تكويننا الثقافي
سوف نمر على هذا الموضوع بلمحات دالة للوصول إلى نتيجة وليس استطرادا لا لزوم له .
سبق وقد أشرت إلى الأنماط الفكرية لكل من المجتمعات الغر بية اجمالا والتي تتسم بالنظرة الفئوية للأشياء دون الالتفات لخلفيتها .
وكذلك النمط الفكري لدول جنوب شرق أسيا والتي تتسم بالنظر إلى الأشياء من خلال السياق العام .
وتوقفنا حين السؤال عن النمط الفكري الخاص بنا .
ويمكن أن يتم التركيز على مجتمعنا المصري بمن فيه الآن من أجيال متتالية .
والتي تبدأ بفترة الملكية المصحوبة بالاستعمار الانجليزي التي عايشتها في بداية حياتي وتنتهي بالفترة الراهنة التي أعيشها .
والتعليم هو الجانب الحاسم في التكوين الثقافي ، لذا يجب أن ننظر إلى ماهية تعليمنا ، حيث كان التعليم في فترة الملكية ينقسم إلى ثلاث فئات
· تعليم ديني يعتمد على تلقين التراث .
· تعليم الزامي يواكب المعرفة الإنسانية من منظور أدبي .
· تعليم أجنبي يواكب التطور العالمي من خلال منظور علمي .
وأصبح مجتمعنا الثقافي ممثل من هذه الفئات الثلاث .
شيوخ أزهريين غارقين في كتب التراث ، ومنهجهم " التلقين "
وأفندية بتحصيلهم المعرفة انطلاقا نحو الأفكار بمناهج أدبية .
وعلماء يبحثون عن أسس تطوير مجتمعنا من خلال المناهج العلمية .
" تلقين ، مناهج أدبية ، مناهج علمية " .
وكانت الثقافة الليبرالية هى السائدة بحكم التأثر بالحضارة الغربية التي كانت تحتلنا بجانب الثقافة الدينية .
مع وجود جانب سلبي ، وهو انحسار العدالة الاجتماعية لذا كان يسمى بحق عصر الاقطاع .
ثم كانت ثورة 1952
فأستبدلت بجانب التعليم الديني التلقيني ، تعليم اشتراكي تلقيني آخر .
لذا نجد العداء حاد بين هذين الاتجاهين التلقينيين بسبب اختلاف التوجه والمرجعية ، وما تبقى من التيار الليبرالي قابل للانفتاح على كلا التيارين ، وتقلص التعليم الأجنبي ، وتم تكريس ثقافة الاختلاف والذي هو ثبات الأفكار داخل إطارها الضيق ، والتدليل عليها بالدين ، والدين من هذا براء .
فأصبح الغالب على مجتمعنا التعليم التلقيني حتى في المجال العلمي لاعتمادنا على المناهج الأدبية .
وتم تفتيت الملكيات الزراعية ، مما يصعب معه ادخال الميكنة الزراعية ، وانحسار طمي النيل الذي كان يجدد للأرض الزراعية حيويتها ، وكان التأميم الذي قنن بقوانين بها الكثير من الظلم الاجتماعي .
مع وجود عامل إيجابي وهو محاولة اذابة الفوارق بين الطبقات ، وتطوير الصناعة .
ثم جاء عصر السادات " الانفتاح الاقتصادي " وما يتسم به من انفتاح على كامل المجتمعات ، وخاصة وكنا نعيش بداية عصر المعلوماتية ، والسماوات المفتوحة ، والتبادل الثقافي .
ولما كات المجتمع المصري غير مهيء لرعاية النابهين من ابنائه ، مما أوجد ما يسمى بهجرة العقول العلمية .
وأصبح داخل المجتمع الأنماط التقليدية التي تبحث عن مصالحها بشتى الطرق ، وخاصة السلبية منها .
ثم جاء عصر مبارك والتزاوج بين الثروة والسلطة ، وما نتج عن ذلك من فساد استشرى في نسيج المجتمع ، ليكون بمثابة المكون الرئيسي لثقافة المجتمع ، مما أوجد التسلط ممن هو أعلى على من هو أدنى ، والخنوع لمن هو أعلى .
وأصبح الخروج على النظام سمة عامة ، وأصبح المجتمع يعيش عشوائية يقنن فيها الفساد ، وتاه أصحاب القيم النبيلة وانزووا متقوقعين داخل مجتمعهم .
وهذا وصف عام لا يخلو من الاستثناءات .
ثم قامت ثورة 25 يناير .
لتعلن أن الأمور لن تستقيم إلا في ظل نظام تسوده العدالة ، والحرية ، والحياة الكريمة .
وذلك من خلال شعارهم " عيش ، حرية ، عدالة اجتماعية " .
ونجد من الصعوبة وجود امكانية للانفتاح الفكري على الثقافات الأخرى .
وقبول الآخر المختلف .
وما يجب علينا عمله أمام نمطنا الفكري هذا هو تكريس الرؤية النقدية والتي تدعم التفكير الحر المنضبط ليتم النظر في سلبيات مكوناتنا الثقافية علما بأن الرؤية النقدية هى المنتجة للعلم في أي مجتمع أيا كان .
لننطلق علميا في كافة المجالات وعلى رأسها الجانب الديني .
والتفكير العلمي هو التفكير العادل المتجه دائما نحو الحقائق بوعي .
وأود أن أشير إلى الفارق ما بين المناهج الأدبية والمناهج العلمية : فالأدبية تقوم على فكرة " فرضية " تتسم بالخيال الشعرى الذي هو قمة الأدب ، ويقول الشعراء أنفسهم " أعذب الشعر أكذبه " مما يجعل انتاجهم يتسم بعدم الموضوعية ، ويتم البناء عليها وتقدم .
أما المناهج العلمية فهى أكثر صرامة من المناهج الأدبية : فتقوم على فكرة " فرضية " يتم تجربتها ومشاهدة الملاحظات الناتجة عن التجربة ثم الخروج بالنتائج
وعليه نجد النتائج أكثر اتساقا وموضوعية .
لنحقق قول الله تعالى حيث يقول :
" إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ 11 الرعد " .
إخواني المسلمين
لابد من المواجهة مع أنفسنا وما نحمله من تراث أثقل كواهلنا ، فنحن جميعا ودون استثناء غرقى التراث ، فقد ولدنا نحمل عقيدة آبائنا ، سواء كان رسالة سماوية أو حتى داخل الرسالة الواحدة ، فمن كان آبائهم على مذهب أهل السنة أصبحوا سنة ، ومن كان آبائهم شيعة أصبح شيعيا ، أو اخوانيا أو سلفيا أو أزهريا أو صوفيا أو شافعيا أو حنبليا أو أحمديا أو اسماعيليا أو نزاريا أو اثنى عشريا أو معتزليا ، و .....
والجميع كل منهم يدافع بما أوتي من قوة عن موروثه العقيدي الذي اعتنقه من والديه دون تمحيص .
وأمام ما نحن فيه من فرقة واختلاف ، لابد من مراجعة القرآن الكريم فيما قاله عن الاختلاف والفرقة والتي عدهما القرآن بأنهما حالة كفر .
فلابد من أن تكون للمخلصين منا وقفة أمام هذا الهزل وهو في موطن الجد .
ألا يجب على كل منا أن يتجرد من أفكاره وموروثاته المختلفة عن المسلم الآخر ونتفكر سويا في كيفية توحيد المسلمين كما أراد الله .
أما سيظل كل منا ينعق بما تلقاه دون أن يعي صحته أو خطئه .
ومن يتحمل وزر اهمالنا لهذا الموضوع الهام جدا .
وعليه أطالب كل الإخوة بلا تثريب عليهم مما مضي بأن يخلصوا النية لله معتمدين رسالته الممثلة في القرآن للعمل بها بذات المنهج العلمي الذي أمرنا به " ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم " .
مما يعني أن هذا الكتاب كتاب علم في منهجه ومحتواه .
فلابد من التعامل معه بالمنهج العلمي .
وخاصة في ظل ادعاءات كثيرة فتنت العديد من المسلمين لتزيد الفرقة والاختلاف ، معتمدين على التأويل الذي ما هو إلا اتباع الهوى ، والمنسوخ الذي يعطل ما يتعارض من الآيات مع مذهب أو طائفة المفسر .
علما بأنه : لن يغنينا عن الله شيئا ، ولن تذر وازرة وزر أخرى ، وسوف يحاسبنا الله فرادى ، فلن يحمل أوزارنا عنا أي أحد .