كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى):دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .
الباب الأول :طوائف المجتمع المصري في ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى
الفصل الرابع عشر : الأعـــــراب في ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى
بداية الصراع بين الأعراب والمماليك:
بدأ الصراع بين المماليك والعُربان منذ بداية الدولة المملوكية، وأخمد المماليك ثورة الشريف حصن الدين ثعلب الذى قال:( نحن أصحاب البلاد )، وقال عن نفسه، ( أنا أحق بالمُلك من المماليك ) ، وقد بلغت قوة الأعراب تحت قيادة حسن الدين ثعلب اثنى عشر ألف فارس، ولكنهم انهزموا أمام قوة المماليك المنظمة، وخدع المماليك البقية التى استسلمت بعد الهزيمة فشنقوهم بعد أن أعطوهم الأمان، وتبدد شمل الأعراب بعدها كما يقول المقريزى فى تاريخ (السلوك). ثم بدءوا في التحرك بعد أن ضعفت السلطة المملوكية في أواخر القرن التاسع وغدوا أصحاب سطوة قبيل سقوط الدولة المملوكية بدءا من عصر قايتباى.ولكن عاملهم قايتباى بكل قسوة وفق شريعته السّنية التى تبيح له ما شاء من أحكام للحفاظ على ( هيبة الدولة ) .
أهم قبائل الأعراب الثائرة في عصر قايتباى:
1 ــ أعاد الأعراب ثوراتهم ضد المماليك في عصر قايتباى، وأهمهم قبائل بنى حرام وسعد وعرب بني عدى وعرب غزالة وعرب لبيد.
2 ــ وقد كان بنو حرام وبنو سعد يثيرون الشغب في البحيرة، فأرسل لهم قايتباى حملات عسكرية وعاقبهم بمنتهى العنف ، وقد انشغل قائد الجيش المملوكى (الأتابك) أزبك بحربهم طيلة عصر قايتباى. وفي يوم الثلاثاء 25 صفر 876 حضر الأتابك أزبك من إحدي غزواته في البحيرة ووصل إلى القاهرة ومعه (19) رجلاً من بنى حرام فوسّطوا (15) رجلاً منهم بباب النصر ، ووسّطوا أربعة بقنطرة الحاجب، وكان بينهم صبي دون البلوغ وقد سألوا في العفو عنه فما أجابهم السلطان. وقد انتقم أعراب بنى سعد وحرام لما حدث فأغاروا ونهبوا عدة قرى وبلاد فأرسل السلطان حملة أخرى لردعهم يتزعمها الأمير تمر حاجب الحجاب.
3 ــ وفي يوم الجمعة 18 ربيع الثاني 876 هرب أحد كبار بنى حرام من سجن الجرائم وهو ابن زامل.
4 ــ وقد وصلت غارات بنى سعد وحرام إلى أطراف القاهرة وبسطوا نفوذهم على أهل خانقاه سرياقوس ( الخانكة حاليا ) وهى تشبه القلعة ومحطة السفر والوصول للقاهرة من ناحية الشرق. وفي 5 ذى القعدة 876 اشتكى أهل الخانقاه لناظر الجوالى ابن عبد الباسط ( ما نزل بهم من عرب بنى حرام، فإنهم أخذوا من كل دار شيئاً معلوماً ومن كل حانوت كذلك ومن كل معصرة كذلك ومن كل طاحون، وجاء ما أخذوه من أهل الخانكاة نحواَ من ثلاثمائة ديناراً وستين دينار، وشاع هذا وتواتر، وصاروا في وجل فإنهم هددوا أنهم أن شكوهم للسلطان ينهبونهم ويقتلونهم.)
5 ــ وحدثت حروب بين بنى حرام وبنى سعد بن وائل، وانهزم بنو حرام وهربوا إلى ظاهر القاهرة ودخلوا الحسينية وقنطرة الحاجب، يقول مؤرخنا : ( وصاروا يشلحون المسافرين والقادمين، وامتنع المسافرون من التوجه للخانقاه وغيرها) ، فأرسل السلطان حملة لمطاردتهم وأمر الأمير قانصوه بالإقامة في الشرقية ليحول بينهم وبين تهديدهم للقاهرة والخانقاه. واعتقل الأمير قانصوه ثلاثة من كبار عرب بى حرام، وكانوا قد تسللوا إلى جوار غيط إبراهيم المتبولى الشيخ الصوفي المشهور، وقام قانصوه بسلخ أولئك الثلاثة وأشهرهم في القاهرة ومعهم أربعة آخرين وأودعهم السجن، ثم صلبهم أياماً ليرتدع بهم المفسدون على حد قول صاحب الهصر. واشترك في الثورة عرب بني عدي، وفي يوم الخميس 14 ربيع الأول 874 كان الداودار الكبير يشوى بالنار أحد مشايخ بنى عدي بعد أن ضربه بالمقارع.
6 ــ وأقام عرب غزالة بالبحيرة وقد انتشر بينهم الطاعون 873 فمات من زعمائهم ثمانون نفراً ، وأدى ذلك إلى خمود ثوراتهم بعض الشيء خصوصاً وأن السلطان أمر كاشف البحيرة بأن يقطع رأس من يقوم منه بالسلب والنهب.
7 ــ أما عرب لبيد فقد وصل الخبر 10 محرم 875 بأنهم نزلوا على البحيرة ونهبوا ما حولها. وقبلها في يوم الأربعاء 17 ربيع الثاني 874 وصل الخبر أن عربان لبيد هجموا على جيش المماليك في البحيرة فاضطر القائد المملوكي يشبك جن إلى الرجوع إلى دمنهور بعد أن قتلوا من مماليكه عدة، فلما بلغ السلطان ذلك أرسل حمله لينصروه، ( وورد الخبر أن الأعراب اقتتلوا مع الداودار الكبير وقتل من الفريقين ما الله أعلم بذلك) . وفي يوم الاثنين 15 محرم 875 سافرت حملة مملوكية يقودها الأتابك أزبك للبحيرة وصحبته كثير من الأمراء للقضاء على خطر أعراب لبيد، حيث كانوا ينهبون الأغلال. وكان أعراب لبيد قد حاصروا الأمير يشبك جن أحد المقدمين الألوف فى دمنهور ، وكان هذا الأمير قد توجه قبل هذا الشهر وصار بدمنهور ( وركب هو وأهل دمنهور الأسوار يرمون السهام والحجارة على أعراب لبيد الذين يحاصرونهم.) ، وأتت الحملة المملوكية لنجدة الأمير يشبك جن بقيادة قائد الجيش المملوكى أزبك ، وكان من الأتابك مجموعة من ألمع الأمراء المماليك مثل أزدمر الطويل وقراجا الطويل وتنبك قرا الدوادار الثاني، مع خمسمائة من المماليك السلطانية، فافترقوا فرقتين ليقبضوا على العربان.
8 ــ ونجح المماليك في إخضاع بعض الأعراب إلى حين ، وعقد محالفات مع البعض الآخر، ولكن كان تلك العلاقات تنتابها الشكوك وسوء النية من الجانبين.
ومثلا اشتهر فى عصر قايتباى الشيخ عيسى بن بقر شيخ عرب الشرقية، وقد قبض عليه الداودار لكبير يشبك من مهدى وأمر بسلخه بين يديه، وبلغ السلطان ذلك فأرسل ابن عبد الباسط يطالب ابن بقر بدفع عشرة آلاف دينار في نظير أن يفتدي نفسه من السلخ، وجاء ابن عبد الباسط فوجد الداودار الكبير قد سلخ من رأس عيسي بن بقر قطعة، ووافق عيسى على أن يدفع فأمهلوه حتى دفع ، وأطلقوا سراحه . وحدث ذلك في يوم الخميس 5 جمادى الثانية 875 أن عاد عيسى إلى عصيانه، فقبضوا عليه وجئ به بين يدى السلطان يوم الأحد 29 ذى القعدة 875 فأمر السلطان بضربه فضربوه ضرباً مبرحاً وأمر بسجنه في المقشرة. وقد كان عيسى بن بقر هذا معيناً من قبل السلطان في نواحى الشرقية ، ولكنه تمرد وأحرق منطقة قطيا وقتل جمعاً من أهلها ، ورفض الامتثال لأوامر السلطان ومقابلة الداودار الكبير، فأرسل السلطان الأمير قانصوه الجمالى الكاشف ليقبض عليه فوقع بينهما قتال ، ثم تمكن قانصوه من القبض عليه بالحيلة ، وجئ به للسلطان ليلقى جزاءه، وأمر السلطان بتعيين ابن عمه مكانه وهو بقر بن راشد فأصبح شيخاً لأعراب الشرقية ، وأمره قايتباى أن يحاسب عيسى بن بقر على ما في يده من أموال للسلطان . وتسلّم بقر بن راشد ابن عمه عيسي بعد أن أصبح أميراً على أعراب الشرقية من طرف السلطان وذلك يوم الخميس 3 ذى الحجة 875.
9 ــ وتناثرت أخبار الصراع بين الأعراب والمماليك في تاريخ لهصر، ونقتطف منه بعض الأحداث :
ففي يوم السبت 10 شوال 873 سافر الداودار الكبير إلى البحيرة لقتال الأعراب.
وفي يوم الثلاثاء أو محرم 874 دخل الوالى القاهرة وكان له أيام غائباً مع عدة من المماليك للقبض على المفسدين من الأعراب، ورجع ومعه أربعة أعراب ( ماشون في الحديد وعدة من الرماح والخيول.) .
وفي يوم السبت 5 محرم 874 جاءت للسلطان غنائم من خيول الأعراب المفسدين كانت 130 فرساً بعد أن تم توسيط أصحابها، وأرسلوا عدة منهم في الحديد، وجهزوا أربعة رؤوس آدمية مقطوعة فأشهروها بالقاهرة، وضربوا الأسرى بالمقارع وسجنوهم في سجن الجرائم.
وفي يوم الثلاثاء 8 محرم 874 وصل من عند شيخ الأعراب ( ابن عمر) من الوجه القبلي هدية للسلطان وهى مائتا فرس. وهذا الخبر دليل على وجود نوع من التحالف المؤقت بين بعض الأعراب والمماليك وهو تحالف لم يكن ليدوم.
وفي يوم السبت 19 محرم 874 أرسل الأمير برقوق تسعين رأساً من الخيول للسلطان وكان الأمير برقوق يحارب الأعراب المفسدين في الشرقية، على حد قول مؤرخنا..
وفي يوم الجمعة 7 محرم 875 بعد صلاة الجمعة وصل المبشر من الحجاز المسمى قانصوه الجمالى وهو عريان وليس معه أحد سوى هجّان واحد وذكر أن الأعراب فى صحراء الجزيرة العربية سلبوه وعرّوه، ويذكر مؤرخنا أنهم ( رجعوا به إلى خيبر وأرادوا قتله، فنهضت امرأة منهم وأظهرت أبزازها ) فأنقذته منهم ( وحضر بهذه الحالة.).!!
الريف المصري مسرح الصراع بين المماليك والأعراب:
1 ــ وكان الريف المصري هو مسرح المعارك بين المماليك والأعراب، وتنافس الفريقان على الاستئثار بالريف والتحكم في أهله، وأدى ذلك بالطبع إلى تدمير الريف والعسف بأهله.
في بداية عهد قايتباى قام الأعراب بثورات متتابعة وقد انتهزوا فرصة انشغال قايتباى بثورة شاه سوار، يقول مؤرخنا في أحداث محرم 873 ( وكثُر في هذه الأيام فساد العربان على غالب البلاد القبلية والبحرية حتى أخربوها وكذلك غالب البحيرة. وذلك لاشتغال السلطان بتجهيز العساكر وتكفيتهم بالنفقة لأجل شاه سوار)، يعنى هذا أن ثورات العريان ارتبطت بتخريب البلاد أو حسب تعبير الصيرفي: (كثُر في هذه الأيام فساد العريان على غالب البلاد القبلية والبحرية حتى أخربوها ) ، أى أنهم استولوا على غالب الريف المصري في الدلتا والصعيد، وبالتالى دمروه فى وقت غنشغال قايتباى فى القاهرة بإنفصال شاه سوار عن الدولة المملوكية فى شمال العراق .
2 ـ وهذا التخريب كان يستلزم إصلاحا ، وكان القائم على مواجهة تخريب الأعراب هو أيضا القائم على تعمير ما خرّبه الأعراب . وفي ويم الاثنين 15 ربيع الأول 873 سافر الأتابك أزبك لمواجهة العربان في البحيرة ولتعمير ما أفسدوه وما خربوه، يقول مؤرخنا : ( وفي هذا اليوم سافر الأتابك أزبك بن ططخ بالأمر السلطانى إلى البحيرة لدفع المفسدين من العربان عنها وعمل مصالح الرعية والفلاحين والمزارعين.).
3 ــ وأدت ثورات الأعراب وتخريبها الريف المصرى الى تعطيل جزئى للزراعة مما أدّى إلى قيام الغلاء الفاحش سنة 873 يقول ابن الصيرفي ( وأصل هذا الغلاء استيلاء العربان على أسفل مصر من الوجه البحري. ).ثم عاد الأتابك أزبك من البحيرة ووصل القاهرة يوم الاثنين 13 ربيع ثاني 873 بعد أن أدب الأعراب وأعاد الطمأنينة لريف البحيرة يقول مؤرخنا: ( قدم الأتابك أزبك بن ططخ من البحيرة بعد أن وطنها ووطن أهلها وعمل مصالحهم.). ثم عاد الأعراب من لبيد يخربون ريف البحيرة وقد اشتد خطرهم وسلبوا غلال الفلاحين، فسافر لهم الأتابكي أزبك في 15 محرم 875 وفي خدمته عدة كثيرة من الأمراء، يقول ابن الصيرفي ( بسبب عربان لبيد فإنهم نزلوا على أخد غلال الناس ). وجاء عام 875 وقد خضع أعراب البحيرة للقائد أزبك الذى أرسل للقاهرة بأن الأعراب أرسلوا له هديتهم دليل الخضوع للدولة ، وأنه شرط عليهم أن لا يقيموا في ريف البحيرة أكثر من عشرين يوماً ثم عليهم أن يرحلوا. وانتهت مؤقتاً مشكلة أعراب البحيرة وتخريبهم فيها. وسافر الأتابك أزبك إلى البحيرة يوم الأحد 21 ربيع ثاني 876 ( لتخضير البحيرة ) ، أى نشر الزرع الأخضر فيها بعد أن دمرها الأعراب. ثم وصل أزبك من البحيرة للقاهرة ليلة السبت 25 جمادى الأول 876 ولم يكتمل تخضير البحيرة، يقول مؤرخنا يعلل السبب: (... مما صنع فيهم ابن غريب من الظلم في العام الماضى من القياس)، أى أن الظلم المملوكي أعاق مجهودات المماليك في التعمير والتخضير والفلاحين كانوا يعيشون بين تخريب الأعراب وظلم المماليك.
4 ــ وإذا تركنا أعراب لبيد والبحيرة وجدنا إخوانهم من أعراب غزال يفعلون أموراً شنيعة من الفساد والنهب وأمثال ذلك على حد قول مؤرخنا مما دفع قايتباى لأن يأمر الكشاف، أو حكام الأقاليم بتعقبهم وقتل المفسدين منهم. وكانت الشرقية مرتعاً لفساد الأعرب من بنى سعد ووائل ، فأرسل إليهم قايتباى الأمير تمر حاج الحجاب بحملة يوم الأحد 6 من ذى الحجة 875 يقول مؤرخنا : ( لأجل ردع العربان المفسدين الذين ملأوا البلاد العباد فساداً من نهب وعري وقتل وهم سعد ووائل وأحرموا الطير يطير فبلغ خبرهم السلطان فرسم للأمير المذكور بالتوجه لردعهم وتطمين البلاد وكتب مراسيم شريفة للكشاف بالتوجه في خدمته وكذلك لمشايخ العربان. )، وواضح أن هناك مشايخ للعُربان كانوا تحت طاعة السلطان، وأن العُربان الآخرين الثائرين كانوا يمارسون قطع الطريق والنهب والقتل وتعربة المسافرين حتى أحرموا الطير يطير على حد قول صاحبنا، مما جعل أجدادنا في الشرقية يعيشون في هلع وخوف دفع السلطان لإرسال حملة لتطمين البلاد.
وسبق أن عرضنا لشيخ الأعراب في الشرقية عيسى بن بقر الذى دخل في طاعة السلطان ثم تمرد عليه وأخرب قطباً وأحرق أشجارها وقتا منها جمعاً ورفض مقابلة الداودار الكبير مما جعل السلطان يرسل له حمله تمكنت بعد قتال من أسره وتولى بقر بن راشد إمام أعراب الشرقية من لدن المماليك عوضاً عن عيسي بعد أسره وعزله وذلك بتاريخ الأحد 29 ذى القعدة 875.
5 ــ ولم يخضع أعراب الشرقية تماما للسلطة المملوكية إذ تزعمهم موسي بن عمران ( الذى خرّب البلاد وأظهر الفساد وشاع صيته بأنه غاية في قتل النفس وأخذ الأموال وعجز عن تحصيله مشايخ العرب والكشاف، فرسم السلطان بالقبض عليه وعلى شخص من مقولته يعرف بأبى طاجن وعدة من المفسدين). وتمكن الأتابك أزبك من قيادة حملة يعاونه فيها حاجب الحجاب تمر إلى الشرقية ونجحت هذه الحملة في القبض على موسي بن عمران وأبى طاجن وثلاثين رجلاً من أعوانهما، ودخل بهم القاهرة يوم الأربعاء 12 صفر 876. وفي يوم الخميس 13 صفر عرضوا على السلطان موسى بن عمران وضربوه بين يديه بالمقارع ضرباً مبرحاً، وأمر السلطان بقطع أيدى اثنين من المشاة كانوا يرمون النشاب بين يديه ، كما أمر بتوسيط شيخ يسمى الجذيمى كان متخصصا عنده فى قتل الأسرى من المسلمين.
6 ـ وبسبب موقعها فى مدخل القاهرة من ناحية الشرق وكونها محطة إستراحة للمسافرين من و إلى القاهرة فقد عانى سكان الخانقاه (سرياقوس) من تخريب الأعراب، يقول مؤرخنا:( وقد بلغنى من غير واحد أنّ عرب بنى حرام زاد فسادهم وطغيانهم بالخانقاه وأعمالها وأخذوا من الناس)،أى أسروهم ( وأخذوا من المال شيئاً كثيراً جبوه على الحوانيت والدور وفعلوا ما لا يليق، فاتفق أن عربان الخانكاة الطائعين أرسلوا طلبوا من عرب عظيم الدنيا الداودار الكبير الذين حضروا في خدمته من الوجه القبلي المعروفين بغزالة نحو من مائتى فارس ليحفظوا الخانكاة ويحاربوا بنى حرام ويحتاطوا على موجودهم )، أى طلبوا العون من الأعراب الخاضعين للداودار الكبير فى الصعيد. ويقول مؤرخنا عما يفعله بنو حرام بالمسافرين إلى الخانكاة : ( وأما غالب من يتوج إلى الخانكاة وأعمالها أو يحضر منها فيسلخونه وينهبونه ويأخذون ما معه)، أى لا يكتفون بالسلب والنهب للمسافرين الأبرياء وإنما يسلخونه أيضاً. وحضر المقر الزينى أبو بكر بن عبد الباسط من سفره بالشرقية ومرّ من الخانكاة وأراد بنو حرام الفتك به فقام من وقته ودخل الخانكاة فبات بها.
تطرف الأعراب والمماليك فى الظلم والتخريب
وواضح أن المماليك والأعراب كانوا في صراعهم الدامى يتبعون ما يعرف الآن بسياسة الأراضي المحروقة، وأخذ البرئ بذنب المذنب، مما نتج عنه ضياع الكثيرين من الأبرياء من أهل الريف ومن الأعراب أيضاً، وقد ذهب الداودار الكبير بحملة قوية لردع أعراب الصعيد وعاد للقاهرة يوم الجمعة 22 جمادى الأولى 873 ومعه أسرى من نوع مختلف: نساء الأعراب وأولادهم . يقول مؤرخنا ابن الصيرفي : ( قدم المقر الأشرف المعظّم المفخّم عظيم الدنيا ومشيرها ووزيرها وداودارها الكبير وصاحب حلها وعقدها من بلاد الصعيد وصحبته عدة من العربان ونسائهم وأولادهم نحو أربعمائة نفر ، ففرقوهم على الحبوس، فذلك ذنب عقابه فيه).
تطرف ابن الصيرفى فى الدفاع عن ظلم المماليك
ابن الصيرفي بعد أن أضاف الألقاب الضخمة على ذلك الداودار لم ير بأساً في أسر النساء والصبيان لأن عنده أن ذلك ذنب عقابه فيه. لم يكتف بذلك بل إنبرى ابن الصيرفي للرد على المؤرخ سليل الأسرة المملوكية أبو المحاسن ابن تغرى بردى والذى كان على منهج استاذه المقريزى فى إنتقاد المماليك ، وقد ذكر ابو المحاسن فى تاريخه حملة يشبك ، ولم يطلق عليه ألقاب التعظيم مثلما يفعل ابن الصيرفى ، وإنتقده . فلم يعجب ابن الصيرفى هذا الانتقاد فنقله وقام بالرد عليه بسخافة . يقول مؤرخنا الخائب إبن الصيرفى: ( وقال الجمال يوسف بن تغري بردى المؤرخ في تاريخه عند ذكر قدوم الأمير المذكور دامت نعمته وسعادته : " وصل الأمير يشبك الداودار من بلاد الصعيد بعد ما نهب أهلها وبدّد شملهم وأخرب عدة قرى من شرق بلاد الصعيد ، وأحضر معه من نسائهم وأولادهم أكثر من أربعمائة امرأة إلى ساحل بولاق في المراكب، هذا بعد أن مات منهم عدة كثيرة من الجوع والبرد ، وجعلهم في وكالة الأتابك قانم ، فاشترى لهم بعض الناس إردبي فول صحيح ورماه لهم، فأكلوا في الحال من شدة الجوع والحاجة، ثم شرع أهل الخير في الصدقة عليهم بقدر حالهم. وبواسطة تعويقهم ( أى بسبب أسرهم سبايا ) شرع أزواجهم في قطع الطريق وأخذوا بعض مراكب الغلال القادمة من بلاد الصعيد ونهبوا ما فيها ثم أحرقوا المراكب، وقيل أنهم فعلوا ذلك بعدة مراكب. وبهذا المقتضى ارتفع سعر القمح وغيره من الغلات. فما شاء الله كان . وفي الجملة فإن سفرة الداودار إلى الصعيد في هذه المدة كان فيها مصالح ومفاسد، فمن المصالح قتل ابن جامع وسلخه وجماعة أخر ونهب بنى هلبا المذكورين فإنهم كانوا أشر من كان، ومن المفاسد خراب البلاد التى كانت بنوه هلبا تأوى إليها وحضور هذه النسوة إلى القاهرة."".). ويرد مؤرخنا على مقالة أبن المحاسن مدافعا عن يشبك وتخريبه للصعيد فيقول: ( قلت: ولولاً وجود مثل هذا الملك الذى حُرمته ملأت الأقطار على رؤوس الأشهاد وسفره إلى الوجه القبلي وتمهيده وتنظيفه من المفسدين وردعهم بالقتل والنهب وأمثال ذلك لرأينا ما لا يطاق وصفه.). وابن الصيرفي ينسى في دفاعه الحار أن النسوة وأطفالهن لا ذنب لهم فيما يحدث سواء كانوا من نساء المماليك أم نساء الأعراب، وكان ينبغي على المؤرخ القاضي أن يتذكر أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
ولكن أبن الصيرفى يفكّر ويكتب من موقعه كقاض فى الشريعة السّنية التى تؤلّه المستبد وتنافقه وتوافقه . ومن هنا إختلف موقفه عن المؤرخ المملوكى جمال الدين أبى المحاسن إبن تغرى بردى الذى لم يكن قاضيا ، فكتب بحرية ينتقد الظلم من رؤيته كانسان ، ولم يكن مقيدا بالشرع السّنى ومقتضياته.
وأخيرا فالمؤرخ ابن الصيرفى يذكّرنا بأزمتنا مع القائمين على الاعلام الحكومى فى مصر وبلاد العرب ..!!