الفصل الثاني
ر. ب. سرجنت
كتب ر. ب. سرجنت عن الصحيفة دراستين: إحداهما نشرت في مجلة «TheIslamicQuarterly»(المجلة الإسلامية ربع السنوية)، في سنة 1964، تحت عنوان "دستور المدينة"، والثانية في «TheBulletin of the School of Oriental and African Studies»(نشرة مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية)، في سنة 1978، تحت عنوان: "السُنَّة الجامعة، المعاهدات مع يهود يثرب، وتحريم يثرب: تحليل وترجمة الوثائق التي يجمعها ما يسمى بـ "دستور المدينة" ".
ويقدم "سرجنت"، في نصه الأول، الذي هو نص محاضرة ألقاها، ملخصاً للصحيفة ويقول أنه ليس فيها شيء يمكن أن يوصف بأنه ديني ويلفت النظر إلى أنها "مجموعة من الإجراءات المتفق عليها ذات طابع عملي محض." وهو يذكر إنه درسها على مدى سنوات عديدة وأن دراسته لها انتهت به إلى محصلة مؤداها أن الصحيفة لم تكن وثيقة واحدة وإنما كانت في الواقع مجموعة من المعاهدات.
وفي نصه الثاني، توسع سرجنت في الأفكار التي أعطى خطوطها العريضة في المحاضرة التي ألقاها سنة 1964، وشرح أنه درَّس "دستور المدينة" قرابة عشر سنوات في جامعة كامبريدج باعتبارها ثماني وثائق. وقد عالج موضوعها تحت العناوين الآتية:
مقدمة
عرب يثرب ويهودها في فترة الهجرة
الأمة
إشارات قرآنية للاتفاقين ألف وباء في ما يُدعى بالدستور
المقابلة بين سورة آل عمران ، الآية 101 وما بعدها والوثيقتين ألف وباء
الوثائق الثماني للدستور
الموقعون على الوثائق
النقباء
المنافقون
المؤمن والمسلم
الوثيقة "ألف": معاهدة تكوين الاتحاد الكونفدرالي (الأمة)
الوثيقة "باء": تكملة لمعاهدة تكوين الاتحاد الكونفدرالي
الوثيقة "جيم": معاهدة تحدد وضع القبائل اليهودية في الأمة
الوثيقة "دال": تكملة للمعاهدة التي تحدد وضع القبائل اليهودية
الوثيقة "هاء": إعادة تأكيد وضع اليهود
الوثيقة "واو": إعلان يثرب كحرم
الوثيقة "زاي": معاهدة عقدت قبل غزوة الخندق بين عرب يثرب ويهود قريظة للدفاع عن المدينة ضد قريش مكة وحلفائهم
الوثيقة "حاء": ملحق بإعلان يثرب كحرم
صيغ أخرى للوثائق الثماني: أبو عبيد، كتاب الأموال؛ ابن كثير، البداية والنهاية؛ ابن سيد الناس، عيون الآثار.
وسينصَبُّ تحليلنا لنصي "سرجنت" على المسائل الهامة التي تناولها تحت العناوين المذكورة. وسنحترم الترتيب الذي عولجت به هذه المسائل، مع استثناءات قليلة.
وتتناول دراسة ر. ب. سرجنت صحيفة المدينة كما وردت في سيرة ابن إسحاق/ ابن هشام. وعلى الرغم من أن هذا المؤلف يشير إلى وجود صيغ أخرى للوثيقة نفسها هي صيغة أبي عبيد وصيغة ابن كثير وصيغة ابن سيد الناس، إلا أنه لا يأخذ في حسبانه الاختلافات التي تظهر فيها مع صيغة ابن إسحاق ويعتمد هذه الصيغة الأخيرة التي تبدو له، بالرغم من إغفال بعض تفاصيل، صيغة صحيحة يمكن الاعتماد عليها.
هل معنى ذلك أن "سرجنت" مقتنع، بصورة عامة، بمصداقية ابن إسحاق؟ كلا. والواقع إنه لا يشير إلى هذه السيرة إلا بصورة عارضة. ونظراً إلى أننا لم ندخر وسعاً في نقد ابن إسحاق فليس لنا أن نعتب على "سرجنت" أنه لا يركن إلى المعلومات التي وردت في سيرته عن فترة الصحيفة. ومع ذلك فقد كنا نرجو أن يشرح "سرجنت" الأسباب التي جعلته - وهو الذي طرح مجموع ما ورد في "السيرة" جانباً - يعتبر نص الصحيفة بالذات نصاً يمكن الاطمئنان إلى صحته.
مقدمـة
سرجنت
·هناك شبه كبير بين الصحيفة، التي تسمى أحياناً بدستور المدينة، وبين معاهداتالحوطة" في حضرموت جنوب الجزيرة العربية.
·نظراً إلى أن الظروف في شبه الجزيرة العربية لم تتغير كثيراً منذ أحقاب طويلة، فإن المجتمع واللغة لم يتعرضا بدورهما لتغيرات كبيرة. ولم يغير الإسلام، في مجالات عديدة، الثقافة التي كانت موجودة في زمن الجاهلية إلا تغييراً طفيفاً.
·أجرى "سرجنت" تحليله استناداً إلى مصادر التراث العربية مع تفسير للصحيفة مبنيٌّ على الثقافة التقليدية السائدة في مناطق الجزيرة العربية التي كان له بها علم كبير. وقد قادته بحوثه إلى نتيجة هي أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يتصرف وفقاً لنماذج سياسية عربية كانت موجودة منذ زمن بعيد. ويمكن في نظره أن يقال، بمعنى من المعاني، إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا قاضياً- حكماً (a Judge-arbiter) شأنه في ذلك شأن آبائه الأولين، وأنه لم يكن مسئولاً إلا عن تغييرات قليلة في قوانين الجزيرة العربية وفي مجتمعها.
·وكان من الطبيعي في القرون التالية أن ترسم صورة الرسول ونشاطه، كما نعرفهما في الوقت الحاضر، وليس فيهما من الاستمرارية الكبيرة مع الماضي العربي في كل ما قام به نبي الإسلام إلا النـزر اليسير.
·وقد ورد عن الواقدي والبخاري حديث عن الرسول مؤداه أن خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا في الدين. وهذا يؤكد استمرارية قيام رؤساء القبائل بالتحكيم في ظل الدين الجديد. وقد كان محمد، على أي حال، يقبل عُرف (معروف) قبائل يثرب كشيء ذي حجية.
ملحوظاتنا
1- حين يجد المرء نفسه أمام نصين متشابهين أحدهما قديم والآخر معاصر، فباستطاعته، كما فعل "سرجنت"، أن يظن أن النص القديم - أي، في حالتنا، الصحيفة - قد كُتب في بيئة مشابهة لتلك التي أنتجت النص المعاصر .ولكن الأقرب إلى الذهن، في ظننا، هو أن النص المعاصر - أي، في حالتنا هذه، "حوطة" حضرموت - قد نسج على منوال النص القديم. لاسيما حين يكون المؤلف المفترض في النص القديم رسولاً يوقره مؤلفو النص المعاصر وحين يدعوهم قرآنهم في آيته الكريمة: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةً حَسَنَةً لمنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا" ﴿21﴾ [الأحزاب] للاحتذاء به.
2- إقامة توازٍ بين كتابات تصف أوضاعاً كانت سائدة في القرن الخامس عشر من الإسلام ووثيقة يُدَّعَى أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو مؤلفها هو مقارنة ما لا تصح مقارنته. وإثبات أن الرسول صلى الله عليه وسلم استخدم في الصحيفة عناصر استمدها من التقاليد القديمة التي كانت مرعية في جنوب الجزيرة العربية يقتضي أولاً إثبات أن هذه الوثيقة وثيقة صحيحة، الأمر الذي نعارض فيه للأسباب التي بسطناها في الفصل السابق، ثم إثبات أن عناصر التقاليد في جنوب الجزيرة التي استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم لتحرير الوثيقة كانت هي ذاتها التي لاحظها "سرجنت" منذ عشرات قليلة من السنين. والحاصل أن "سرجنت" لم يقدم هذا الدليل المزدوج. ونظراً إلى أن المنطقتين، جنوب الجزيرة العربية والحجاز، كانتا تنتميان في الماضي إلى عالمين مختلفين إلى حدٍ غير قليل، إذ أن جنوب الجزيرة تعرَّض لتأثيرات فارسية وحبشية لم يتعرض لها الحجاز فمن شبه المحقق أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينسج على منوال "حوطة حضرموت" لأنه لم يكن له بها علم.
3- عندما يقرر "سرجنت" أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان مجرد قاضٍ حكم فإنه لا يستند إلى مصنفات المؤرخين الذين كتبوا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هؤلاء المؤرخين لم يذكروا سوى قضية واحدة - وهي قضية مشكوك فيها - عرضت على الرسول، هي قضية اليهودي واليهودية الزانيين([1]).كذلك فإنه لم يشر إلى التنـزيل القرآني الذي يعهد بهذا الاختصاص القضائي إلى محمد صلى الله عليه وسلم، مثل هذه الآيات من سورة المائدة:
–وَأَنـزلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ …﴿48﴾وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَّفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنـزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ …﴿49﴾أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُّوقِنُونَ ﴿50﴾
وإذا كان الأمر كذلك فإلى أي شيء استند؟ إن دراسته لا ترد على هذا السؤال.
4- كذلك لا تذكر دراسة "سرجنت" إلى أي شيء استند في تأكيده أن آباء الرسول صلى الله عليه وسلم الأولين كانوا قضاة-محكِّمين. إن أسلاف الرسول الوحيدين الذين نعرف من أخبارهم شيئاً بالتفصيل كانوا جده عبد المطلب وعمه أبا طالب. والمصادر التي تحت أيدينا لا تذكر أن هذا أو ذاك كان قاضيا- حكماً. بل إن سيرة ابن إسحاق تذكر حالتين عُرض فيهما نـزاعان يتعلقان بعبد المطلب - بشأن توزيع الكنـز الذي تقول "السيرة" أنه وجده أثناء حفر بئر زمزم وحين أراد أن يذبح ابنه قرباناً لله - للتحكيم لا على حكماء الجزيرة العربية من أسلافه بل على كاهنتين لكل منهما تابع من الجن([2]).
5- مع افتراض أن أسلاف الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا قضاة- محكمين، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يشبَّه بهم. ذلك أنه كان يباشر وظيفته كقاضٍ بتطبيق القانون القرآني، ولم يكن هذا هو الحال بشأن أسلافه. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشبه أحداً فإنه لم يكن يشبه محكمي الجاهلية بل كان يشبه داود النبي اليهودي الذي ورد ذكره في القرآن في آية:
–يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فِيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ …﴿26﴾[ص]
6- كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم قبل كل شيء نبياً: نبيٌ حق عند المسلمين، ونبيٌ كذب بالنسبة لمن لم يؤمنوا برسالته. ولكنه كان نبياً له رسالة وكتاب كبعض الأنبياء السابقين. وهذه الصفة ليست مقررة في القرآن وحده بل هي مقررة في جميع المراجع التي أشار إليها "سرجنت". وهي مقررة أخيراً في الصحيفة ذاتها.
7- كان محمد صلى الله عليه وسلم يُقدَّم كذلك في كتابات المؤلفين المسلمين الذين رجع إليهم "سرجنت" كإمام أي رئيس للأمة. ولم يكن صلى الله عليه وسلم يتصرف كقاضٍ- حكم حين كان يريد، وفقاً لشرح "سرجنت" المستمد من الواقدي، لدى قدومه إلى المدينة، أن يجمع سكانها بمختلف فئاتهم في أمة واحدة، ولم يكن يتصرف كقاضٍ- حكم حين فرض على اليهود بعدها ميثاق حلفٍ بعد انتصاره في بدر وبعد قتل كعب ابن الأشرف.
8- حين يقول "سرجنت" إن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يقبل عرف (معروف) قبائل يثرب كأمر ذي حجية فمن المحتمل أنه يفكر في الآيات القرآنية التي تتحدث عن المعروف والمنكر مثل:
–لْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَّدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴿104﴾[آل عمران]
–…بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَّأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿71﴾[التوبة]
واقع الأمر أن كلمة معروف لا تعني العرف. وجمع العرف "أعراف". أما اسم "معروف"، الذي يستخدم دائماً في المفرد، فيعني في قاموس الوسيط: كل فعل يعرف حسنه بالعقل أو الشرع، وهو خلاف المنكر، وبهذا المعنى يترجم بلاشير هاتين الكلمتين.
9- وأما حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فهو يعني ببساطة أن الفرق بين الأخيار في الإسلام والأخيار في الجاهلية يكمن في الإيمان بالله. وحين يقول "سرجنت" إن هذا الحديث يؤيد فكرة أن محمداً كان يحقق الاستمرارية للماضي في كل ما يفعله، فإنه لا يأخذ في اعتباره أهم شيء قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ألا وهو أن الإيمان بالله ودينه هو المعيار الذي يميز المسلمين عن مشركي الجاهلية.
10- لمعرفة مدى التعديلات التي أدخلها محمد صلى الله عليه وسلم على قوانين العرب ومجتمعهم، لا يكفي الرجوع إلى مصادر التراث العربية وإلى ثقافة جنوب الجزيرة. إن القرآن الكريم هو أهم المراجع في هذا الصدد. ولو أن "سرجنت" رجع إلى القرآن الكريم لاكتشف أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء بدينٍ:
– يستبدل بالشرك وبعبادة الأوثان عبادة إله واحد؛ ولا يمكن تصوُّر تعديل أكبر من هذا التعديل في مجال الدين؛
– استمد أصوله لا من الجاهلية، التي لا يذكرها أبداً بالخير، بل من دين إبراهيم والأنبياء الذين جاءوا بعده، وفتح قلوب العرب على التجارب الدينية لشعوب لم يسبق لهم أبداً معرفة شيء عنها؛
– يرخي ويضعف الصلات التي تربط المرء بقبيلته وينشئ صلة مباشرة بينه وبين خالقه، وعن طريق خالقه، بينه وبين جميع البشر من أبناء آدم وزوجه على الأرض؛
– يستبدل بالخرافات وعبادة الآلهة التي لا يعرف الناس عنها شيئاً والتي تتصرف في أقدارهم وفق هواها والتي لا يعرف أحد ما تريد، عبادة إله واحد عليم بكل شيء وقادر على كل شيء، وهو إله عادل يحبهم ويريد لهم الخير؛
– يؤكد لهم أن الموت ليس نهاية كل شيء وأن هناك حياة في عالم آخر؛
– يسن قوانين ترسي قواعد السلوك بأوامر ونواهٍ محددة بدقة وتتفق مع فكرتي الخير والشر اللتين يدركهما ضمير الإنسان بالفطرة؛
– يشرح أن هناك حساباً دقيقاً عن كل أعمال البشر، وأن هذه الأعمال ستوزن يوم البعث بميزان تحسب الحسنات فيه بعشرة أمثالها والسيئات بمثلها، وأن مصير الإنسان يتوقف على الفرق بين حساب الحسنات وحساب السيئات، فإذا رجحت كفة الحسنات دخل الشخص الجنة وكان مصيره السعادة الأبدية؛ أما إذا كان العكس فسيقضي الأبدية في نار جهنم؛ دينٌ يقول إن الله يغفر الذنوب جميعاً إلا أن يُكفَر به؛
– يقرر عقوبات للجرائم التي تُرتكب ضد الأشخاص أو الأموال كما يقرر تشريعاً مفصلاً للمسائل المدنية ومسائل الأحوال الشخصية (كالزواج والبنوة والطلاق والنفقة والإرث) ويحرم الربا والفاحشة ووأد البنات والقمار والخمر…؛
– يفرض عبادات: الصلاة وصوم رمضان والحج والزكاة، كما يفرض، في بعض الظروف، الهجرة والقتال في سبيل الله.
فإذا قيل بعد كل هذا أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن مسئولاً إلا عن قليل من التعديلات في القانون والمجتمع العربيين فهو قولٌ غير مفهوم.
11- تحليل مصادر التراث العربية الذي قام به "سرجنت" لا يؤيد هو الآخر نظريته. والواقع أن هذه المصادر تتحدث عن اضطهاد القبائل لمسلميها بشتى الوسائل لحملهم على الردة، وعن نفي وإبعاد لهم، وعن حملات تكذيب ومقاطعة اقتصادية وعن جيوش أرسلت إليهم بعد الهجرة في المدينة. وكل هذا ما كان يمكن أن يحدث لو أن التعديلات التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم في قوانين العرب وفي مجتمعهم لم تكن تعديلات كبرى وإذا لم تكن هذه التعديلات قد أحدثت قطيعة حقيقية مع الماضي ومع عُرف القبائل الجاهلية.
العرب واليهود في يثرب في زمن الهجرة
سرجنت
·قال الواقدي: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدينة وأهلها أخلاط – منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام فيهم أهل الحلقة والخصوم ومنهم حلفاء للحيين جميعاً الأوس والخزرج. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم وموادعتهم وكان الرجل يكون مسلماً وأبوه مشركاً."([3])
·وقال الواقدي أيضاً: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وادعته يهود كلها وكتب بينه وبينها كتاباً. وألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم كل قوم بحلفائهم وجعل بينه وبينهم أماناً، وشرط عليهم شروطاً، فكان في ما شرط ألا يظاهروا عليه عدواً." وحين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد انتصاره في بدر قطع اليهود العهد الذي كان بينه وبينهم.([4])
·إذاً فقد عقد محمدٌ حلفين بين أصحابه المهاجرين المكيين، الذين كانوا وقتها لاجئين في يثرب، وبين الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج ومواليهم من قبائل اليهود. وأسس كونفدرالية (أمة) ذات طابع دنيوي صرف ولكنها ثيوقراطية، بمعنى أن الله ومحمداً عُيِّنا على أنهما المرجع الأخير في التحكيم.
·لقد أقام اليهود في الحجاز قبل الفترة المسيحية. ولم يكونوا جميعاً من درجة اجتماعية واحدة. وكان لبعض القبائل اليهودية من الشرف والثروة والقوة أكثر ما للقبائل الأخرى. وعلى الرغم من أن ثلاث عشرة قبيلة من بينها ذكرت خلال هذه الفترة، إلا أن النبي، فيما يبدو، لم يتخذ إجراءً سياسياً مباشراً إلا ضد ثلاث منها. ومن المحتمل أن باقي القبائل اليهودية عقدت اتفاقات حماية مباشرة مع القبائل العربية التي ورد ذكرها في الوثيقة "جيم" أدناه، وأنها كانت غير نشطة من الناحية السياسية. كذلك فمن المحتمل أن هذه القبائل كانت مشبهة بالقبائل اليهودية الثلاث الكبرى.
·جاء في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني أن اليهود، أياً كان وضعهم السابق، لم يكونوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم في زمن الرسول. وخلال الفترة التي سبقت ظهور الإسلام مباشرةً كان اليهود تحت حماية القبائل العربية، وكلما هاجهم أحد من الأوس أو الخزرج في أي مسألة، لم يكن أحدهم يطلب مساعدة الآخر، كما كان الحال من قبل، بل كان اليهود يلجأون إلى جيرانهم ويقولون: "ما نحن إلا جيرانكم ومواليكم". وكان كل قوم يلجأون إلى بطن من بطون الأوس والخزرج الذين كانوا يتعززون بهم وكان السبب في ضياع شأن اليهود على هذا النحو ما أصابهم من ذبح على يد مالك بن العجلان من الخزرج.
·القبائل الثلاث التي كانت على علاقة مع محمد كانت بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة. وكان بنو النضير من سلالة أنقى من بني قريظة؛ وكانت ديتهم، وفقاً للعرف الجاري، ضِعف دية بني قريظة. وقد زاد الرسول دية بني قريظة بحيث تتساوى مع دية بني النضير وحسَّن بذلك مركزهم كثيراً. وكانت هذه مناورة سياسية قصد منها أن يحظى بتأييدهم.
·وفيما خلا هذه القبائل الثلاث، كانت هناك في يثرب حالات فردية من العرب الذين اعتنقوا اليهودية. وكان هذا يحدث على النحو الآتي: طبقاً لما ذكره الطبري والسهيلي، كانت المرأة العربية التي تفقد ابنها البكر تنذر أنه إذا قُدِّر لأحد أبنائها أن يحيا جعلته يتهوَّد. وكان الجزء الأكبر من مثل هذه العلاقة يتم مع بني النضير. وهناك رواية أخرى تقول إن بعض الأوس كانوا يقيمون علاقات كفالة مع بني النضير. على أنه لا يبدو أن العلاقات التي من هذا النوع كان لها أهمية سياسية ذات شأن.
·ووفقاً للعهود التي عقدها محمد بعد وصوله إلى يثرب، أُدرج اليهود في الأمة وأصبحوا جماعة منها بفضل الصلح الذي أقامه بينهم وبين المؤمنين، فيما يروي الطبري: كلمة واحدة ويدٌ واحدة.
·حين ربط محمد الأوس والخزرج في اتحاد كونفدرالي أُلحق به اليهود، أصبح "مجمِّعاً". وقد جمع الله به من الفُرقة، على غرار جده الأكبر قصيّ الذي وحَّد قريشاً. وبينما سمته قريش مكة بالمفرِّق، باعتبار أنه دمر وحدتهم القبلية، لأن أفعاله أدت إلى بث الخلاف في صفوفهم، كان الاتحاد الذي أقامه على أنقاض الاتحادات السابقة يُعرف باسم الأمة.
ملحوظاتنا
1- في مقاله الذي عنوانه "رواية الواقدي بشأن الوضع القانوني لليهود في المدينة: دراسة لتقرير مجمع"([5])، علَّق "ميخائيل ليكر" على الفقرة الأولى التي أوردها "سرجنت" بقوله إنها سيئة إذ أنها، بدلاً من أن تقول إن بطون المدينة اليهودية كانت موالي للبطون العربية، كما كان الاعتقاد حتى الآن، تذكر أن هذه البطون كانت أقوى عنصر بين أهل المدينة. ويلاحظ "ليكر" كذلك أن نص الواقدي يشوبه بعض الغموض فيما يتعلق بهوية الفئات التي تشكل سكان المدينة الذين يصفهم بأنهم أخلاط؛ ويلاحظ "ليكر" أن الواقدي في جملة جاءت في نهاية الفقرة التي أوردها "سرجنت" قال: "فكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذىً شديداً، فأمر الله عزَّ وجلَّ نبيه والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم". فالواقدي يتحدث هنا عن المشركين الذين لم يتحدث عنهم في الفقرة السابقة. ويدل ذلك على أن وصف الواقدي ينقصه عنصر من عناصر سكان المدينة. والنتيجة التي يستخلصها "ميخائيل ليكر" من هذه الملحوظة هي أن سكان المدينة لم يكونوا يتكونون من فئتين - المسلمين واليهود - كما يقول الواقدي، بل كانوا يتكونون من ثلاث فئات هي المسلمون واليهود والمشركون. ويضيف "ليكر" أن اليهود في نص الواقدي ينتمون أساساً إلى قبيلتين هما قبيلة بني النضير وقبيلة بني قريظة.
2- ويأخذ "ميخائيل ليكر" على الواقدي أنه اتبع طريقة يسميها بـ "التقرير المجمَّع"، وهي طريقة لا تذكر بمقتضاها المعلومات التي يقدمها كل مصدر من المصادر التي رجع إليها المؤلف في الموضوع الذي تحدث عنه على حدة، بل يجمعها إلى تلك التي استقاها من مصادر أخرى، وأنه يخلط بينها بصورة تضيع معها معالم الاختلافات التي قد تكون موجودة في المصادر. ويضيف أن الالتجاء إلى هذه الطريقة، التي ابتدعها الزُهْري، في نقل أحاديث النبي كانت موضع انتقاد شديد من جانب علماء الحديث مثل أحمد بن حنبل الذي كان، شأن الواقدي، يعيش في بغداد. وهذا الموقف السلبي من جانب خبراء الحديث حيال طريقة الواقدي كان من نتيجته أن ما رواه هذا المؤلف لم يرد منه في مجموعات الأحاديث المعتمدة سوى حديث واحد. ويوضح "ليكر"، من جهة أخرى، أن الذي وضع معايير تقييم الرجال، أي ناقلي الحديث، كانوا علماء الفقه، الذين كانوا بالضرورة متشددين للغاية فيما يتعلق برواة الأحاديث. على أن الوضع كان مختلفاً فيما يتعلق بالمغازي، فقد كان على المؤرخين المسلمين، بحكم طبيعة العمل الرائد الذي كانوا يقومون به، أن يستقوا المعلومات من أي شخص كان يحوزها أو يحوز أدلة جديدة، ولم يكونوا يحققون في مدى مصداقية مصادرهم، وكانوا يستمدون ما يرونه في كتاباتهم من أي شخص كان لديه أخبار أو يدعي أن لديه أخباراً بشأن أهل بيته أو بشأن عشيرته.
وينتهي "ميخائيل ليكر" من بحثه إلى نتيجة مؤداها أن دراسة التقارير المجمعة «Combined Reports»تفيد بأنه من غير السليم، للحصول على صورة دقيقة لتاريخ الإسلام الأول، أن يقف الباحث عند ما ذكره ابن إسحاق والواقدي وغيرهما من المؤرخين، وأن الواجب هو الرجوع إلى الوراء ومحاولة إعادة بناء المصادر التي اعتمدوا عليها في كتاباتهم التاريخية.
فملحوظات "ليكر" إذاً تشكك في مصداقية الواقدي، المؤلف الذي يوليه "سرجنت" ثقته الكاملة في الفقرتين اللتين تعنياننا.
3- وفي رأينا أن المشكلة فيما ذكره الواقدي بشأن نوايا الرسول صلى الله عليه وسلم عند وصوله إلى المدينة ليست في كونها ناتجة عن "تقرير مجمع"، كما يقول "ميخائيل ليكر"، ولكن في كونها غير معقولة.
4- في الجملة الأخيرة من تعقيب "سرجنت"، التي يقول فيها : "كان الاتحاد الجديد الذي قام على أنقاض الاتحادات السابقة يُعرف باسم الأمة"، كان يهمنا أن نعرف:
– ما هي هذه الاتحادات السابقة؟
– مَن كانت الأطراف التي تشكلها، وما إذا كانت هذه الأطراف تسمي نفسها أمة أو ما إذا كان لهم اسم آخر؟
5- كان السلام يسود المدينة، حين قدم إليها محمد صلى الله عليه وسلم، طبقاً لابن إسحاق. فبعد الحرب التي شبت بين الأوس والخزرج والتي اشترك فيها اليهود حلَّ السلام فيها واتفقت القبيلتان الكبريان على أن يكون للمدينة ملك في شخص عبد الله بن أبي بن سلول. وكان السلم بين الأوس والخزرج يعني السلم بينهما وبين القبائل اليهودية. لم تكن هناك إذاً في المدينة أزمة خطيرة أو موقف بين مختلف جماعاتها يُخشى أن يتفاقم ويؤدي إلى نـزاع مسلح؛ ولم تكن المدينة بحاجة إلى منقذ ليقيها شر مثل هذه الحرب. والواقع، أن الخطر الحقيقي بالنسبة للمدينة لم يكن حالة العلاقات بين مكوناتها المختلفة؛ بل كان محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6- لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم، عند وصوله إلى المدينة، كما يصوره ابن إسحاق في السيرة، رسولاً لم ينجح، بعد ثلاث عشرة سنة من الدعوة، في أن يجمع حوله سوى قرابة الثمانين شخصاً، معظمهم من الفقراء، واضطُر إلى الفرار من مسقط رأسه. ولما كانت وسائل العيش تعوزه هو وأصحابه المكيون، فقد كانوا يعيشون في ضيافة نفر من أهل المدينة الذين دخلوا في الإسلام. وكانت الشهور الأولى في المدينة التي هاجر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم تتسم بظاهرتين: نفاق جزء من أولئك الذين أعلنوا إسلامهم، والعداء المتزايد، بالقول والأفعال، من جانب اليهود. والصورة التي يعطيها الواقدي عن محمد صلى الله عليه وسلم صورةٌ تختلف كثيراً عن هذا. إن هذا المؤلف يصور الرسول صلى الله عليه وسلم كقائد لفت نظره، لدى قدومه إلى المدينة، تفرُّق أهلها وأن الآباء والأبناء في بعض الأسر كانوا على ديانات مختلفة؛ ففكر في مشروع كبير يهدف إلى لم شمل جميع قطاعات السكان، مع مسلمي مكة والمدينة، في اتحاد واحد. وهذان تصويران مختلفان يشغل أحدهما فصلاً بأكمله ويشغل الآخر فقرتين، لبدايات محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة. ويأخذ الأستاذ "سرجنت" بوجهة نظر الواقدي، ولكنه لم يجد في عشرات المصنفات التي رجع إليها شيئاً عن المساعي والمحادثات والمفاوضات المفترض أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم قد قام بها مع المشركين واليهود للتغلب على عدائهم ولإقناعهم بمزايا مشروعه.
7- لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم بحاجة، لكي يوحِّد أصحابه المهاجرين من مكة ومَن أسلم من أهل المدينة، إلى إجراء ذلك عن طريق اتحاد كونفدرالي يربطهم بقوم يعتبرهم دينه أعداء لله وبآخرين يعتبرونه نبياً مزيَّفاً. لقد كان هذا التوحيد شيئاً حققه، ببساطة، دخولهم في الإسلام. كذلك فإنهم، والصلاة تجمعهم خمس مرات في اليوم في المسجد، واستماعهم إلى رسولهم وهو يبلغهم بآخر ما نـزل عليه من القرآن الكريم، وعبادتهم لإله واحد وتلاوتهم آي الذكر الحكيم التي نـزل بها كتابهم، واشتراكهم في مختلف المشاريع التي ترمي إلى تحسين أحوالهم المعيشية، وتزاوجهم فيما بينهم، واحتفالهم معاً بالمناسبات الدينية وبزواج من يتزوج منهم وبميلاد أبنائهم، وبتزاورهم وعقد أواصر الصداقة فيما بينهم، وباشتراكهم، كلٌ بحسب إمكانياته، في نشر الإسلام، وفي مشاطرتهم للأوقات الصعبة، أي أوقات الاضطهاد وإساءة الفهم والفقر والحداد، وأملهم في أن يُبعثوا بعد الموت في عالم من الرضوان الأزلي، لم يكونوا بحاجة إلى إجراء آخر يجمعهم في كيان متحد. وما من اتحاد كونفدرالي كان يمكن أن يحقق أكثر مما حققه ذلك من وئام أو أن يضيف شَعرة إلى شعورهم بأنهم أخوة في الدين.
8- محمد صلى الله عليه وسلم كان رسولاً ولم يكن زعيماً سياسياً. وإنشاء أمة متعددة الديانات فيها عنصر مشرك لم يكن أمراً يهمه. وكان دأبه لإنهاء النـزاعات والخلافات ولتحقيق الوحدة هو دعوة الناس إلى الإسلام.([6]) كذلك فإنه لم يكن يملك المبادرة لتحقيق المشروع الذي يعزوه إليه "سرجنت"، نقلاً عن الواقدي، دون أن يتلقى توجيهاً قرآنياً صريحاً بذلك. والحاصل هو أن القرآن الكريم ليس فيه مثل هذه التوجيهات، بل إنه كان يحظر عليه وعلى المسلمين أن يتخذوا المشركين واليهود أولياء، وذلك في آيات ذكرناها بصدد بحثنا في "السيرة". والدخول في أمة مع مشركين ويهود هو، أكثر من أي شيء آخر، اتخاذهم أولياء. ومما يستحق الذكر في هذا الخصوص أن مسألة التحالفات بين "الأنصار واليهود" سبق أن أثيرت في الاجتماع الذي انتهى بعقد بيعة العقبة الثانية، المسماة ببيعة الحرب، بين محمد صلى الله عليه وسلم وأنصار المدينة. وقد وجَّه أحد من اشتركوا في هذا الاجتماع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم السؤال الآتي: "يا رسول الله، إن بيننا وبين رجال حبالاً، وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إنْ نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟" فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم."([7]) ومعنى هذا أن الأنصار كانوا ينتوون قطع علاقاتهم مع اليهود وأن محمداً صلى الله عليه وسلم وافقهم على ذلك عشية هجرته. وكان إنشاء اتحاد مع اليهود بعد ذلك بقليل شيئاً غير وارد مع غياب باعث يحمل الرسول صلى الله عليه وسلم على تغيير رأيه. لقد عبَّرنا عن تحفظات كبيرة بشأن هذه البيعة في كتابنا عن الفترة المكية([8])، ولكن "سرجنت" يقبل حديث ابن إسحاق في شأنها ويستخدمه ضمن حججه كما سنرى.
9- وإذا اعتبرنا أن موقف اليهود حيال محمد صلى الله عليه وسلم كان ذلك الذي يصوره ابن إسحاق، لاسيما في تقديمه للاقتباسات القرآنية التي تتعلق بهم، فإن هذا الموقف لم يكن قطعاً هو الذي حفز محمداً صلى الله عليه وسلم إلى تغيير رأيه لدرجة انتواء تأسيس اتحاد معهم.
10- حين يؤكد الواقدي، في بداية حديث غزوة بني قينقاع، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم إلى المدينة ألحق كل قوم بحلفائهم - وهي حجة مركزية بين حجج "سرجنت" - فإن الواقدي يخطئ بالتأكيد. ذلك أن توحيد المسلمين جميعاً في أمة واحدة، مع استبعاد كل من لا يشتركون معهم في الدين، كان من شأنه أن يؤدي، بصورة تلقائية، إلى إلغاء جميع الأحلاف القديمة التي كانت بطونهم التي أسلمت قد عقدتها مع اليهود. وكان من شأن هذا التوحيد منع عقد أحلاف مستقلة جديدة من هذا النوع.
11- المؤرخون القدامى ليسوا مجمعين، حين يتحدثون عن يهود المدينة، على تقديمهم كأمة ضعيفة تعتمد على حلفائها من العرب. لقد كانوا من الناحية المالية أغنى من حلفائهم. وكان مستواهم الاجتماعي والثقافي أعلى من مستواهم. وكانوا، من الناحية العسكرية، أقوى منهم، وقد أسماهم الواقدي بـ "أهل الحلقة والحصون" وقال السمهودي إنهم كانوا يملكون ستين أطماً (أي حصناً) بينما كان كل ما يملكه الأوس والخزرج مجتمعين لا يزيد عن خمسة عشر أطماً. كانوا يشكلون إذاً أمةً يجب أن يحسب حسابها. وكانوا على الأرجح يوظفون في أعمالهم رجالاً من العرب ويقرضون العرب المال بالربا ويشركونهم في بعض أعمالهم التجارية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن أحلافهم مع بطون القبيلتين المدنيتين الكبريين قبل الإسلام لم يكن غرضها الوحيد هو حمايتهم؛ لقد كانت هذه الأحلاف أحلاف تعاون ودفاع مشترك. وكان فريق منهم، وفقاً لابن إسحاق، كما رأينا، متحالفاً مع الأوس وفريق متحالفاً مع الخزرج. وإذا تساءل المرء عن أعداء اليهود قبل الإسلام فالجواب هو أنه لم يكن لهم عدو مشترك وأن عدو كل طائفة منهم كان اليهود والعرب من المعسكر المقابل. وكان هذا هو الوضع في حرب بعاث.
12- كان هذا هو الحال قبل الهجرة. ولكن مع وصول المهاجرين إلى المدينة ودخول أعداد متزايدة من أهل المدينة في الإسلام اختلف الحال. وأصبح الرد على سؤال: مَن كان عدواً لليهود ؟ هو: المسلمون. والإجابة عن السؤال الموازي: مَن كان عدواً للمشركين، هي الإجابة نفسها. وكان الحلفاء الطبيعيون لليهود في هذه الظروف هم مشركو الأوس والخزرج، ولم يكن يُعقل أن يعقدوا أحلافاً مع البطون التي دخلت في الإسلام أو مع الجزء الذي دخل في الإسلام من هذه البطون من القبيلتين. وسببٌ آخر كان يمنع بطون الأوس والخزرج التي أسلمت من عقد أحلاف مع اليهود هو أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان، باعتباره إماماً ورئيساً لأمة الإسلام، الوحيد الذي يملك حق عقدها.
13- لقد كان أهل المدينة، كما لاحظ "ليكر"، يتكونون من ثلاث فئات: المسلمون واليهود والمشركون. و"سرجنت" لا يشير أبداً إلى طائفة المشركين في حديثه عن الصحيفة. وهو حين يشير إلى الأوس والخزرج أي إلى القبيلتين الكبريين غير اليهوديتين في المدينة، لا يتحدث إلا عن بطونهم المذكورة في الصحيفة وهي بطون مسلمة. ولكن هل أسلمت هذه البطون بأكملها أم بقي فيها مَن هو مشرك؟ وهل كانت هناك بطون أخرى من الأوس والخزرج لم تعتنق الإسلام؟
هذه ليست مسائل نظرية. وإذا كان "سرجنت" يقول إن البطون اليهودية كانت ترتبط باتفاقات حماية مع بطون الأوس والخزرج العربية فإن لنا أن نفترض أن مثل هذه الاتفاقات عُقدت قبل الهجرة بفترة، ولنا أن نتساءل عما آلت إليه بعد دخول البطون المشركة التي عُقدت معها في الإسلام كلياً أو جزئياً. وبالإمكان أن يتصور المرء في هذا الصدد أنه حين كان أحد بطون المدينة المشركة يدخل في الإسلام كان من بين المسائل الأساسية التي يتعين عليه حلها معرفة ما إذا كانت أحلاف الحماية التي عقدها مع اليهود ستُنقض أو ستجدد. وكانت هذه المسألة بالغة التعقيد في الحالات التي يكون فيها جزءٌ فقط من البطن المشرك قد أسلم. ولم تكن هذه المشكلة تفرض نفسها على البطون المسلمة فحسب بل كانت تعرض أيضاً لليهود. ولابد أن هؤلاء كانوا يتابعون باهتمام تقدم الإسلام بين بطون المدينة المشركة لكي يقرروا ما إذا كان الواجب يقضي بالإبقاء على الأحلاف التي عقدوها معهم أو بإلغائها.
14- ولم تكن الخيارات المعروضة واحدةً في بداية الفترة المدنية وفي وسطها وفي نهايتها. لقد كانت أسلمة المدينة خلال الشهور الأولى من الفترة التي وضع فيها "سرجنت" الجزء الأكبر من الصحيفة، لا تزال في بدايتها، وكان الدخول في الإسلام لا يزال مسألة فردية لا مسألة بطون؛ وكان المسلمون أحياناً مضطهدين من بطونهم؛ وكان ميزان القوى لا يزال إلى حد كبير في صالح المشركين. وإذا صح أن الإسلام قد شمل بطوناً بأكملها فلابد أن هذه البطون كانت أقلية؛ والاحتمال ضعيف في أن تكون البطون اليهودية قد تحالفت معها فإن تحالفها معها كان يسيء إلى علاقاتها مع أغلبية البطون العربية التي بقيت على شركها، الأمر الذي لم يكن اليهود يسمحون لأنفسهم به نظراً للخطر الإسلامي. ومن المحتمل أن تكون حركة الدخول في الإسلام زادت سرعتها بعد غزوة بدر وأن تكون بطون بأكملها قد دخلت في الإسلام، ولكن المشركين كانوا لا يزالون أقوياء، واليهود كذلك. ولابد أن التقارب بين هاتين الفئتين كان يتزايد لإحباط مجهودات محمد صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته. ومما يؤسف له أن المؤرخين وكُتاب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقولوا شيئاً عن مختلف مراحل دخول أهل المدينة في الإسلام وعن الائتلافات التي نتجت عنها. ومن شبه المؤكد أن الأحلاف التي كانت ترمي إلى حماية اليهود خلال سنوات الفترة المدنية الأولى كانت هي تلك التي عقدها اليهود مع المشركين، وأن افتراض قيام أحلاف بين اليهود والبطون المدنية التي أسلمت افتراض غير واقعي. وأغلب الظن أن اليهود لم ينقضوا أحلافهم مع المشركين إلا في مرحلة متأخرة، بعد هزائمهم المتتالية أمام المسلمين، وذلك لأن هذه الأحلاف لم تعد تفيدهم بشيء.
15- حقيقةُ أن قريشاً أسمته بالمفرِّق، أي بالمدمِّر لوحدتهم القبلية، لم تكن ولابد تزعج محمداً صلى الله عليه وسلم كثيراً، ولم يكن لها بالتأكيد أي أثر على نشاطه. أولاً لأنه لم يكن هناك وحدة قبلية في قريش: فحين أرادوا أن يغتالوا محمداً صلى الله عليه وسلم بعد بيعة العقبة الثانية، أرسلت قريش، فيما يقول ابن إسحاق، جماعة لقتله تتكون من رجال من جميع القبائل لكي يتفرق دم محمد صلى الله عليه وسلم بينها فلا تجرؤ قبيلته على قتالهم مجتمعين. ثم لأن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكونوا ينتمون لهذه القبيلة أو تلك من قبائل قريش بل كانوا ينتمون إلى قبائل عديدة. وأخيراً، لأن دين محمد صلى الله عليه وسلم ما كان له هدف سوى تحطيم الحواجز التي كانت تفصل بين قبائل قريش وبعضها البعض وإدخال قريش في كيان أوسع إلى أقصى حدود الاتساع. أما لقب "مجمِّع" الذي كان من الممكن أن يلقَّب به حين ألَّف بين الأوس والخزرج في اتحاد ينضم إليه اليهود فإن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن قطعاً يهتم بمثل هذا الشرف. ذلك أن القرآن الكريم كان يأمره في الآية (90) من سورة الأنعام بأن يقتدي بهدى الأنبياء الذين سبقوه أي بإبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان ويعقوب ويوسف وموسى وهارون الذين ورد ذكرهم في الآية (84) من السورة ذاتها. وما من نبي من هؤلاء الأنبياء، الذين حكى القرآن قصصهم، كان يسعى إلى لقب شرفي أو إلى مجد من أمجاد هذا العالم. ولم يكن هؤلاء الأنبياء يخشون إلا الله، لا بني البشر، ولم يكونوا يسعون إلا لإرضاء الله سبحانه وتعالى، لا بني البشر.
الأمـة
سرجنت
·الأمة هي أساساً اتحاد "كونفدرالي" سياسي، ولكن اتحادات الجزيرة العربية القديمة بل واتحاداتها المعاصرة كانت ولا تزال مرتبطة بصفة عامة ببيت كهنوتي ذي طابع وراثي؛ ومعظم هذه الاتحادات كان ثيوقراطياً (أي يستند إلى حق إلهي)، على الرغم من أن ذلك لم يكن قاعدة مطلقة. وكان للاتحاد الذي أنشأه محمد في يثرب خاصية يتفرد بها، هي أن الدين أي العقيدة / قانون القبائل، التي كان الاتحاد يتكون منها، كان مختلفاً عن دين القبائل اليهودية التي كانت من موالي العرب. ولم يكن هذا بالضرورة، بمعنى من المعاني، وضعاً جديداً، إذ أن عندنا مَثَل بانتيون«Panthéon» قريش في مكة (أي المكان الذي يضم جميع الآلهة المعبودة) والذي كان يشهد بتسامح قريش حيال الديانات الأخرى بما في ذلك الديانة المسيحية - حتى أنه كانت هناك أيقونات نصرانية داخل الكعبة ذاتها. وبمرور الوقت، تحول الاتحاد الكونفدرالي الثيوقراطي إلى "أمة إسلامية". إن الآية (83) من سورة النمل تتحدث عن أمم تكذِّب آيات الله. والآية (23) من سورة الرعد، التي يعتبر "ريتشارد بل" في ترجمته للقرآن إنها نـزلت في وقت متأخر من الفترة المكية، تقول إن محمداً قد أُرسل من قبله رسل آخرون. وينبني على ذلك أن محمداً يفترض أنه كان على علم بالأمم (الاتحادات الثيوقراطية) التي كانت موجودة في الزمن الغابر وفي زمنه.
·وفي آيات مكية يرجَّح أن قريشاً كانت موضوعها يقول القرآن: "بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّهْتَدُونَ" ﴿22﴾ [الزخرف]
ويرد القرآن على ذلك بقوله: "وَكذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكِ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَذيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّقْتَدُونَ " ﴿23﴾[الزخرف]
ويأتي الرد على ذلك مباشرة في هذه الكلمات: "قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّم عَلَيهِ آَبَاءَكُم قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ"﴿24﴾[الزخرف]([9])
أي أن هناك بدلاً من اتحاد قريش شيئاً أفضل منه.
·وهناك إشارة مباشرة إلى الأمة، فيما يبدو، في الآيتين:
–إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴿92﴾وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴿93﴾[الأنبياء]([10])
والطبري يفسر هاتين الآيتين بأنه كان هناك في الأصل أمة (أي اتحاد ثيوقراطي)، ولكن من المحتمل أن معنى الأمة عنده هو معنى "الجماعة"؛ وهي مقسمة إلى ثلاثة أجزاء: اليهود والنصارى والكفار. ويبدو أن القرآن يعني هنا أن هذه الطوائف الثلاث أصبحت اتحاداً ثيوقراطياً (أمة) واحداً تحت رعاية الله.
ملحوظاتنا
هل الأمة اتحاد سياسي؟ الدراسة التي قمنا بها في الفصل السابق لمختلف معاني الأمة في القرآن الكريم لا تسمح بالرد إيجاباً على هذا السؤال الأساسي. إذاً فما الرأي في التفسير الذي يقدمه "سرجنت" للآيات التي يستشهد بها تأييداً لرأيه في معنى كلمة "أمة" في القرآن الكريم:
1- الآية الكريمة (83) من سورة النمل التي تقول: "وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُّكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ" لا تسلِّم بوجود أمم تنكر آيات الله بل تقول إن جزءاً (فوجاً) من كل أمة هم الذين ينكرون هذه الآيات.
2- الآية الكريمة (30) من سورة الرعد التي تقول: "كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ …" لا تشير إلى اتحاد ثيوقراطي أياً كان ولكن إلى شعوب قديمة. وليست هذه هي الآية الوحيدة التي علِم منها الرسول صلى الله عليه وسلم بوجود أمم كافرة: فإن تاريخ الأنبياء الكثيرين الذين جاء ذكرهم في القرآن المكي لا يتحدث إلا عن هذه الشعوب وعن مقاومتها لدعوة رسلها. وفي سورة الرعد، التي يعطيها "بلاشير" رقم 92 في تصنيفه التاريخي لسور القرآن الكريم، آيات سابقة تشير أيضاً إلى هذه الأمم مثل:
–ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ﴿44﴾[المؤمنون]
–وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ﴿36﴾[النحل]
–مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُم فِي البِلاَدِ ﴿4﴾كَذَّبَتْ قَبْلَهُم قَوْمُ نُوحٍ والأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِم وهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِم لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلوا بِالْبَاطِلِ لِيُدحِضُوا بِهِ الحَقَّ …﴿5﴾ [غافر]
والسور التي استخلصت منها هذه الآيات الكريمة تحمل أرقام 66 و75 و80 من تصنيف بلاشير.
3- كلمة أمة في الآية (21) من سورة الزخرف لا تعني، كما يقول سرجنت، "اتحاداً ثيوقراطياً". إنها تعني الدين، كما ورد في تفسير المنتخب.
4- الآية (92) من سورة الأنبياء لا تشير إلى الوثيقة "ألف"، وذلك لسببين: أولهما أن الأمة هنا كما في الآية (21) من سورة الزخرف تعني الدين (الملَّة)، والثاني أن هذه السورة مكية وترتيبها هو 73 في تصنيف بلاشير الذي يعطي رقم 92 لآخر السور المكية.
مؤمن ومسلم
المؤمنون
سرجنت
·كلمة مؤمنون تصور فكرة "إعطاء الأمان". وإعطاء الأمان، طبقاً للمصادر، يعني "الأمن الجسدي وحماية الشخص والمال". وفي الوثيقة "ألف"، تم الاتفاق بين المؤمنين والمسلمين من المهاجرين والأنصار. وفي المواد التالية مباشرة، يلاحظ أنه في أهم مسألة من المسائل القبلية قاطبة - أي مسألة العقل أي الدية - لا يتعلق الأمر إلا بالمؤمنين. وفي الوثيقة "جيم" / 2أ (=28)([11])، استخدمت كلمة "مسلمون" مع كلمة "مؤمنون" لتمييز الدين الذي نشره محمد عن دين اليهود. ويعود هذا المعنى حين يتكرر حكم هذه المادة في الوثيقة "هاء" / 3ب (=41). كذلك ففي الوثيقة "زاي" ب / 4 (= 50) نجد أن المؤمنين هم الذين تعود إليهم المسئولية في عقد الصلح بناء على اتفاق عقدوه قبل معركة الخندق. وعلى الرغم من أن لفظتي مؤمن ومسلم أصبحتا شبه مرادفين، فمن غير المحتمل أن تكونا قد استخدمتا كمرادفين في معاهدات حررت بالعناية التي حررت بها الوثيقتان ألف وباء. اللهم إلا إذا كان هذان اللفظان يشيران إلى فئتين متميزتين تماماً من التابعين. والواقع أن الآية (14) من سورة الحجرات تميز بين اللفظين حين تقول: "قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا …".
·يرى البيضاوي أن الإيمان "تصديق مع ثقة وطمأنينة" وأن الإسلام "انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادة". ويمكن القول بصفة عامة إن الفرق بين اللفظين هو فرق بين الثقة (trust)والطاعة؛ ويأخذ "سرجنت" برأي "براﭬـمن" إلى حدٍ ما حين يترجم كلمة مؤمن بـ "الشخص الذي يثق"؛ لكن متى كان المؤمن يتمتع بالأمان الجسدي المكفول لأعضاء من "أُمة الله"، فإنه يكفل بدوره هذا الأمان بقوة ذراعه الأيمن وبصورة تلقائية.
·لفظ مؤمن يستخدم، بطبيعة الحال بمعانٍ مختلفة، ولكن، نظراً لما هناك من شبه مع الالتزامات التي تلتزم بها قبائل حضرموت تجاه "المنصب" أو "سيد الحوطة"، فيبدو من المستحيل تجاهل حقيقة أن المؤمن شخص يمنح الأمان. وقد أكدت هذه الفكرة لـ"سرجنت" مناقشة فريدة وشيِّقة للغاية بشأن "المؤمن" قرأها في كتاب الزينة لأبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي، وهو عالم فاطمي كان مشهوراً في الجزء الأخير من القرن الثاني الهجري (التاسع الميلادي) وأوائل القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) وانتهى من كتابه هذا قبل سنة 310 ه (922م).
·المؤمن صفة من صفات الله. ويقول الرازي إنها جاءت من الأمان وكأن الله قد أمَّن عباده من معاملتهم بظلم. وهو يقارن ذلك بقول "آمن الأمير فلاناً"؛ والأمان هنا أمان ضد العنف. والإيمان يعني التصديق والإيمان من جانب العبد أي تصديقه لما جاء به النبي بالطاعة لأوامره واحترام العهود.
ويضيف الرازي: فإذا آمن بذلك أمَّنه الله وصار في أمانه. قال الله عزَّ وجلَّ: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ". فقيل لله عزَّ وجل مؤمن وللعبد مؤمن، لأن الأمان بين الله وبين عبده، وإنما قيل للمصدق مؤمن، لأنه لما صدقه استسلم له، وآمن كل من كان على مثل تصديقه، فلم يستحل دمه وماله وعرضه، فأمنه من كان على مثل تصديقه، فيكون المؤمنون بعضهم في أمان بعض، وقد أعطى بعضهم بعضاً الأمان. من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه حين سئل فقيل له من المؤمن؟ قال من أمن جاره بوائقه، فأصل الإيمان من الأمان.
·يستشهد الطبري بعدد كبير من المصادر ليثبت أن الظلم يعني الشرك. وهو يحاول أن يعطي لآية "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ" ﴿82﴾ [الأنعام] تفسيراً ذا طابع ديني ولكنه، إذ يفعل ذلك، إنما يتبع أفكاراً ظهرت في وقت لاحق. وتتبع هذه الآية آية أخرى تقول: "وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ". والآيتان جميعاً تعكسان فيما يبدو مناقشة لعلها دارت في مكة.
·قيل لله إنه مؤمن وقيل للعبد إنه مؤمن على اعتبار أن الأمان موجود بين الله وعبده وقيل للمصدِّق إنه مؤمن إذ أنه يضمن الأمان لأي شخص يصدِّق مثله ولا يعتبر أنه من المشروع إراقة دمائه أو سرقة ماله أو الاعتداء على شرفه وهذا شيء متبادل بحيث أن جزءاً من المؤمنين يكون تحت أمان جزءٍ آخر وأن جزءاً قد منح الأمان إلى الجزء الآخر.
·تأكيدات الرازي يمكن أن تؤدي إلى آفاق أخرى للمناقشة تتجاوز الغرض من هذه الدراسة. ويكفي أن يقال إنه يعتبر أن المؤمن هو الشخص الذي يمنح الأمان البدني، وهو معنى يتفق تماماً مع سياق الوثائق التي نحن بصدد بحثها. وهؤلاء المؤمنون هم أعضاء القبائل والأشخاص الذين يجمعون صفات المانع والقوي والشريف.
·من مجموع هذه الإشارات يستفاد أنه مادام المؤمن الذي يتمتع بالأمان البدني المكفول لعضو من أمة الله يكفل أمانه بالذراع الأيمن القوي بحيث يكون هو نفسه كفيلاً بالأمان، فالمؤمنون في وثائق الصحيفة هم، بناءً على ذلك، رجال القبائل المسلحون.
ملحوظاتنا
1- أثبتنا في ملحوظاتنا عن المادة الأولى من الصحيفة أن المؤمنين، لاستحالة التعرف عليهم، لا يجوز أن يكونوا طرفاً متعاقداً في وثيقة أياً كانت.
2- المصادر التي رجع إليها "سرجنت" للبحث عن تعريف لكلمتي "مؤمن" و "مسلم" مصادر ثانوية، ومن المؤسف أن مؤلفنا لم يستفد من المصدر الرئيسي في هذا الخصوص الذي هو القرآن الكريم.
3- الإيمان في القرآن الكريم فكرة مركزية. ولا غرابة في هذا إذ أن هدف الدين الأول هو إقناع الناس بالإيمان بربهم. ما هو الإيمان إذاً ؟ مَن هم المؤمنون، ومَن هم الكفار؟ ماذا كانت أقوال وأفعال الأنبياء السابقين في دعوتهم وأي نتائج أحرزوا ؟ ماذا كان في الماضي، وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم، موقف أهل الكتاب فيما يتعلق بالإيمان ؟ وماذا كان موقف العرب الذين كان محمد صلى الله عليه وسلم يتجه إليهم ؟ ما هو معيار التفرقة بين الإيمان الحقيقي والإيمان المزيف ؟ هل كان المؤمنون أغلبية أم أقلية بين الشعوب ؟ ما هي الأمور المحرمة والأمور المباحة للمؤمن ؟ هل كان الخطاب المتعلق بالإيمان يتجه أيضاً إلى النساء ؟ ما جزاء من يُصر على الكفر ويرفض الإيمان ؟ كل هذه الموضوعات المتعلقة بالإيمان وغيرها واردة بتفصيل كبير في سور القرآن الكريم وذلك، كما هو بديهي، لكي يكون كل شيء واضحاً في نفوس مَن يقرأونه أو يستمعون إلى تلاوته، ولكي لا يكون لأحد، كما يستفاد من القرآن ذاته، عذر بقول: لم أكن أدري أو لم أكن أفهم. كل ما يجب أن يعلمه المرء في هذا الشأن وارد إذاً في القرآن. ولكي نقتنع بهذا ما علينا إلا أن نرجع إلى أي معجم لألفاظ القرآن الكريم. إن عدد المرات التي ذُكرت فيها كلمة الإيمان ومشتقاتها فيه يزيد على الثمانمائة. وهذه بعض الأمثلة على ذلك:
–آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنـزلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصْيرُ ﴿285﴾ [البقرة]
–يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي نـزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي أَنـزلَ مِنْ قَبْلُ وَمَن يَّكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا ﴿136﴾ [النساء]
–إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُّفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَّتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ﴿150﴾أُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ﴿151﴾والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ …﴿152﴾ [النساء]
–إِنَّمَا المؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأذِنوهُ … ﴿62﴾ [النور]
–إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴿15﴾ [الحجرات]
4- وغاية القول أن الإيمان مسألة قلب وأن المؤمنين هم أولئك الذين يؤمنون حقيقة بالله عزَّ وجلَّ وبملائكته وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب الذي أنـزله عليه وبالأنبياء السابقين وكتبهم وباليوم الآخر والذين لم يرتابوا في كل ذلك. وهم أيضاً أولئك الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
5- وهذا التعريف يتفق، وإن يكن جزئياً، مع فكرة أن الإيمان يعني التصديق أي اعتبار أن شيئاً ما صحيح. إلا أن شيئاً في القرآن الكريم لا يسمح بتعريف المؤمن بأنه الشخص الذي يتمتع بالأمان البدني أو الذي يوفره للآخرين، أو بتعريف المؤمنين بـ «armed tribesmen»أي رجال القبائل المسلحين. وليس هناك شيء في هذا التعريف يتطابق مع عبارات وثائق الصحيفة التي يشير إليها "سرجنت".
6- وبناءً على ذلك فإن ترجمة الآية (82) من سورة الأنعام التي أوردها الرازي للسورة التي ذكرها سرجنت لا تؤدي معنى هذه الآية. ويلاحظ أن "بلاشير" يميز في ترجمته بين فكرة الإيمان وفكرة الأمن.
7- ومما هو جدير بالذكر أن الأوامر القرآنية بشأن ما هو حلال وما هو حرام لا تتجه إلا إلى المؤمنين. وهي تبدأ في معظم الأحيان بعبارة "يا أيُّهَا الذين آمنوا". ولا تتجه هذه الأوامر أبداً إلى المسلمين.
المسلمون
سرجنت
يقول "سرجنت" إنه لم يعمد إلى حل المشكلة بالغة التعقيد المتمثلة في معرفة معنى الإسلام والمسلم، ولكنه يميل إلى قبول نتائج البحوث التي قام بها "د. ز. ه . بانِث" في كتابه "ما الذي كان يعنيه محمد حين أسمى دينه بالإسلام"، والتي مؤداها أن "المسلم هو أساساً كل شخص يعبد الله وحده". وهو يميل كذلك إلى اعتبار أن المسلمين يتضمنون أيضاً، على الأرجح، مَن اتبعوا محمداً من رجال القبائل وأولئك الذين هم في وضع أدنى من وضع رجال القبائل، أي الضعفاء والمستضعفون. وكان من الطبيعي أن يغضَّ القرآن من قدر ما حول يثرب من الأعراب حين أمرهم بأن يسلموا، فقد كان الأعراب أشد كفراً، وهناك أدلة أخرى تفيد أن محمداً لم يكن يميل إليهم. وهذا هو الشعور ذاته الملاحظ اليوم في حضرموت حيال الأعراب من أهل القبائل.
ملحوظاتنا
1- للمرء، هنا أيضاً، أن يأسف لأن "سرجنت" لم ير من المفيد أن يرجع إلى القرآن الكريم ليبحث عن تعريف للإسلام والمسلم. ولو أنه فعل ذلك لوجد كنـزاً من المعلومات عن هذين اللفظين وبعض المفاجآت ولاكتشف أن الإسلام ليس كلمة تختص بها ديانة محمد صلى الله عليه وسلم. فإن القرآن الكريم يقول: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ …"﴿19﴾[آل عمران]، ولاكتشف أيضاً أن جميع أنبياء الله وجميع من اتبعوهم، وليس محمداً وأتباعه فحسب، يعتبرهم القرآن الكريم مسلمين. وإذا كان القرآن يسمي اليهود باليهود وبـ"الذين هادوا" و بـ "بني إسرائيل" ويسمي المسيحيين بـ "النصارى"، فإنه لا يتحدث أبداً عن "اليهودية" أو "النصرانية" لوصف ديانة أهل الكتاب. إن ديانة جميع الأنبياء وديانة محمد صلى الله عليه وسلم في النص القرآني هي الإسلام. وفي الإمكان الاستشهاد في هذا الصدد بآيات كريمة مثل:
–إِنَّا أَنـزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَّحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ …﴿44﴾ [المائدة]
–مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ
﴿67﴾ [آل عمران]
–رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴿101﴾ [يوسف]
–إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ ﴿131﴾ [البقرة]
–وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ﴿132﴾ [البقرة]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
﴿133﴾ [البقرة]
–وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴿111﴾ [المائدة]
–قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ﴿125﴾ [الأعراف]
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴿126﴾[الأعراف]
–فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ ﴿72﴾ [يونس]
–وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُم مُّسْلِمِينَ ﴿84﴾ [يونس]
–وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ ﴿90﴾ [يونس]
–فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴿42﴾ [النمل]
2- لقد كان نوح وإبراهيم ويعقوب وإسماعيل ويوسف وسليمان وموسى عليهم السلام في نظر القرآن، أنبياء للإسلام، باعتباره دين الله الوحيد. وكان كل أنبياء الله السابقين على محمد صلى الله عليه وسلم والمسيح عليه السلام مسلمين. وأخيراً فإن مَن اتبعوهم، أي من آمنوا بإله واحد وبرسالات رسله، يعتبرهم القرآن أيضاً مسلمين. يدل على ذلك الآيات الكريمة التالية من سورة القصص:
–الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴿52﴾وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴿53﴾أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿54﴾
3- مسلمو عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، مَن كانوا؟ ليس في القرآن الكريم آيات تعرِّفهم كالآيات التي تعرِّف المؤمنين. ولكن في الوسع أن يقال إن المسلم كان مَن يقول عن نفسه إنه مسلم أو من كان يُعرف أنه مسلم. وكان من السهل التعرف على المسلم بعلامات خارجية: كأن يتردد على المسجد أو يؤدي شعائر الدين كالصوم والزكاة، الخ بالصورة التي يؤديها بها المسلمون، ويمتنع عن المحرمات؛ هو إذاً رجل أو امرأة لهما مظهر إسلامي. ولكن كل مسلم ليس بالضرورة مؤمناً؛ لقد كان بين المسلمين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم عدد من المنافقين. رأينا ذلك في الفصل الثالث (الجزء الأول) من هذه الرسالة، وقد تحدث القرآن الكريم عنهم بعبارات لا غموض فيها وذلك في آيات كالآيات الكريمة التالية التي سبقت الإشارة إليها، من سورة البقرة:
–وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِاليَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴿8﴾يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿9﴾فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴿10﴾…وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴿14﴾…أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴿16﴾
لقد أقامت هذه الآيات تفرقة بيِّنة بين كون الشخص مسلماً وكونه مؤمناً، وأبرزت أن المسلمين لم يكونوا كلهم مؤمنين وأنه لا يجب الاطمئنان إلى المظاهر.
4- حين يعرِّف "بانِث" المسلم بأنه "هو أساساً كل شخص يعبد الله وحده"، فإنه يخطئ إذ أنه كان هناك، طبقاً للقرآن الكريم ولما أوضحناه في هذه الرسالة، مسلمون لم يكونوا مؤمنين بالمعنى الذي يضفيه القرآن على هذه الكلمة.
5- ليس من الواضح لماذا يميز "بانِث" في تعريفه للمسلم بين المسلمين الذين ينتمون إلى قبائل وأولئك الذين لهم وضع أدنى من مسلمي القبائل، والواقع أن دين محمد صلى الله عليه وسلم يعتمد على الصلة التي تربط الإنسان، أياً كان وضعه الاجتماعي، بخالقه. والانتماء القبلي ليس له فيه أدنى أهمية. وخير دليل على ذلك هو ما نراه في المجال الذي يولي للوضع الاجتماعي للشخص أكبر أهمية في معظم المجتمعات وهو مجال الزواج، فنحن نقرأ في القرآن الكريم قول الله تعالى:
– وَلا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ… ﴿221﴾[البقرة].
6- ادعاء أن القرآن الكريم، في الآية (14) من سورة الحجرات، أراد أن يغضَّ من قدر قبائل الأعراب التي كانت حول يثرب حين أمرهم بأن يسلموا ناتج عن فهم خاطئ للآية. إن هذه الآية لا تأمر الأعراب بالإسلام بل تخبرهم بأنهم، على الرغم من كونهم يدعون أنهم مسلمون، أبعد ما يكونون عن الإيمان. وتؤيد هذا الآية الكريمة التي تقول:
–إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ … ﴿15﴾[الحجرات].
7- كذلك لا أساس لما يقوله "سرجنت" حين يقارن مشاعر أهل حضرموت حيال الأعراب بمشاعر الرسول على اعتبار أن أهل حضرموت كانوا في نفس الوضع الذي كان فيه الرسول، إذ أنه ليس هناك أي وجه من أوجه الشبه بين البيئة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو فيها إلى الإسلام وبيئة مجتمع اعتنق الإسلام منذ أربعة عشر قرناً ومرت طريقة التفكير والعيش وممارسة الدين فيه بتحولات عميقة نتيجة لأسباب تاريخية وسياسية لا تحصى.
8- القرآن الكريم لا يقول إن الأعراب جميعاً سيئون، فإننا نقرأ فيه قول الله سبحانه وتعالى:
–وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿99﴾[التوبة]
ومشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم حيال الأعراب لم تكن على الأرجح تختلف عن مشاعره نحو سائر المسلمين. وأغلب الظن أنه لم تكن لديه أوهام كثيرة عن نسبة المؤمنين صحيحي الإيمان بين من كانوا يدَّعون الإيمان من حوله، بعد أن تلقى الآيات التالية:
–وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴿103﴾ [يوسف]
–فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّيْنُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴿30﴾ [الروم]
–وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴿28﴾ [سبأ]
–إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيِبَ فِيهَا ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ﴿59﴾ [غافر]
المهاجرون
سرجنت
توصل "سرجنت"، استناداً إلى العمل الذي قام به في اليمن، إلى أن المهاجر شخصٌ ينشد الحماية في مكان ومع قوم لا يُشَكِّلاَن مكانه الأصلي ولا قومه، شأنه في ذلك شأن السيد اليمني الذي ينشد الهجرة لدى القبائل الزيدية. وبناءً على ذلك يمكن عنده اعتبار أن الوثيقتين ألف وباء تؤسسان اتفاقاً عُقد بين أعضاء من بيت قريش، أي البيت الحرام، كانوا يبحثون عن الأمن وعن مكان يقيمون فيه مطمئنين. وقد قدمت لهما القبيلتان حاملتا السلاح أي الأوس والخزرج الأمن ومكان الإقامة في يثرب. وكان تقديم هذه الحماية للرسول وقبوله لها موضوع معاهدتي العقبة بينه من جهة وبين الأوس والخزرج من جهة أخرى، ولابد أن هاتين المعاهدتين كانتا مدونتين كتابةً.
ملحوظاتنا
1- هنا أيضاً، لم يفكر "سرجنت" في الرجوع إلى القرآن الكريم لمعرفة المقصود بكلمتي "هجرة" و"مهاجرين". هذا على الرغم من أن هذا الكتاب كان يزوده، لو أنه رجع إليه، بمعلومات مفيدة للغاية. وفيما يلي أهم آيات التنـزيل الكريم في هذا الخصوص:
–وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿41﴾ [النحل]
–ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿110﴾ [النحل]
–إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿218﴾ [البقرة]
–وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿74﴾ [الأنفال]
–…فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ …﴿195﴾ [آل عمران]
–وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ﴿89﴾ [النساء]
–إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴿97﴾ [النساء]
–وَمَن يُّهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَّخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ …﴿100﴾[النساء]
–لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانَا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴿8﴾ [الحشر]
–وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿58﴾ [الحج]
–وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ ﴿100﴾ [التوبة]
2- المهاجر لا يظهر في أي آية من هذه الآيات شخصاً "ينشد الحماية في مكانٍ ومع قومٍ لا يُشَكِّلاَن مكانه الأصلي ولا قومه" على حد قول "سرجنت".
3- ليس في الإمكان عقد أي مقارنة بين السيد اليمني الذي ينشد الهجرة لدى قبيلة زيدية وبين المهاجرين المسلمين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فالسياق في الحالتين مختلف تماماً. وهجرة المسلمين الأوائل مع الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن، كهجرة سادة اليمن، من وسط إسلامي إلى وسط إسلامي آخر، بل كانت هجرة من وسط مشرك إلى مكان كان جزء من أهله مشركاً وجزء يهودياً وجزء ضئيل مسلماً.
4- الهجرة التي يتحدث عنها "سرجنت" هي عمل فردي يقوم به السيد، أي الرئيس. أما في الإسلام الأول فقد كانت الهجرة حركة أكثر مَن اشتركوا فيها أشخاصٌ فقراء ولم يكن السادة من بينهم يمثلون إلا أقلية.
5- السيد اليمني الذي يترك قبيلته أو بلده إلى قبيلة أو بلد آخر يفعل ذلك لأسباب شخصية: شقاق أو نـزاع مع الرؤساء الآخرين، عجز عن تولي الأعباء التي أسندت إليه، خشية الجزاء لمخالفة ارتكبها في قانون القبيلة، الخ. لكن هذا لم يكن على الإطلاق باعث المهاجرين المسلمين على الهجرة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ والقرآن الكريم يتحدث عن هجرة في سبيل الله أي من أجل الدين.
6- كان مطلوباً من المهاجر، لكي يُعتبر عمله هجرة في سبيل الله، وفقاً لما سبق من آيات، أن يكون على استعداد لتقديم تضحيات، فقد كان الجهاد يتخذ أحياناً شكل حمل السلاح. وهذا يناقض تماماً فكرة نشدان الحماية. إن الجنات التي تجري من تحتها الأنهار والتي يكون السابقون الأولون من المهاجرين خالدين فيها أبداً لا يمكن منطقياً أن تكون مكافأة لأشخاص كان غرضهم الوحيد من الهجرة هو البحث عن حماية لدى غرباء في بلد غير بلدهم.
7- الآية الكريمة (97) من سورة النساء تتحدث عن حالة لم تكن هي حالة السيد اليمني التي يشير إليها "سرجنت": عن حالة لا تكون الهجرة فيها ميزة بل تكون واجباً؛ والآية تهدد بنار جهنم أولئك الذين قالوا أنهم كانوا مستضعفين في الأرض أي الذين كانوا يتمتعون، في خنوع، بالأمن وبمزايا الحياة الهادئة بين ذويهم.
8- الهجرة بحثاً عن الحماية ليست شكل الهجرة الوحيد المتصوَّر: فقد كان هناك في جميع العصور وسيكون هناك دائماً أشخاص يهاجرون لأسباب تتعلق بمصلحتهم الشخصية. وكان هذا النوع من أنواع الهجرة موجوداً أيضاً في فجر الإسلام. وهناك حديث معروف رواه البخاري ومسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه."