قضاة الشرع السّنى أعمدة الظلم فى عصر قايتباى

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١٧ - سبتمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى):

دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

الباب الأول :طوائف المجتمع المصري في ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى

الفصل التاسع  : قضاة الشرع السّنى أعمدة الظلم فى عصر قايتباى

القاضى فى الشريعة السّنية وظيفته الظلم ويتعيّش من أخذ الرشوة

1 ـ تعرضنا للشيخ نور الدين البرقي الحنفي القاضى صاحب النفوذ الذى وصل إلى منصب القضاء عن طريق صلاته بأرباب الدولة وسعيه هنا وهناك، وكانت بضاعته من العلم مزجاة حسب تعبير الصيرفي، والسؤال الآن، كيف كان ذلك القاضى يؤدي وظيفته في القضاء والحكم بين الناس. لنترك ابن الصيرفي يتحدث عنه يقول : ( وأما بضاعة المتوفي- يقصد صاحبنا- وفي العلوم فمزجاة ، وعلماء مذهبه يعرفون ذلك ، غير أنه معظم عندهم. وخلف بنتاً متزوجة وولد ولداً، وخرب دوراً كثيرة بموته، وكان يحب خراب بيوت الناس في حياته.. وكان عارياً من العلم خادماً لأهل الدنيا ).  ولنتصور ذلك القاضى الذى كان عارياً من العلم وكان محباَ لخراب بيوت الناس كيف كان يحكم؟ أبالعدل أو بالظلم؟

2 ـ إن آلية القضاء كنظام في العصر المملوكي جعلته في أغلب الأحوال مؤسسة الظلم لا لتحقيق العدل، فالقاضى يصل لمنصبه بالرشوة أو بالتوارث أو بصلته بالحكام الظلمة، ثم يأخذ الأموال من الذين يأتون إليه ليفصل بينهم، ومن هنا كان مدخل الفساد. والشيخ نور الدين البرقي سالف الذكر كان أثيراً ومحبوباَ من الشيخ أمين الدين الأقصرائى أحد مشاهير القضاة الأحناف في عصره لأنه كان- حسب قول مؤرخنا "مرصداً لقضاء حوائجه وضروراته وتعلقاته" وكان أيضاً يقف بباب قاضى القضاه ولى الدين الأسيوطى يكتب: ( ما يحتاج  إليه من خرج ودخل ) وهى عبارة مهذبة من ابن الصيرفي تفيد أنه كان يتفاهم مع الذين يأتون للقاضى للتقاضى والتحاكم . وأولئك (الدلالون) كانوا يقفون بباب القاضى لأخذ الرشوة باسمه، والدخول على القاضى في مجلسه للتوصية بفلان وفلان، وكان ذلك معروفاً ومألوفاً في ذلك العصر. وكان الشيخ نور الدين البرقي أحد أولئك الدلالين الذين وصلوا لمنصب القضاء.

3 ـ وأحد أولئك الدلالين كان الشيخ شرف الدين الفيومي، يقول عنه ابن الصيرفي : ( صار يركب حماراً وهو أجهل منه، لا يعرف مسألة كاملة من مسائل العلم، بل ولا قرأ ولا فهم ولا وعى، وإنما كان في خدمة القاضى صلاح الدين ابن بركوت المكيني على باب قاضى القضاة علم الدين صالح البلقينى يخدمه ويرشيه في كل قضية تكون بالباب ، ويأخذ مثله، وصار هو عنده يدخل عليه في الخلوات والجلوات ).  فالشيخ شرف الدين كان واقفاً بباب قاضى القضاة صالح البلقيني- أحد مشاهير القضاة في العصر- يخدمه ويرشيه في كل قضية تكون بالباب، ويأخذ رشوة مثلها، أى عمولة 100%، ثم كان أثيراً عند أستاذه يدخل عليه في الخلوات والجلوات، أى أوقات الخلوة والأنس والمتعة، وابن الصيرفي صرّح وشرح وأفاض هنا لأنه تحدث عن صالح البلقيني وأخذه الرشوة، ولم يكن صالح البلقيني أستاذاً له، ولكنه عندما تحدث عن شيخه أمين الدين الأقصرائى ووقوف الشيخ نور الدين البرقي ببابه يؤدي نفس المهمة فإنه أشار بإيجاز تحرجاً من أن ينسب الرشوة الصريحة لأستاذه أمين الدين الأقصرائى.

المدح بعدم أخذ الرشوة

وكان أخذ الرشوة عن طريق الدلالين عادة سيئة لجميع القضاة لم يتنزه عنها إلا من عصمه الله ببعض الورع، وحينئذ يكون ذلك من أكبر مناقبه ومحامده. يقول ابن الصيرفي يهلّل ويطنب في مدح الشيخ عز الدين الكنانى ت 876 قاضى القضاة الحنابلة: ( أجمع المسلمون كافة على عفته وتواضعه وزهده وتقلله في الدنيا ، بحيث أنه لما ولى المنصب لم يجعل على بابه نقيباً ولا رسلاً ولا نائباً من نوابه يحكم ببابه بالنوبة على عادة قضاة القضاء.. ولم يشهر عنه بل ولا قيل بل ولا ذكر عنه أنه أخذ على الأحكام شيئاً.. فإنه من حين نشأ وهو في غنية عن الناس، له ما يكفيه من إطلاقه ودروسه ومرتباته وأجرة أملاكه إلى غير ذلك ). أى أصبح من مناقب القاضى أنه لا يرتشى مثل عادة زملائه ، وأصبح من مناقب الشيخ عز الدين الكناني أنه لا يأخذ رشوة على أحكامه القضائية ، وأنه طرد الوكلاء والنواب والرسل الذين كانوا يقومون بدور الدلالين والوسائط بين القاضى والخصوم ، ويتعاونون في الاثم والعدوان والظلم. هذا مع أن الشيخ عز الدين الكنانى لم يكن محتاجاً لأكل هذا المال الحرام فقد كان له دخل من أملاكه ومن وظائفه ومرتباته.. فاكتفي بذلك كله- وهو كثير ـــــ عن أخذ الرشوة.

هذا بينما زملاؤه من القضاة وقضاة القضاة كان لديهم نفس الدخل وربما أكثر من الأملاك والوظائف والأوقاف والمرتبات.. ومع ذلك كانوا يأكلون الرشوة لأنها كانت مباحة وفق منطق عصرهم والذى كان يرفع- مع شديد الأسف ـ راية الشريعة الإسلامية.

رشوة القضاة بالشذوذ الجنسى

في أوائل ربيع الأول 877 أرسل السلطان إلى القضاة يأمرهم- حسب تعبير الصيرفي ( أن ينظفوا أبوابهم من الوكلاء ويمنعوا الصبيان الذين على أبوابهم،) ومعناه أن مجال الدلالين والسماسرة الواقفين على باب القضاة للرشاوى قد اتسع حتى دخل فيه الرشوة بالصبيان،. والمسكوت عنه هنا ـ والذى يعرفه المتخصّص فى العصر المملوكى أن الشذوذ كان سائدا ومسيطرا ، وطبقا لثقافة هذا العصر ومصطلحاته فمعنى جلوس الصبيان فى موضع ما أنه للتكسّب بالشذوذ ، وهنا يعنى إستخدام الصبيان رشوة للقاضى أو وكلائه . وربما سبب ذلك تحرجا للسلطان فأصدر قراره بذلك . وقد امتثل القضاة لذلك الأمر، فقد كانوا خير من يطيع السلطان. بورك فيهم.!! أو قل : لا بورك فيهم ..!!

 بعض القضاة العدول.

ليس الشيخ عز الدين الكنانى وحده الذى تفرّد عن القضاة بعفنه عن أخذ الرشوة ، وإنما كان الشيخ ابن عبد الزين الذى شرط على القضاة التابعين له من الأحناف ( أن لا يأخذوا على الأحكام شيئاً مطلقاً، ومن أخذ شيئاً أصبح معزولاً، وكان إذا بلغه أن أحداً أخذ رشوة  ركب بنفسه إليه وعزّره وعاقبه )، وقد تألم ابن الصيرفى من هذا الوضع ، وقد كان من بين هؤلاء القضاة الأحناف التابعين له، وذكر أن أولئك القضاة لم يكن لديهم دخل إلا ما يأخذونه رشوة من المتقاضين، وهم ليسوا مثل كبار القضاة من أصحاب الأوقاف والوظائف يقول: ( وفيهم من لا يملك قوت يومه فيحتاجون إلى الأخذ للضرورة ) أى يحتاجون لأخذ الرشوة مضطرين .!!" وقال ابن الصيرفي عن نفسه: ( وكنت توليت عنه ، ثم منعت نفس من الحكم بشروطه ولأمور أخر) أى عاقبه قاضى القضاة الحنفى فمنعه من الحكم بين الناس وممارسة القضاء ، وبسبب ( أمور أخر ) لم يتحفنا بذكرها . ويهاجم ابن الصيرفى رئيسه قاضى القضاة بطريق غير مباشر فيقول : ( وندم الأعيان على مساعدته،) أى ندموا على أنهم ساعدوه فى تولى منصب القضاء فلم يكونوا يعرفون أنهم ساعدوا إنسانا شريفا يمنع الرشوة . ويقول ابن الصيرفى بلهجة المظلوم : ( ويأتى من ألطاف الله تعالى ما لم يكن في البال )".إلى هذا الجانب ينقلب الحال، ويصير المعروف منكراً، والمنكر معروفا.. سبحان الله.!!

قضاة رؤساء عصابات ..!!

1 ــــ وبلغ الاستهتار مداه بين قضاة ذلك العهد، وتجلى ذلك في تحويل القاضى مسكنه إلى محكمة ويستطيل بمنصبه على الناس في الحي الذى يعيش فيه ويكون أشبه برئيس عصابة يحيط به أراذل الناس، وتتحول جلساتهم إلى محكمة يصدر فيها أحكاماً بالحبس والغرامة والضرب والتشهير والتعزيز على من يشاء. فهل هناك أسوأ من أن يترك القاضى المحكمة ويحول بيته إلى محكمة خاصة يحكم فيها بهواه وحوله أعوان السوء؟ ذلك بالضبط ما كان يحدث.

2 ـ يقول مؤرخنا عن رفيقه القاضى محيي الدين الحنفي أنه كان قد سعى عند محب الدين بن الشحنة قاضى القضاة الحنفية حتى قرره قاضياً من القضاة الحنفية، وعندما صار قاضياً مارس سلطاته بالظلم، أو على حد تعبير مؤرخنا " فصار يصول ويطول ويعزر ( أى يضرب الناس )، وعمل له سوقاً فصار نافقاً ). أى إشتهر فى أخذ الأموال وبتسلطه على الناس فقصده كل من يريد الانتقام من عدو له . ويستمر ابن الصيرفى فيقول عنه:( ولقّبه أهل مصر بكبش العجم ، حتى قال بعضهم: هو ما تأدب بالخروف الذى تقدمه في دولة الظاهر خشقدم") ولم يعطنا ابن الصيرفى تفسيرا لهذا القاضى ( الخروف ) الذى كان قبله .!.

 اتخذ ذلك القاضى من الحارة التى سكن فيها فى ( رحبة الأيدمرى ) مركزاً لسلطانه وترك المحكمة التى ينبغى له أن يمارس فيها وظيفته واستعاض عنها ببيته، يقول عنه ابن الصيرفي : ( وصار ساكناً بالحارة المذكورة يضرب ويرشى ويكشف الرؤوس ويسجن ويبلغ مستنينه ذلك فلا يكلمه ببنت شفه . )، أى صار حضرة القاضى يوقع  العقوبات بالناس من الضرب وكشف الرؤوس- وسبق أن عرفنا كيف كان ذلك ضرباً من الإهانة ابتدعها المحتسب يشبك- ويسجن، ثم يأخذ الرشوة، وتبلغ أفعاله إلى مستنيبه- أى قاضى القضاة الذى أنابه عنه وهو محب الدين بن الشحنة- فلا يكلمه ، مما يدلّ على أن قاضى القضاة الحنفى إبن الشحنة كان مستفيدا من الأموال التى كان يجمعها هذا القاضى زعيم العصابة . وليس هذا مستبعدا فى ضوء السمعة السيئة التى كان يحظى بها قاضى القضاة إبن الشحنة والتى تجلّت فى إحتقار السلطان قايتباى له ، ولكن لأن إبن الصيرفى كان تابعا لإبن الشحنة فلم يسهب فى وصف مساوئه .

3 ـ على أن يفعله ذلك القاضى لم يكن يدعه في ذلك العصر، بدليل أن قاضى القضاة الحنفية أصدر مرسوماً لنوابه من القضاة : ( يتضمن أنهم لا يحكمون إلا في مجالسهم ، ولا يعزرون أحداً إذا وجب عليه تعزير إلا بالباب العالى، وكم يقع هذا من الوجود ولا اعتبار له فيه ). ما سبق هو كلام مؤرخنا ابن الصيرفي عن ذلك المرسوم الذى أصدره قاضى القضاة الحنفية في محرم 876.ومعناه أن القضاة الأحناف كانوا يصدرون الأحكام في بيوتهم وليس في مقر المحكمة الرسمي، وأنهم كانوا ينفذون أحكام التعزير من الضرب والإهانة في بيوتهم وليس في المكان الرسمى المعد لذلك، أى كانوا يصدرون الحكم وينفذونه في الحال، وبالطبع كانوا يأخذون الرشوة، ومن لديه المال يستطيع أن يذهب للقاضى في بيته ويجعل القاضى يضرب له من يريد من الناس، وكل ذلك بحكم الشرع ، وصدر ذلك المرسوم ينهى عن ذلك كله. ولكن هل انتهى القضاة وأطاعوا شيخهم.؟. يقول مؤرخنا وهو أحد القضاة الأحناف في ذلك الوقت: ( وكم يقع مثل هذا في الوجود. ولا اعتبار له فيه ). يعنى ... "مفيش فايدة".

فساد الشهود

1 ـ وفي العصر المملوكي كان الشهود أحد أركان القضاء. وكان الشاهد يجلس في دكان، ويأتي له الناس ليضع شهادته وتوقيعه على المعاملات وغيرها، وتصبح شهادته مقبولة لدي المحكمة، أى يقوم بوظيفة ختم الدولة الرسمى ( ختم النسر في عصرنا)، وكانوا بالطبع يأخذون أجراً على هذه الشهادة. وفي عصر كان فيه القضاة مرتشين لا نتصور أن يكون الشهود فيه من الأولياء الصالحين.

2 ــ وفي أخريات شعبان 801 أى قبل عصر قايتباى بسبعين عاماً ، أمر السلطان برقوق بعرض وفحص الشهود الجالسين بالحوانيت للتكسب بالشهادة، ونحن هنا ننقل عن المقريزي – فكتب نقباء القضاة أسماءهم وشرع القضاة في عرضهم ليختبروا حال كل منهم ويستبقوا من عرف منهم بحسن السيرة، ويمنعوا من كان منهم مذموم الحال، فمنعوا جماعة. ويقول المقريزي :( ثم أعيدوا بالرسائل وشفاعة الأكابر فلم يتم العرض ). أى إنّ الفساد المستشرى هو الحاكم بأمره ، وهو الذى يجهض أى أمل فى الاصلاح الجزئى . ونعود الى الخبر السابق في ذلك العصر حيث كان يعيش المؤرخ العملاق ابن خلدون، وكان قد تولى القضاء ثم عزل عنه واستمر معزولاً خمس عشرة سنة، ويبدو أن السلطان برقوق أراد إصلاح النظام القضائى في عصره  فأعاد ابن خلدون قاضياً للقضاة المالكية في العاشر من محرم 801، وبادر ابن خلدون في عرض الشهود " ( وأغلق عدة حوانيت استحدثت بعده ) ، ولكن عادت الأمور الى الأسوأ لأن الفساد هو الأصل .

3 ـ وتدهور الحال بعد عصر ابن خلدون، وازداد تدهوراً بعد عصر المقريزي ، حتى إذا جئنا لعصر قايتباى ومؤرخه ابن الصيرفي، وجدنا وظيفة الشهود سيئة السُّمعة يترفع عنها أولو الدين والمروءة وإذا اضطر إليها حرص من يؤرخ له على إثبات عفته، يقول ابن الصيرفي عن الشيخ أحمد بن مظفر : ( كان هو ووالده على خير كثير وصلاح دين متين.. وكان والده شاهداً بحانوت يتكسب منه مع عفته وصلاته، وأما صاحب الترجمة- أى ابنه- فكان لا يتعاطي شهادة ولا غيرها . ) ، أى كأنما تحرج ابن الصيرفي أن يذكر أن ذلك الرجل المشهور بالتدين كان يتكسب بالشهادة ، لذا حرص على إثبات عفته وصلاته، ومعناه أن الشهود جرفهم تيار الفساد أكثر من القضاة.

قضاة يخالفون شرع الله جل وعلا فى حياتهم الشخصية

وبعض القضاة لم يراع حكم الله حتى في أموره الشخصية. فالقاضى محمد بن جنة سبط البلقينى ت876 مات وقد ترك وصية مكتوبة ، وقد حرم فيها أخوية من الذكور وجعل تركته كلها لبنته وأخته بما يخالف الشرع الاسلامى فى القرآن الكريم ، يقول عنه مؤرخنا "( وخلف بنتاً وأختاً وأخوين رجلين- فحرمهما ميراثه، أعنى الذكرين، وشكوا للسلطان أمرهما وما أفادهما ذلك . وعند الله يجتمع الخصوم.). ولم يكن هذا القاضى الفاسد وحيد عصره . لذا إستحقّوا إحتقار السلطان قايتباى.

احتقار السكان قايتباى للقضاة:

1 ـ والسلطان قايتباى- كحاكم عسكرى يمثل طبقة أجنبية تحكم مصر- كان ينظر لأولئك القضاة باحتقار، مع أنهم عنده يمثلون الشرع، ومع أنه يستمد مشروعيته منهم، طبقا للشرع السّنى ،الذى يعتبر القضاة وعلماء الدين هم أهل الحل والعقد الذين يعطون للحكم المملوكي وجاهته داخل مصر وخارجها.

2 ــ وكان السلطان يعبر ( شهريا ) عن احتقاره للقضاة وعلماء الدين في أغلب بدايات الشهور العربية، إذا كان من تقاليد السلطة طبقا لتعبير مؤرخنا ابن الصيرفى ( أن يصعد )- لاحظ عبارة يصعد- (قضاة الشرع ومشايخ الإسلام ) إلى القلعة في أول كل شهر عربي لتهنئة السلطان. وابن الصيرفي كان قاضياً ضمن القضاة الأحناف، وكان يحظي بالصعود للسلطان ضمن وفد علماء الإسلام وقضاة الشرع لنفاق السلطان وتهنئته بحلول الشهر العربي الجديد. وكان ابن الصيرفي باعتباره مؤرخاً يحرص على أن يبدأ أخبار كل شهر بتسجيل صعود أولئك الأشياخ للتهنئة.وكان الرجل فيما نعتقد- صادقاً في وصف ما كان يحدث، سواء كان حاضراً وفد التهنئة أو علم بما حدث فيها خلال صديقه ابن مزهر كاتب السر السلطانى وآخرين من زملائه القضاة.

3 ـ ولو كان القضاة ومشايخ العلم على مستوى كاف من الكرامة لاستنكفوا من السعى لتهنئة السلطان كفرض مقرر كل شهر، فالسلطان هو الذى يجب أن يسعى إليهم وليسوا هم الذين ( يصعدون ) إليه، ولكننا نكلفهم شططاً إذا طالبناهم  بهذا، فشريعتهم السّنية تقدّس الحاكم المستبد ، وتحرّم وتجرّم الخروج على المستبد الظالم ، ثم كيف ننتظر من هذه النوعية من القضاء الإحساس بالكرامة ، فلقد علمنا بضاعتهم من العلم وحظهم من الأهلية لبلوغ تلك المناصب، ووصولهم بالرشوة وإعتمادهم عليها فى إصدار أحكامهم القضائية .  ومن هنا كان احتقار السلطان لهم وهم يسعون إلى عتبات القلعة يطلبون الإذن لتقديم التهانى.

4 ــ الطريف أنّ السلطان من ناحيته كان حريصاً على أن يظهر لهم احتقاره بطريقة واضحة مستقيمة. إذ كان أحياناً يتعمد لعب الكرة في نفس اليوم الذين يحضرون فيه ويجعلهم ينتظرونه إلى أن يفرغ من اللعب، ويقول ابن الصيرفي في مفتتح أخبار شهر ذى الحجة "في غرة ذى الحجة 875 : ( فيه صعد قضاة القضاة لتهنئة السلطان بالشهر وكان يلعب الكرة فانتظروه حتى فرغ منها، وكان هذا ختمها يعنى في اللعب" ألم يكن يستطيع تأجيل اللعب بالكرة خمس دقائق.؟؟!!

وفي يوم السبت أول ربيع الثاني 877، يقول ابن الصيرفي : ( صعد فيه قضاة القضاة لتهنئة السلطان بالشهر على العادة وكان يتقدمهم أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو العز عبد العزيز دام شرفه، فهنأه بالشهر، ثم دخل القضاة بعد أن جلسوا طويلاً بجامع الناصر ابن قلاوون ينتظرون الأذن، فإن السلطان نصره الله كان يلعب بالكرة هو والأمراء المتقدمون ، فلما فرغوا جلس بالحوض السلطانى تحت الدكة ، وكنت معهم ، فهنّوا ودعوا وانصرفوا ، ولم يتكلم أحد منه ببنت شفة" أى اهتم بالخليفة العباسى وأهمل القضاة وجعلهم ينتظرون انتهاءه من اللعب.

وفي الشهر السابق أى ربيع الأول 877 لم يحضر السلطان أوّل ربيع الأول حيث كان مسافراً يتنزّه في الشرقية، وعاد منها في يوم السبت 3 ربيع الأول. يقول ابن الصيرفي "( ثم صعد القضاة عقب وصول السلطان فشاوروا عليهم،) أى رفعوا التماسهم بمقابلة السلطان لتهنئته، ( فعادوا عليهم بالجواب بأن السلطان في الحريم فرجعوا. ) وأعادوا الكرّة يلتمسون الإذن : ( ثم ركبوا بعد العصر وصعدوا القلعة فشاوروا عليهم ، فأرسل يعلمهم أنه حضر من السفر وعنده بعض وعثاء السفر ، ولم يحصر لهم ،وأرسل يعتذر لهم بخادم من الخدام فرجعوا ولم يجتمعوا، وكان قبل طلوعهم إليه أرسل الأمير زين الدين يعقوب شاه المهمندار يعلمهم أن ينظفوا أبوابهم من الوكلاء ويمنعوا الصبيان الذين على أبوابهم فامتثلوا لذلك".)، وهكذا كانت مكانتهم عنده، يستكثر عليهم الجلوس معهم دقائق معدوده.وبدلا من أن ينزل ليتقبّل خضوعهم له يرسل لهم خادما يأمرهم أن ( ينظّفوا أبوابهم من وكلاء الرشوة ومن جلوس الصبيان على أبوابهم).

وفي أول صفر 874 يقول مؤرخنا "صعد قضاة القضاة لتهنئة السلطان بالشهر على العادة فوجدوه ركب من قلعة الجبل وتوجه إلى الخانقاه السرياقوسيه فلم يجتمعوا به وعادوا، وصعدوا من الغد إليه فهنأوه على العادة، أى لم يهتم يموعد مجيئهم، وسافر للخانقاه، وهو يعلم أنهم رهن إشارته ويترقبون عودته.

وفي الشهر التالي ربيع الأول 874 يقول مؤرخنا عن أول أيامه "فيه صعد قضاة القضاة ومشايخ الإسلام لتهنئة السلطان بالشهر فوجدوه قد ركب وتوجه للقرافة، فانتظروا بالجامع الناصري حتى عاد وطلبهم فدخلوا إليه بالدهيشة وكان قد فرغ من ترخيمها وتذهيبها وتنميقها وبياضها ولما جلسوا بين يديه ، وكنت حاضراً جالساً معهم ،  قال له قاضى القضاة محب الدين بن الشحنة الحنفي عامله الله بلطفه الخفي" .

تهنى بكم كل أرض تنزلون بها
 

 

كأنكم لبقاع الأرض أمطار
 

 

فقال له السلطان: الله يحفظكم أو ما أشبه بذلك، ودعوا له وانصرفوا" أى تكلم القاضى الحنفي ليس في مصالح المسلمين والمظلومين ولكن لينافق السلطان بالشعر ، ولم يكترث به السلطان .

5 ـ وحين يريد السلطان استخدامهم لأمر شرعي كان يعطيهم بعض الاهتمام.

في أول محرم 873 يقول مؤرخنا": ( وفيه صعد قضاة القضاة للقلعة لتهنئة السلطان بالشهر على العادة ، وكنت في خدمة قاضى الحنفية ، وقرءوا الفاتحة ودعوا ، وأرادوا الانصراف، فأمرهم السلطان بالجلوس بحضرته هيئة عقد مجلس ، وسألهم فى مباشرة بيع مماليك الظاهر .وكان اشترى الملك الأشرف أبو النصر قايتباى . نصرة الله. كل نفر منهم بعشرة آلاف درهم وصاروا مماليكه، وقال الجمال يوسف بن تغرى بردى فى تاريخه الحوادث عند ذكر هذه الواقعة: وهذا شراء لا يعبأ به الله،). كان السلطان يريد شراء مماليك السلطان السابق خشقدم، ويريد وكيلاً شرعياً وصياً عن ورثة ذلك السلطان المتوفى، ولذا احتاج لأولئك القضاة، وهم رهن إشارته، وقد حقق السلطان بهذه الصفقة مكسباً كبيراً بثمن قليل. مما أثار امتعاض المؤرخ أبى المحاسن جمال الدين يوسف بن تغرى بردي فاعتبر الصفقة باطلة، وهو مؤرخ ارستقراطي من أصل مملوكي يفهم مجريات الأمر أكثر من مؤرخنا ابن الصيرفي.

6 ـ ولنتذكر أن أولئك القضاة كانوا يقابلون السلطان كل شهر مرة على الأقل، ولم يتكلموا في مصالح المسلمين.. ولنتذكر أن ذلك الذى ادعى الجنون كى يقابل السلطان ليقول له كلمة حق انتهى مصيره إلى الضرب والسجن، فتلك طبيعة النظام المملوكي من المماليك وخدامهم من العلماء والقضاة.

7 ــــ وكان السلطان يختص الشيخ محب الدين بن الشحنة باحتقار زائد، مع أنه أشهر فقهاء وقضاة الحنفية في عصره، وفي المقابل كان ابن الشحنة لا يملّ من نفاق السلطان، وقد شهدنا طرفاً من ذلك . ونزيد عليه ما أورده مؤرخنا ابن الصيرفى وهو من أتباع ابن الشحنة في أخبار السبت 17 ربيع الثاني 875 يقول : ( وصنع قاضى القضاة محيي الدين ابن الشحنة خطبة عظيمة في مدح السلطان وعدله وفضله ووصفه بجميع أنواع الصفات بين العسكر والأمراء ومن حضر، فلم يكترث لذلك غاية الاكتراث، وقرأها ــ أى ابن الشحنة- من لفظة، ولما فرغ من قراءتها طلبها منه القاضى نور الدين الأنبابي.. ليقرأها ويكتبها، وذكر من المبالغة والإطراء أنه يرسل بها إلى الأقطار والأمصار. ) . لم يكترث السلطان بهذا النفاق الرخيص المبالغ في المدح، ولكن اهتم بقصيدة ابن الشحنة قاض أخر منافق عرض أن يكتبها وينشرها في الأقطار والأمصار،، فماذا كانوا سيصنعون لو اهتم السلطان أكثر بابن الشحنة وخطبته الرخيصة ؟.

8 ــ ومع ذلك ففي ليلة الرابع والعشرين من رمضان 876 صعد قاضى القضاة ابن الشحنة للفطر في رمضان عند السلطان، يقول مؤرخنا : ( فلم يمكن من ذلك ورُدّ عند آذان المغرب )  أى طردوه.!!. هل كان ابن الشحنة مسكينا لا يجد طعام الإفطار في بيته؟ بالطبع لا.. ولكنه كان يريد استرضاء السلطان ونفاقه- والسلطان كان قد ملّ منه ومن نفاقه ومن فساده أيضاً. فطرده..

9 ـ والسلطان وسائر فصيلته من العسكر المماليك يعرفون أن حكمهم قائم على الظلم، ومع ذلك فقد كان يعتبر نفسه أكثر قياماً بالقسط من أولئك القضاة، ويدلنا على ذلك ما أورده مؤرخنا ابن الصيرفي في أحداث السبت 16 جمادى الأولى 875 عن وفاة بنت الخازن ، وكانت سيدة ثرية ، يقول عنها ابن الصيرفى : ( وكانت قد عمّرت وخلفت أموالاً جمة ، ولها أوقاف كثيرة من قبل أبيها، ويؤول النظر في هذه الأوقاف بعد موتها إلى قاضى القضاة الحنفي خ، ولكن أراد القاضى الشافعى الوثوب والاستيلاء لنفسه على نظر تلك الأوقاف) وما يعنيه ذلك من سرقة مؤكدة . وبلغ السلطان ذلك النزاع بين قاضى القضاة الحنفي وقاضى القضاة الشافعي ( فقال: أنا أحق من الاثنين ، ولكنى أعمل فيهم بالشرط وأحميهم من الغاصبين.). أى تولى  السلطان بنفسه نظارة تلك الأوقاف ليحميها من هذين القاضيين..ووصف السلطان قاضى القضاة الشافعى وقاضى القضاة الحنفى بكونهما ( غاصبين ) ..!!.

اجمالي القراءات 12203