خواطر سورة الأنفال
الخاطرة 24 في فقه الجهد: إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا!

نسيم بسالم في الإثنين ١٧ - سبتمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الخاطرة الرابعة والعشرون: إن يعلَم الله في قُلوبكم خيرًا يُؤتكم خيرا

نُواصِل خواطِرنا مَع الأنفال وهذه المرَّة مَع قوله سُبحانه وتعالى في آياتٍ بيِّناتٍ: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70) وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)).

   لقَد كانَت غزوة بَدرٍ أوَّل نازِلَة نازَل فيها النبي (صلى الله عليه وسلَّم) الكُفَّار والمُشرِكين؛ وكانَ المُسلمُون – كما هُو مَعلُومٌ- قلَّة في العَدد والعتاد؛ فليسَ مِن الحِكمَة أن يُركِّزَ المُسلِمُون جُهدهَم على استِجماعِ الأسرى وحيازتهم طَمعًا في فِديَة يفدُون بِها مُهجهُم؛ بل الكياسَة وحُسن تدبيرِ الأُمور يقتضيَان إعمال القَتل في أئمِّة الكُفرِ قَدر الإمكان حتَّى تُخضَد شوكتُهم ويُرهب جانبُ المُسلمين! وليسَ في هذا الإثخانِ قَدرٌ مُحدَّد؛ بل بما تقتضيهِ المصلحَة ويتحقَّق بِه المَقصَد!

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) [محمد : 4].

   هذا ما أشارَ بِه الفارُوق المُلهَم لرسُول الله (صلى الله عليه وسلَّم) قبلَ أن تنزِل هذه الآيات على خلافٍ لَه (عليه صَلوات ربِّي) ولأبي بَكر ولجمهرَة مِن الصَّحابَة كَما تحكي كُتبُ السِّير! وعبارَ ته الرَّائِعَة التي سارَت بِها الرُّكبان في هذا الصَّدد: (حتى يعلَم الله أن ليسَ في قُلوبِنا هوادَة للمُشركين)! وكان الرَّسُول يقُول بعدَها باكيًا: (لَو نَزل عذابٌ بِنا ما نجا مِنه إلا َّ أنتَ يا عُمر)!

(لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [الأنفال : 68].

- لقَد أرادَ الله سُبحانَه مِن هذا التَّشريعِ الحَكيم أن يُعظِّم في قُلوب المُؤمنين بِه – كرَّة أُخرى-  أولويَّة مصالِح الدِّين وظهُورِه وبُزوغِ أعلامِه على مصالِح شخصيَّة ضيِّقَة؛ لا تعدُو أن تكُون عرضًا زائِلا مِن أعراضِ الدُّنيا!

   ولَكن مَع هذه الشِّدَّة والتَّعنيفِ مِن قبل الباري عزَّ وجل نلمسُ شآبيبَ رحمتِه وأغمارَ لُطفُه سُبحانه وتعالى مِن خلالِ إحلال الغنائِم للمُسلمين، وما أخذُوه مِن أولئك الأسرى فِديَة؛ مَع مسحَة مِن التَّخويف والوعيد في النِّهايَة (واتقُوا الله إنَّ الله غفُورٌ رَحيم)!!   وكيفَ لا يكُون الباري رَحيمًا بأولئك الصَّفوَة الذين شَرَوا أنفُسَهم في سبيله وقالوا لرسُوله: (والله لَو خُضتَ بِنا هذا البَحر لخُضناه معك؛ والله لا نقُول لَك مِثل ما قالت بني إسرائيل لمُوسى: اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدُون، ولَكن نقُول لكَ اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنّا معكُما مُقاتلون!!

   الله أكبَر على هذا الإيمان الشَّعشعاني الذي يبذُل فيه صاحبُه نفسَه رخيصَة في سبيل من آمنَ لَه ولأجلِه!

- وحتَّى يُؤكِّد لَنا البيانُ الإلهي تارَةً أُخرَى أنَّ مُبتغاه ليسَ إعمالَ آلَة القَتل ولا إزهاقَ الأرواح إلاَّ لضرورة وإلجاءٍ لا مناصَ مِنه إلا ذَاك؛ يلتفتُ إلى أولئِك الأَسرى المغلُولين في أصفادِهم؛ المُنكَّسَة رُؤوسُهم - وليستشعر كُلُّ واحِدٍ منَّا الحالَة النَّفسيَّة التي هُم فيها-  وهُم يتوقَّعُون أن تُفصَل رؤوسهُم عَن أجسادِهم؛ يقُول لهُم في حَنان ورأفَة ما بعدَها رأفة: إن يعلَم الله في قُلوبكُم خيرًا يُؤتكم خَيرا!

- أي إن عُدتُم عُدنا؛ ولا يزالَ بابُ الرَّجاءِ أمامكُم مَفتُوحًا للتَّوبَة والإنابَة؛ بِشَرط أن تُغيِّروا ما بأنفسكُم فيُغيِّر الله ما بكُم! فأينَ هذا المَنهَج الرَّباني في التَّعامُل مَع المُخطئين مِن واقِع كثيرٍ مِن المُسلمين يُبدِّعُون ويُكفِّرُون ثُمَّ يقتلُون ويُذبِّحُون؛ رُبَّما لمُجرَّد شُبهَة أو تأويل!

أينَ هُم مِن قوله عزَّ وجل: (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : 38].

    ألَم أقُل لكُم إنَّ كتاب الله في واد؛ وواقِع كثيرٍ مِن المُسلمين  - من مُختلف الطَّوائف – في وادٍ آخَر – إلا مَن رحِم ربِّي – ومَع ذَلك تجدُ بعضَ مشيَختِهم يُرعدُون ويُزبدُون إن قارنتَ لهُم واقِع المُسلمين بواقِع بني إسرائيل الذي أسهب في تشخيصِ معالمِه كتابُ الله بشكل عجيب! ولَعمري ما الفَرق؟! هَل غدا المُسلمُون أبناءُ الله وأحباؤه كَما زعَم اليهُود؟! كذلك قالَ الذين لا يعلمُون مِثلَ قولِهم تشابَهت قُلوبُهم! نسأل الله العَفو والمُعافاة، والهداية إلى سواء الصِّراط.

   يقُول سيِّد قُطب بشأن آيَة الأسرَى: (إنالإسلام إنما يستبقي الأسرى لديه , ليلمس في قلوبهم مكامن الخير والرجاءوالصلاح, وليوقظ في فطرتهم أجهزة الاستقبال والتلقي والتأثر والاستجابة للهدى . لاليستذلهمانتقاماً , ولا ليسخرهم استغلالاً ; كما كانت تتجه فتوحات الرومان ; وكماتتجهفتوحات الأجناس والأقوام)!

* أتساءَل في غَمرَة هذه الثَّورات العربيَّة التي نعيشُها اليَوم: هَل يُعامِل المُتقاتلُون بعضهُم بعضًا – وهُم كُلُّهم يدينُون بالإسلام ظاهِرًا – على الأقل مِثل ما تعامَل الحبيبُ المُصطفى مَع أولئك الأسرى المُشرِكين؟! أم لَم نَسمَع إلا التَّنكيل والتَّذبيح، والتَّفنن في ألوانِ التَّعذيب مِن كُلِّ الأطراف المُتنازِعَة على حدٍّ سَواء؟! وهَل نرتَجي بعد ذَلك مِن مُستقبلِ هذه الثَّورات خَيرًا في صَلاح البلادِ وإقامَة أمرِ الدِّين بغض الطَّرفِ عَن الجِهة التي تكُون في النِّهايَة غالبَة؟!

* طبعا كَما يقُول الشَّاعر: وهَل يُنبتُ الخطيَّ إلا وشيجه؟! إن لَم تكُن شَجرة هذه الجَماعات السَّاعيَة إلى الحُكم والرئاسَة قَد نبتَت في تُربَة صالِحَةٍ مِن الإيمان والتَّقوى، وتخرَّجت مِن مدرسَة الوَحي بعدَ تربيَة سنين وأعوام كما تخرَّج الرَّعيل الأوَّل من الصَّحابَة الكِرام مِن مدرسَة النُّبوَّة؛ فلا خيرَ يُرتَجى؛ اللهم إلا تغيُّر الأسماء والأشكال؛ والواقِع باقٍ كما هُو  بأزماتِه ومشاكِله؛ ورُبَّما انبثقت مشاكِل مِن نَوعٍ آخَر لَم تُعهَد مِن ذي قَبل!

- وأيمُ الله لستُ مُتشائِما ولا نابِذًا للتَّغيير ولا مُخذِّلا للعَزائِم؛ ولَكنِّي أومِن إيمانًا لا يتزحزَح أنَّ التَّغيير لا يكُون إلا بنفسِ المَنهَج والخطِّ الذي سارَ عليه الرَّسُول (عليه الصَّلاة والسَّلام) ومَن سبَقَه مِن أولي العَزمِ من الرُّسل! أمَّا التَّغيير الفَوقي المُنتَهج الآن بما نَراه مِن عُنفٍ وتَكفيرٍ وتفجيرٍ؛ بل وتواطُؤ فاضِح مَع أعداءِ الدِّين في خساسَة ما بعدَها خساسَة؛ فلَن يُورثَ إلاَّ الدَّمار والخَراب؛ ولَنا في " سيناريُو العراق" عِبرَة لَمن يعتبر، وما هُو عنَّا ببعيد! ولَن تجدَ لسُنَّة الله تبديلا!

   فاللهم رُحماكَ بالبلاد والعباد؛ واللهُمَّ أعد المُسلمين على اختلافِ طوائِفهم ونِحلِهم ومذاهبهم إلى ينبوع الهدايَة؛ كتابك العَظيم الذي أنزَلتَه بِعلمِك يا مَن يعلَم السِّر في السَّماوات والأرض؛ وانفِ عَن دينك ما أقحمه فيهِ الحاقدُون وخلطَه بِه الجاهلُون ، والحمد لله ربِّ العالمين.

 

اجمالي القراءات 37859