تنص المادة (١٧٣) من الدستور بعد تعديلها علي ما يلي: «تقوم كل هيئة قضائية علي شؤونها، ويشكل مجلس يضم رؤساء الهيئات القضائية يرأسه رئيس الجمهورية يرعي شؤونها المشتركة، ويبين القانون تشكيله واختصاصاته وقواعد سير العمل به»،
وعبارة النص صريحة في أن كل هيئة قضائية مختصة بشؤونها، وأن عضوية هذا المجلس مقصورة علي رؤساء الهيئات القضائية فقط، أي أن هذه العضوية تقتضي وجود ما يسمي هيئة قضائية ووجود رئيس لها، وأن مهمة المجلس مقصورة علي مجرد رعاية الشؤون المشتركة.
ورغم أن مهمة المحكمة الدستورية العليا مقصورة بصريح نص المادة (٢٦) من قانونها علي ما يلي: «تتولي المحكمة الدستورية العليا تفسير نصوص القوانين الصادرة من السلطة التشريعية، والقرارات بقوانين، الصادرة من رئيس الجمهورية وفقاً لأحكام الدستور، وذلك إذا أثارت خلافاً في التطبيق...» أي أنها لا تتسع لتفسير نصوص الدستور ذاته.
ورغم أن قرار المحكمة الدستورية العليا رقم ٢ لسنة ٢٦ قضائية الصادر بجلسة ٧/٣/٢٠٠٤ بتفسير عبارة الهيئات القضائية كان منصباً علي الفقرة الثانية من المادة (٢٤) من القانون ٧٣ لسنة ٥٦ بشأن مباشرة الحقوق السياسية،
ومن ثم فإن أثر هذا التفسير لا يتعدي هذا النص إلي دلالة العبارة ذاتها في نصوص أخري، بل إن هذا الحكم قد أشار إلي استعمال العبارة في مواضع مختلفة بدلالات أخري، إلا أنه من المفيد أن نذكر هنا نص القرار للاستئناس،
فقد جرت عبارة منطوقة علي ما يلي: «قررت المحكمة أنه يقصد بعبارة (الهيئات القضائية) الواردة بنص الفقرة الثانية من المادة (٢٤) من القانون ٧٣ لسنة ٥٦، المشار إليه كل هيئة يسبغ عليها الدستور أو القانون الصادر بإنشائها أو تنظيمها صفة الهيئة القضائية، وتنضم بهذه الصفة إلي تشكيل المجلس الأعلي للهيئات القضائية، ويصدق ذلك علي هيئتي قضايا الدولة والنيابة الإدارية».
وعبارة القرار صريحة في أنه يشترط اجتماع أمرين، أولهما نص في الدستور أو قانون الإنشاء أو التنظيم علي اعتبار هيئة ما أنها قضائية والثاني أن تنضم بهذه الصفة إلي تشكيل المجلس الأعلي للهيئات القضائية، فلابد من اجتماع الأمرين معاً النص وعضوية المجلس.
٢ ـ القضاء سلطة لا هيئة:
وبمراجعة نصوص الدستور، وقانون السلطة القضائية المنظم لشؤون القضاء، لا نجد نصاً واحداً يقول إن القضاء هيئة بل إن النصوص التي تنظم شؤون القضاء تكاد أن تحظر جمع القضاة في صورة هيئة، بالمعني المقصود. ذلك أن الدستور لم يكتف بالنص في المادة (١٦٥) علي أن: «السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم علي اختلاف أنواعها ودرجاتها»، بل حرص علي أن ينص في المادة (١٦٦) علي أن «القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون».
ليكفل لكل قاض بمفرده الاستقلال في إطار الجماعة القضائية، ولا يستقيم فهم نص المادة (١٦٧) من الدستور علي أن يحدد القانون الهيئات القضائية، واختصاصاتها في شأن رجال القضاء، إلا بمعني وحيد لا يستقيم غيره وهو تحديد المحاكم المشار إليها بالمادة (١٦٥)، ولا يمكن أن ينظم كل القضاة في هيئة بالمعني المستعمل في هيئة قضايا الدولة أو النيابة الإدارية، وذلك بإجماع الآراء في العالم كله.
يقول الدكتور أحمد فتحي سرور في كتابه الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية، طبعة نادي القضاة، سنة ١٩٨٠، من ٨٦٩: «لا يجوز أن ينشأ بين القضاة نوع من التبعية الإدارية مهما اختلفت درجاتهم أو مستويات محاكمهم، فكلهم جميعاً قضاة مستقلون، لا يتبع أحد منهم أحداً مهما علت درجته أو ارتفع مقامه، بل يجب أن يكون الخضوع لجمعيات القضاة بالمحاكم»،
ثم يستطرد الدكتور فتحي سرور فيقول: إن «فكرة التبعية الرئاسية تتضمن بالضرورة قدراً من القهر والإخضاع التي تتجافي مع طبيعة العمل القضائي التي تقوم علي أن كل قاض بنفسه مستقل حتي لو كانوا يشتركون في عمل واحد».
٣ ـ المحاكم هي هيئات القضاء:
المحاكم سواء كانت محكمة النقض أو الاستئناف أو المحاكم الابتدائية هي الهيئات القضائية. فحين أسندت المادة (٢٣) من القانون ١٤٧ لسنة ١٩٤٩ إلي محكمة النقض منعقدة بهيئة جمعية عمومية مهمة الفصل في طلبات القضاة قالت المذكرة الإيضاحية للقانون إنه: «شرع لرجال القضاء والنيابة طريقاً للطعن في المراسيم والقرارات المتعلقة بإدارة الهيئة القضائية، وزاد علي ذلك حماية أخري «فوكل أمر الفصل في الطعون إلي أعلي هيئة قضائية في البلاد، منعقدة في هيئة جمعية عمومية».
وهكذا اضطر المشروع اضطراراً إلي أن يمثل القضاء، الذي اعتبره هيئة بأن ضم إلي عضوية المجلس المقترح، رئيس محكمة النقض ورئيس محكمة استئناف القاهرة، وأسقط من حسابه سبع محاكم استئناف واثنتين وعشرين محكمة ابتدائية.
مع ملاحظة أن رؤساء هذه المحاكم لا يمثلون قضاتها، وليس لهم صلاحيات رؤساء الهيئات العامة المعروفة في القانون بحكم العمل القضائي، وحرصه علي استقلال كل قاض.
وقد يكون من المفيد أن نورد في هذا الخصوص رأي وزارة العدل ذاتها في طبيعة عمل رؤساء المحاكم. فهي تقول ما نصه: «هذه الوظائف يغلب عليها الطابع الإداري، وهو طابع وإن كان يصلها بإدارة العدالة، إلا أنه يباعد بينها وبين قضاء الحكم أو التحقيق، ومن ثم فمن الملائم أن تكون لوزير العدل الكلمة الأخيرة في اختيار من يعاونونه».
وظائف رؤساء المحاكم إذن يغلب عليها الطابع الإداري، ومهمتها معاونة وزير العدل في أداء مهامه، وهي بطبيعتها بعيدة عن قضاء الحكم والتحقيق، ومع ذلك لم يجد المشروع بديلا من أن يختار من بينهم اثنين ينضمان إلي عضوية المجلس المقترح، ليقرر هذا المجلس ما يعن له في شؤون قضاة الحكم والتحقيق ويرفعوا الحصانة القضائية عنهم!!
وعلي هذا فإن أول أخطاء المشروع أنه اعتبر القضاء هيئة، واعتبر رئيس محكمة النقض ورئيس استئناف القاهرة بمثابة رئيسين لهذه الهيئة التي افترضها.
٤ ـ المشروع المقترح يخالف الدستور:
من أعد المشروع لم يحسن قراءة النص المعدل للمادة (١٧٣) من الدستور، الذي أعد تطبيقاً له. فالنص في ثوبه الجديد يقول: «تقوم كل هيئة قضائية علي شؤونها»، ومهمة المجلس هي مجرد «رعاية الشؤون المشتركة»، ورعاية الشؤون المشتركة دون تدخل في الشؤون الخاصة بأي هيئة، تعني إصدار التوصيات،
وإعداد الدراسات، ورسم السياسات العامة للنهوض بالعدالة ورجالها والمساهمين فيها، دون أن يكون له إصدار أي قرار يلزم إحدي الهيئات في شأن من شؤونها. ولو راجعنا المشروع لوجدناه يتدخل في أخص شؤون الهيئات حتي درجات الموظفين في كل هيئة، وما شأن إحدي الهيئات بدرجات العاملين في الهيئة الأخري.
٥ ـ المشروع المقترح يتيح للخصم أن يختار قاضيه:
إن النص يقع في خطيئة كبري حين ينص علي اختصاص المجلس بتحديد أسماء أعضاء الدائرة الأولي بالمحكمة الإدارية العليا من الشخصيات العامة في قضايا إنشاء الأحزاب.
كيف يكون تحديد أسماء أعضاء إحدي دوائر المحكمة الإدارية العليا شأناً مشتركاً بين الهيئات كافة؟
ثم كيف نسمح لهيئة قضايا الدولة وهي، بالضرورة والحتم، خصم في الدعاوي المرفوعة أمام هذه الدائرة أن تشارك في اختيار القضاة الذين سيحكمون في هذه الدعاوي؟
الرعاية هي الحفظ والصيانة، وأهم شئ مشترك بين كل المعنيين بشؤون العدالة هو استقلالهم، فإذا جاءت نصوص المشروع تقحم وزير العدل، وهذا المجلس المختلط في شؤون كل هيئة، فهل يكون قد حفظ استقلالها أم ضيعه؟
٦ ـ العدوان علي الحصانة المقررة بالدستور:
جاء بالمادة الخامسة من المشروع، التي تم إلقاؤها من جواز التظلم في القرارات الصادرة من المجالس المختصة بالهيئات القضائية بشأن الإذن باتخاذ الإجراءات الجنائية قبل أحد القضاة. وأحسب أنه لا يمكن، تحت أي دعوي، القول إن الإذن برفع الحصانة عن شخص بذاته يعتبر من الشؤون المشتركة بين الهيئات القضائية المختلفة، بل هو شأن يتعلق بشخص معين بذاته. وفي هذا خروج صريح علي نص الدستور.
٧ ـ وجود وزير العدل في المجلس يخالف الدستور:
إقحام وزير العدل في تشكيل المجلس، بل وإسناد الرئاسة إليه عند غياب رئيس الجمهورية.
ذلك أن نص المادة (١٧٣) من الدستور لم يطلق سلطة مجلس الشعب في تشكيله، بل اشترط أن يرأسه رئيس الجمهورية، وأن يضم رؤساء الهيئات القضائية. ورئيس الجمهورية هو رئيس الدولة بسلطاتها الثلاث، عملا بنص المادة (٧٣) من الدستور. فلا تثريب عليه، إن هو تولي رئاسة المجلس، أما إشراك وزير العدل،
وهو أحد أفراد السلطة التنفيذية ليشارك في إدارة الشؤون القضائية، ناهيك عن رئاسة المجلس، فمخالفة صريحة لنص المادة (١٦٦) من الدستور التي تقول صراحة: «لا يجوز لأي سلطة التدخل في القضايا أو في شؤون العدالة»، ومهمة المجلس المقترح هي رعاية شؤون العدالة. بل لا أحسب أن الذوق القانوني يسمح بأن يترأس وزير العدل، الذي هو أحد أفراد مجلس الوزراء.. مجلسا يضم رئيس المحكمة الدستورية العليا، ورئيس مجلس النقض ورئيس مجلس الدولة..
في الوقت الذي تنص فيه المادة (٨٤) من الدستور علي أنه: «في حالة خلو منصب رئيس الجمهورية يتولي رئاسة البلاد رئيس مجلس الشعب. فإذا كان المجلس منحلا حل محله رئيس المحكمة الدستورية. ورئيس المحكمة الدستورية، بمقتضي نص المادة (٧٦) من الدستور بعد تعديلها في ٢٦/٣/٢٠٠٧، هو الذي يعلن نتيجة انتخاب رئيس الجمهورية نفسه».
فكيف يستقيم بعد ذلك أن نتصور أن يكون عضوا في مجلس يرأسه وزير أو حتي رئيس الوزراء؟ ألم تنص المادة (٧٣) من الدستور علي واجب رئيس الجمهورية في أن «يرعي الحدود بين السلطات لضمان دورها الوطني»، فإذا رأس وزير العدل مجلس يضم رؤساء محاكمنا العليا،
ألا تكون السلطة التنفيذية قد تغولت علي السلطة القضائية علي نحو يؤدي إلي ضياع حقوق المواطنين، وحرياتهم بضياع استقلال القضاء، الذي هو الضمان الأخير الأساسي لحماية الحقوق والحريات عملا بنص المادة (٦٥) من الدستور.
تقول المحكمة الدستورية إن: «السلطة القضائية سلطة أصيلة، تقف علي قدم المساواة مع السلطتين التشريعية والتنفيذية وتستمد وجودها وكيانها من الدستور ذاته لا من التشريع، وقد ناط بها الدستور وحدها أمر العدالة مستقلة عن باقي السلطات،
ولازم ذلك ألا تسأل السلطة التنفيذية ممثلة في أحد وزرائها عن التعويض عما يدعيه المتقاضون من ضرر لحقهم نتيجة أمر أو قرار قضائي أصدره واحد من أعضاء السلطة القضائية إذ إن أعضاء هذه السلطة لا يدينون بالتبعية للسلطة التنفيذية أو أحد وزرائها، ولا يستقيم كذلك القول بتمثيل الأخير ـ وزير العدل ـ لمرفق القضاء، إذ العدالة لا تعد مرفقا».
٨ ـ روح المشروع المقترح أسوأ من نصوصه:
وهدفها الحقيقي هو العصف باستقلال القضاء. فخانت وزارة العدل الأمانة التي وضعتها مصر في عنقها، وقت أن أصدرت قانون السلطة القضائية الأول وقالت إن: «كل ما في القانون من ضمانات، وما يقوم عليه من دعائم وامتيازات، لا يغني عن أمرين أحدهما أمانة في أعناق القضاة، والثاني في أعناق الحكومة..
وأما ما هو في عنق القائمين علي تنفيذ هذا القانون فهو أن ينفذوه بروح المؤمن باستقلال القضاء كحقيقية واقعة، فلا يدعون ثغرة مفتوحة يمكن أن ينفذ منها إلي استقلال القضاة إلا سدوها، وأن يفسروا القانون دائما ويطبقوه بهذه الروح، فما كان القانون ليحيط بكل شيء، ولا ليحتاط لكل شيء.
والقارئ لنصوص المشروع يكتشف بسهولة ويسر أن المقصود الوحيد منه هو العصف باستقلال القضاء، وفتح الثغرات للتدخل في شؤونه.. ففضلاً عن الملاحظات السابقة ودلالاتها.. فما أكثر في المشروع من أدلة علي قصد العصف باستقلال القضاء.. فبعد أن أفلح القضاة في استصدار القانون ١٤٢ لسنة ٢٠٠٦ متضمناً المادة «٧٧ مكرر - ٥» باستقلال القضاء والنيابة العامة بموازنة مستقلة، لا شأن لوزير العدل،
ولا للمجلس الأعلي للهيئات القضائية بها، ونطقت المذكرة الإيضاحية للمشروع بهذا الاتجاه، كما أفلح القضاة في انتزاع بعض صلاحيات وزير العدل، بما في ذلك تبعية النيابة العامة له، بل عدلوا النص الذي كان يسمح بعقد مجلس القضاء الأعلي في وزارة العدل، وإذا بالمشروع المعروض الآن لا يكتفي بأن يعصف بكل هذه المكتسبات، بل يفتح الباب علي مصراعيه لهيمنة وزارة العدل،
فبعد أن اعتبر العديد من شؤون القضاة شأناً مشتركاً إذ به يعطي المجلس اختصاصاً «بكل ما يحيله وزير العدل للمجلس من موضوعات أخري تتعلق بأي شأن مشترك للهيئات القضائية»، وإذا كانت درجات القضاة شأنا مشتركا وموظفي المحاكم شأناً مشتركاً وحصانة القضاة شأنا مشتركاً وتشكيل المحكمة الإدارية العليا شأناً مشتركاً؟
ألا تكون النوادي في نظر وزارة العدل في هذا الزمان، شأنا مشتركا، ألا يتسع هذا النص لأن يطرح وزير العدل علي المجلس المقترح، إصدار قرارات تحظر علي القضاة القيام بواجبهم في الدفاع عن سلطانهم واستقلالهم وتجردهم من الحصانة النفسية اللازمة لقيامهم بعملهم،
بل يكفي لبيان هذه الروح ما جاء بنص المادة السادسة من أنه يشترط لصدور قرار تنظيم أمانة المجلس توافر أغلبية خاصة علي أن يكون من بينهم الرئيس والمقصود بالرئيس، طبعا هو وزير العدل، حاشا لله أن يخضع لقرار الأغلبية أي استخفاف، وأي استعلاء؟ وعلي من؟ علي رؤساء المحاكم العليا!! غير مكتف بأنه هو وحده الذي يدعوهم للاجتماع وفي مكتبه وهو وحده الذي يحدد المواد المعروضة عليهم!
هذه الروح التي ابتدعت هذا النص غير المسبوق لا يمكن الاطمئنان إليها، خاصة في هذا الوقت وفي ضوء التوتر القائم بين القضاة ووزارة العدل.
وأخيراً يجب علي القضاة الدفاع عن استقلال القضاء وإلا تحول إلي مجرد وهم.
واستقلال السلطة القضائية مؤداه أن يكون تقدير كل قاض لوقائع النزاع، وفهمه لحكم القانون بشأنها، متحرراً من كل قيد، أو تأثير، أو إغواء، أو وعيد، أو تدخل، أو ضغوط، أياً كان نوعها أو مداها أو مصدرها أو سببها أو صورتها، ما يكون منها مباشراً أو غير مباشر.
ومما يدعم هذا الاستقلال، أن يكون للقضاة حق الدفاع عن محتواه بصورة جماعية، من خلال الآراء التي يعلنونها، وفي إطار حق الاجتماع.. ويجب بوجه خاص أن توفر الدولة لسلطتها القضائية - بكل أفرعها - ما يكفيها من الموارد المالية التي تعينها علي أن تدير بنفسها عدالة واعية مقتدرة، وإلا كان استقلالها وهماً.. هي أمانة إذن في عنق القضاة، ما أثقلها.