس في تخزين القمح والمواد الغذائية، وفي ذلك يقول مؤرخنا في أحداث يوم الاثنين 10 صفر 873 : ( وفي هذا اليوم نودى بالقاهرة وظواهرها حسب المرسوم الشريف أن الأردب القمح بأربعمائة درهم ، وهددوا من باع بأكثر من ذلك، فلم يكترث أحد بهذه المناداة، وأن القمح كان وصل إلى ستمائة درهم الأردب والشعير إلى ثلاثمائة والفول إلى مائتى درهم فأصبح سعر القمح بعد المناداة إلى سبعمائة الأردب، وكذلك الشعير والفول، وسبب ذلك أن البحر كان توقف عن الزيادة من يوم الثلاثاء رابع صفر لآخر مسرى أياماً كثيرة، فقلق الناس من عدم الزيادة ، وحصل عندهم هلع وجزع ، ثم جاءت الزيادة فامتنع الناس من بيع القمح . والناس محتاجون له فزاد سعره ، ثم زاد البحر بعد ذلك ووفّي وزال نقصه ، فالحمد لله.).
2 ــ ومع ذلك ازدادت الأسعار ووصل سعر الأردب من القمح إلى تسعمائة درهم وارتفعت أسعار المأكولات بصفة عامة، ويرجع ذلك بالإضافة للطاعون وقلة الجهد المبذول في الزراعة إلى استيلاء الأعراب على الدلتا منتهزين انشغال المماليك بالاستعداد الحربي الثائر من هزيمتهم أمام شاه سوار ومعاناتهم من الطاعون، ثم إلى الهزة النفسية التى أحدثها نقصان النيل في القاهرة بعد أن فتح سد بنى منجا وامتلاء ذلك الفرع بالماء على حساب المستوى العام للنيل في القاهرة. يقول مؤرخنا في أحداث يوم الاثنين أول ربيع الأول 873 : ( .. والأسعار في نمو وزيادة ، لاسيما الحبوب ، فإن القمح وصل إلى تسعمائة درهم الأردب والشعير بستمائة درهم ، وهو عزيز الوجود ، والفول إلى أربعمائة درهم ، ولكنه موجود .وسائر ما يؤكل غلا ثمنه وعُدم.).
ويحاول مؤرخنا أن يفسر سبب ذلك الغلاء فيقول: ( وأصل هذا الغلاء استيلاء العريان على أسفل مصر من الوجه البحري ، وخسّة الزروع ، ونزول البحر بسرعة ، فإنه من يوم فتح سد بنى منجا.. نقص نقصاً فاحشاً ، ولم يلبث اليوم الواحد ، بحيث أن الناس ازدحموا على ملء الصهاريج بالصحراء وغيرها ــ كما هى العادة المألوفة ــ ازدحاماً شديداً خوفاً أن يفوتهم ذلك لنقص البحر، مع أن غالب الخلق ملأوا من خليج الزعفران لفقدهم الماء من الخلجان ، فإنه هبط هبوطاً لا يتدارك ولا يعود، ووقع الزرع بالقليوبية وغيرها على المحاريث وحرثوا والوقت في العشر الثالث من توت، والمثل الساير: من لم يزرع في بابه لم يأكل لبابه. فما بالك بزرع توته، والأمر كله لله يتصرف في العبيد بما يريد.).
3 ــ وفي يوم السبت 20 ربيع الأول 873 نودى ألا يباع القمح بأكثر من أربعمائة درهم يقول مؤرخنا "ففرح الناس بذلك ، ودعوا له ، فإن القمح وصل إلى ثمانمائة درهم بالأردب، ثم إن بعض الناس ذكر إن ذلك معاكسة لابن عمر الهواري فإنه أرسل كثيراً من القمح ليبيعه، ومع ذلك أزداد سعره، ولما نادوا عليه بأربعمائة درهم نهب الناس والعوام غالب الحوانيت بباب الشعرية وغيرها وعاد الأمر إلى ما كان عليه . ).
وفعلاً عاد الغلاء في غالب الأقوات، ويفصّل مؤرخنا الزيادات الجديدة في الأسعار في أحداث الاثنين 6 ربيع ثان873 فيقول: ( وأما الغلاء فاستمر بالديار المصرية في سائر الأقوات لأن القمح وصل إلى تسعمائة درهم الأردب والشعير إلى ثلثمائة الأردب فأكثر،ثم غلا الشعير والفول بعد ذلك إلى أن زاد الأردب على أربعمائة بحوانيت السوق والباعة، وأما الجبن الأبيض فوصل إلى عشرة دراهم الرطل،وقس هذا على سائر المأكولات. وطال هذا الغلاء ونمو السعر بمصر وضواحيها وقراها. فلله الحمد على كل حال.)
واكب هذا انتشار الطاعون من الإسكندرية للدلتا ودخوله للقاهرة، ثم ازدادت الأسعار في أول جمادى الآخرى 873 وتزايد سعر الحيوانات جداً، وكان الطاعون حينئذ يعمل عمله في الدلتا والقاهرة وبانتهاء هذا العام وصل أردب القمح إلى ألف دينار.
4 ــ وبينما انتهى الطاعون. فإن الغلاء استمر.. كأنه القدر المكتوب، ففي شهر محرم 874 وصلت الأخبار من الوجه القبلي أن القمح بلغ ثمنه إلى ستمائة درهم الأردب وأنه عزيز الوجود، وأن الوباء انتقل من البقر للبشر، وهو وباء غير الطاعون، إلا أنه مثله زاد من الغلاء، وأثر بالتالى على أسعار القمح الوارد للقاهرة فارتفع سعر الغلال فيها إلى 1200 درهم الأردب القمح أما الفول والشعير بأقل من سبعمائة، ويقول مؤرخنا : ( والحمل التبن بثلثمائة ، والرطل الخبر بسبعة دراهم.). وكانت تلك أسعار شهر ربيع الثاني 874 .
ويقول مؤرخنا في أحداث الخميس أول رجب 874 : (..هذا والغلاء موجود في سائر المأكولات لاسيما سعر الغلال فإن القمح وصل إلى ألف درهم ومائتى درهم الأردب، والشعير والفول بنحو ذلك، وقد طال هذا الغلاء بمصر والقاهرة وضواحيها نحو ثلاث سنين فلله الأمر.). أى أن الغلاء استمر من 873 : 875هـ.
وكان صعباً أن يأتى رمضان والأسعار بهذا الشكل، خصوصاً وأن الشعير والفول ازداد ثمنها تقريباً إلى سعر القمح، لذا فتح السلطان مخازنه وأنزل كميات ضخمة للاسواق فنزل السعر قليلاً، وفي ذلك يقول ابن الصيرفي في أحداث الأحد أول رمضان 874 : ( صعد المحتسب وشكي للسلطان من القمح وأنه وصل إلى ألف وثلاثمائة الأردب ، فرسم أن ينادي عليه بألف درهم ، وفتح شونته وباع بهذا السعر ، فهرع الناس وابتاعوا من السلطان فمشى الحال قليلاً ، وصار الخبز بستة دراهم الرطل، وكان وصل إلى تسعة الرطل والشعير وصل إلى تسعمائة درهم الأردب فأبيع هذا اليوم بدون الستمائة.).وبهذا يتميز (قايتباى) عن (حسنى مبارك) الذى كان يسرق وينهب ويحتكر ويهرّب الأموال للخارج ويبتهج بجوع المصريين.
أنواع الطعام وأسعارها 875هـ:
1 ــ واستمر الغلاء إلى السنة التالية 875هـ وفي أول محرم السبت 875 يورد مؤرخنا أسعار السلع الغذائية بالتفصيل، ومنه تعرف نوعيات الطعام المنتشرة وقتئذ، يقول عن بداية أول محرم لسنة 875 : ( واستهلت هذه السنة والأسعار بحالها وزيادة ، فإن القمح الطيب بتسعمائة وما دونه بثمانمائة الأردب، والدقيق كل بطة ( بطة الدقيق مكيال يساوى خمسين رطلاً ) بمائتى درهم وعشرين درهما، والشعير بثلاثمائة وثمانين درهماً الأردب، والفول بقريب ذلك، والقفة الدريس بدرهم وهو رخيص بالنسبة للعام الماضى، والتبن موجود كثير، كل حمل بخمسة أنصاف،(النصف عُملة صغيرة من الفلوس الفكة)، أو أكثر بحسب حشوه وما فيه. واللحم الضانى بعظمه بتسعة دراهم ، والرطل وبلا عظم باثني عشر درهماً، والبقرى بستة دراهم الرطل، والدجاج لا يوجد إلا نادراً عند الأكابر، أما السمين منه فعديم الوجود، وكل طائر منه بأربعة أنصاف، والفروج الواحد بلغ إلى خمسين درهماً ، وليس فيه أوقيتان من اللحم، والأوز موجود لكن بثمن زائد على ثمنه مرة واحدة، فإن ثمن الفروج المليح ستة أنصاف فوصل في هذه السنة إلى ضعف ذلك.). ثم يتحدث مؤرخنا على أسعار المواد الغذائية الأخرى فيقول عن الخبز في المخابز، وأما الخبز عند الباعة فصغير جداً، والمأوى نصف رطل ويعجز عنه أيضاً بدرهم، والرومي أقل منه بنصف أوقية ) . ونفهم من ذلك أن الخبز كان أنواعاً، وأن أصحاب المخابز انتهزوا الفرصة فانقصوا وزن الرغيف وخلطوه بالشعير، بل زادوا من نسبة الشعير، واضطر الناس لأكل الرغيف الشعير، وللضرورة أحكام. وبعد الخبز يتحدث صاحبنا عن ( الغموس).يقول: ( والجبن الحالوم باثنى عشر درهماً الرطل ، والأزرار بثمانية دراهم الرطل ، والمقلى بأحد عشر درهماً الرطل.). وهكذا عرفنا أنواع الجبن في العصر المملوكي الحالوم والأزرار والمشوى والمقلى. تُرى هل كانت ألذ من الجبن الرومي والثلاجة والاستانبولى والدمياطى.الله أعلم.!!
ويستمر في أخبار التسعيرة:( وأما العسل النحل من عند الزيات بأربعة وعشرين درهماً الرطل، والعسل الأسود باثني عشر درهماً الرطل، والسيرج بثمانية عشر درهماً الرطل، والزيت الطيب كذلك، والحار بتسعة.والأرز من عند الباعة بنصفين القدح،غير أن الفاكهة والبطيخ رخيصان، والعبدلى كذلك.).ثم يصف مؤرخنا الأحوال العامة في هذا الغلاء:( وأما الناس فصاروا ثلاثة أثلاث: الغنى افتقر والمكتسب ما يفي بنفقته، والفقير فبعد أن كان يسأل في الرغيف صار يطلب لقمة أو لبابة.).أى كسرة خبز!.وهى عبارة مختصرة موجعة.
وعادة فالذى كان يقاسى أكثر من ذلك الغلاء هو الفقير، ولم يكن يهتم بأسعار اللحوم والفواكه وأصناف الجبن والخبز والعسل والزيت، وإنما كان يهتم بمجرد كسرة، وبعد أن كان يسأل طالباً الرغيف، أصبح غاية أمله أن يحصل على كسرة، أو لبابة خبز.
وأغلب أجدادنا كانوا من أولئك الفقراء. وإذا كان ابن الصيرفي وأمثاله من أرباب الوظائف يشكون لطوب الأرض من ارتفاع الأسعار فإلى من كان يشكو الفقراء الذين كانوا لا يجدون ينفقون أو يأكلون.
إنّ الله سبحانه وتعالى ولى الصابرين.. وكم صبرتم يا أجدادنا.
نقص النيل وارتفاع الأسعار:
وفي هذه الظروف الدقيقة كانت أى إشاعة عن نقص النيل تدفع للمزيد من التدهور والغلاء وتخزين الحبوب، وحدث أن أشيع نقصان النيل فانتشرت الشائعات ، وتوقف البيع ، وبدأ تخزين الحبوب، وأمسك التجار عن توصيل الحبوب للقاهرة، لولا أن لطف الله تعالى بالناس فزاد النيل وتنفس القاهريون الصعداء. وفي ذلك يقول مؤرخنا في أحداث شهر صفر 875 : ( وكثر القيل والقال بين الخلق لعدم زيادة النيل مع أن الباقي عليه إصبع، ثم شاع أنه أوفي فلم يصح، ثم نقص، وبادر الخزانون في الغلال يخزنونها فعليهم من الله ما استحقوه. ولما بلغ ذلك أهل البلاد ( تجار الحبوب الذين يستوردونه من الريف ) مسك الجالبون بيعهم وامتنعوا مطلقاً، وبعد أن كانت المراكب على ساحل مصر وبولاق بالغة، رحلوا عنها إلى طره وما فوقها لينظروا ما يتفق، فقدر الله سبحانه من كرمه أن زاد في يومه وأوفي الستة عشر ذراعاَ وإصبعين من الذراع السابع عشر.).
استمرار الغلاء بسبب حمق المحتسب:
وانتهت أزمة الحبوب وتوافرت في الأسواق، بعد أن عادت سنابل القمح تزدهر في الحقول، ولكن استمر الغلاء في أسواق القاهرة لسبب آخر هو حمق المحتسب يشبك الجمالى.
والغلاء الذى كان في أسواق القاهرة 876، 877 تركّز في المواد الغذائية مثل الخبز والجبن واللحوم وغيرها.. والسبب هو فساد أعوان المحتسب وإفسادهم للأسواق، وقد حدثت جفوة بين السلطان والمحتسب بسبب مشكلة مالية بينهما، فاعتزل المحتسب في بيته وترك الأسواق لأعوانه المفسدين يتحكمون فيها كيف شاءوا.
وابن الصيرفي الذى كان صادقاً في تعبير عن كراهية الناس لذلك المحتسب، يصف الحال الذى عاشته أسواق القاهرة في ذى القعدة 876 يقول : ( إن البلد لها خمسة أيام في أمر مرير وهلع زائد وتشويش مفرط بسبب عدم الخبز في الحوانيت، فإن الباعة صاروا ما يحضرونه لحوانيتهم ، ويبيعونه في الأفران ، فارتاع الناس لذلك ، وكثر الزحام على الأفران، وصار له من عادة بشراء رغيف يشتري ثلاثة، وصِغُر الرغيف جداً مع سواده وفحش صنعته، كل ذلك والمحتسب ــ عزله الله عن المسلمين في أقبح صورة ـــــ مقيم بداره في شممه وغضبه على السلطان، ووكّل بذلك البلاصية، (أى الحرامية) واعوانه الذين يأكلون البرطيل (الرشوة) ببابه ، وأخربوا البلد ، حتى صار كل رسول منهم عنده القماش والبغال والعبي ( العباءات ) والصوف والمسنجب ( ملابس من فرو السنجاب ) وأمثال ذلك ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.).
كان الخبازون يحملون الخبز ليباع في الأسواق، ولكن بسبب حمق المحتسب وفساد أتباعه أتيح لهم أن يصغروا حجم الرغيف وأن يسيئوا صنعه وأن يكتفوا ببيعه في المخبز حيث يتزاحم عندهم الناس طوابير، أى أن الطوابير على الخبز قديمة العهد في القاهرة المحروسة، وهى في الأغلب لسوء الإدارة وفسادها، وكالعادة يتصرف المصريون بتخزين السلع، ومن يحتاج إلى رغيف واحد يشترى ثلاثة، كأن ابن الصيرفي يعيش عصرنا.
والمهم أن أسعار الحبوب هبطت ولكن الأزمة استمرت في الخبز ببركة المحتسب، يقول مؤرخنا: ( ومن أعجب العجائب أن هذا المحتسب من حين ولاه السلطان الحسبة ما كشف البلد بنفسه مرة، فأين هذا من ابن العجمي، ومن قاضى القضاة بدر الدين العينى، الذى ما يرضوه أن يكون طالباً عندهم، كانوا مع ذلك يركبون ويدورون بأنفسهم وينظرون في مصالح المسلمين، رحمها الله، ووصلت البطة الدقيق إلى مائة درهم بعد سبعين، وصار القمح بدينار والشعير بأحد عشر نصفاً، ولعمري هذه المصيبة التى أصابت المسلمين بولاية الحسبة الأتراك (أى المماليك ) ما كان ابتداؤها إلا في زمن المؤيد شيخ، وإلا من أين للأتراك أن يباشروا هذه الوظيفة السنية.). وابن الصيرفي يعلن نقمته على تولية المماليك لوظيفة الحسبة وهى أصلاً للفقهاء والعلماء لأنها داخلة في الوظائف الدينية.
قايتباى يفرض تسعيرة ويصلح الحال:
وظل الحال على ما هو عليه إلى العام التالى 877 . وحدث يوم السبت 3 ربيع الأول 877 أن وصل السلطان للقاهرة من رحلته في الشرقية ، فوقف له العوام بين القصرين يطلبون منه محتسباً لما نزل بهم من التجار والخبازين من تصغير وزن الخبز وزيادة ثمن اللحم النيئ والجبن وسائر السلع الغذائية، هذا مع أن ثمن الأردب من القمح كان مائتي درهم فقط، والأبقار والأغنام رخيصة جداً. ويستمر صاحبنا ابن الصيرفي يصف جشع التجار وكيف يبيعون الرخيص بالثمن الفاحش وكيف أضرّوا بحال الناس، مما جعلهم يقفون للسلطان مرة ثانية بالرميلة، فأمر السلطان الأمير قجماس أمير آخور أن يطلب الخبز وينظر في أمر المسلمين فنزل الأوجاقية وأحضروا له الخبز من الأسواق ليفحص حاله. وفي يوم الثلاثاء 6 ربيع الأول أمر السلطان بأن ينادي في القاهرة بتسعيرة جديدة، أن اللحم الضأن من المعلوف بعشرة دراهم الرطل والصغير كذلك، والمشوى باثني عشر درهماً للرطل ، والمسلوق بأحد عشر درهماً، والتبرمان بأربعة عشر درهماً الرطل، والبقرى المطبوخ بأربعة، واللحم الضانى السليخ بعظمه بسبعة دراهم الرطل، والسميط بستة دراهم، والجبن المقلى بسبعة دراهم والأبيض بخمسة والحالوم بستة والدقيق بستة البطة، والخبز الماوى تسع أواق بدرهم، والرومي ثماني أواق بدرهم. فاطمأن الناس كافة بذلك المناداة، وذلك بعد أن طلب السلطان السوقة ( أى تجار السوق)، بين يديه والطحانين، (أى أصحاب المخابز)، وهددهم بقطع الأيادى والتوسط، ثم رسم للصاحب قاسم الذى هو الآن ناظر الدولة بالتكلم في الحسبة إلى أن يختار بنفسه محتسباً.).
( وفي محرم 875 كان ثمن الرطل من اللحم الضانى بعظمه 9 دراهم فأصبح الأن سنة 877 بسبعة دراهم فقط، وكان الجبن الحالوم بإثنى عشر درهماً فأصبح بستة دراهم فقط، وكان ثمن الجبن المقلى 11 درهماً فأصبح سبع دراهم فقط . ). ونعرف من النص السابق أن الأسواق المصرية في القاهرة كانت تبيع اللحم المشوى والمسلوق من الضأن والبقر بأسعار لا تزيد كثيراً عن اللحم النيئ، فاللحم الضأن المعلوف السمين بعشرة دراهم للرطل أما إذا كان مشوياً فهو بإثنى عشر درهماً، إذا كان مسلوقاً فهو بأحد عشر درهماً، وكان اللحم البقرى النيئ سنة 875 يباع الرطل منه بستة دراهم فأصبح الرطل منه مطبوخاً يباع بأربعة فقط.
وقد ضجّ الناس من جشع التجار ووقفوا للسلطان فتحقق من الأمر ففرض التسعيرة الجديدة، وتبدو عدالتها واضحة. ثم أحضر التجار وأصحاب المخابز بين يديه وهددهم بقطع أيديهم وإعدامهم وتقطيعهم نصفين، بالتوسيط إذا لم يلتزموا بتلك التسعيرة. فالتزموا خوف التوسيط .!!..( ناس تخاف ولا تختشى !...). ثم أوكل لناظر الدولة بالقيام بوظيفة الحسبة إلى أن يعين محتسباً جديداً، وحدث فعلاً أن عين محتسباً جديداً هو القاضى بدر الدين ابن كاتب السر ابن مزهر الأنصاري.
وعموماً فقد كانت الأسعار هادئة ورخيصة في العصر المملوكي الأول حتى أواسط القرن الثامن الهجرى 750هـ فكان أردب القمح بحوالى 15 درهماً، ورطل اللحم بحوالى نصف درهم، ثم بدأ الغلاء يتحرك في الدولة البرجية المملوكية حتى إذا وصلنا إلى عصر قايتباى وجدنا أردب القمح يرتفع إلى أكثر من ألف درهم.. والسبب كثرة الطواعين ونقص الأيدى العاملة.
والفارق بين الدولة المملوكية البحرية والدولة المملوكية البرجية يذكّرنا بالفارق بين دولة العسكر فى عهد عبد الناصر ودولة العسكر فى عصر الواطى الوضيع حسنى مبارك، رأس الاستبداد والظلم والفساد. وحيث يوجد الفساد فلا راحة للعباد. والرخاء والفساد لا يجتمعان أبداً..
ولا يظلم ربك أحداً.
الهوامش
- الهصر: 114، 13، 14، 17، 28، 32، 46.
- الهصر: 125، 152، 159، 162.
- الهصر: 187، 188، 205، 206.
- الهصر: 430، 431، 476، 477.