مملكة آل سعود ومفارقة إبدال تقديس أولياء القبور بتقديس أولياء القصور

أبو حسن عماد الدين في الإثنين ١٠ - سبتمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

لقد استقبلنا بعيد موسم العمرة لهذا العام، بعض زوار بقاع المقدسة، وكان لنا دردشة مع زائريْن معتمريْن شابيْن جزائرييْن ذوا فكر نقدي، اعتمرا خلال رمضان 1433/ أوت 2012 م، فتأكدنا من معايشتهما لتلك الأجواء، أن ما أورده الأستاذ الباحث العصامي إبراهيم دادي عن الأبراج الجديدة المشيدة من قبل "عفوا" "خدام الحرمين الشريفين" حتى لا أقول غير ذلك، صحيح مائة بالمائة. لقد أكد أولئك المعتمرين بأن المتعبدين وهم داخل ساحة المسجد المكي أي وهم داخل البهو المحيط بالكعبة المشرفة، باتوا يطوفون ويصلون ويبتهلون وأعينهم -وربما أفئدتهم- مشدودة مرات ومرات إلى تلك الأبراج التي تعلوها ساعة عملاقة وتنبعث منها أضواء ملونة أخاذة وإعلانات محددة. وكثيرا ما نبه أحدهم أولئك المأخوذين بتلك التحف المعمارية المطلة على الكعبة إلى أن الكعبة هنا وليست هناك عند الأبراج الساحرة.

وإني إذ أنقد هذه السياسة التعميرية للحرمين، لست ممن يعشقون القديم لأنه قديم ولا الجديد لأنه جديد. ولكن تلك الأبراج الظاهرة، تؤكد لي قناعة رسخت في ذهني خلال زيارة عمرة قادتي عام 2003 إلى تلك البقاع وهي أن "خدام الحرمين" أضحوا يتفننون في ألوان من سياسات التضليل الرمزي الناعم لملايين المعتمرين والحجاج الذين يقصدون "بلاد آل سعود" لأداء مناسك شعيرتي العمرة والحج سنويا.

فمما لاحظته آنذاك أن "خدام الحرمين" عمدوا من بين ما عمدوا إلى تغيير جذري لمعالم المنطقة المحيطة بالكعبة -أول بيت للعبادة وضعه الخالق للناس=مركز وقلب العالم= رمز الدعوة للطواف حول قلب الإنسان لتطهيره على حد قول المفكر الفقيد رجاء غارودي-

...حتى أنك بفعل التحويل المعماري والعمراني المتوسل بالتكنولوجيات الأمريكية واليابانية والأوروبية المستوردة تخال نفسك في جولة في نيويورك أو شيكاغو وليس في قلب العالم الإسلامي، لولا وجود اللباس الإسلامي والأذان والقرآن وسائر المنمنمات والزخارف الإسلامية حولك.

صحيح أن المعتمرين والحجاج يمكن أن يعتبروا نقدنا لهذا الانحراف العمراني والمعماري داخل وفي محيط الحرمين المكي والنبوي تجن ومغالاة، فيردون علينا بأننا مهووسونبالنقد والتنكر للجميل وكرم الضيافة، معرضين بالقول بأن آل سعود خدموا بحق الحجاج والمعتمرين بما وفروه من خدمات ميسرة وجليلة لهم سنويا وأنك عندما تدخل الحرمين تنتعش عبادة وروحانية وتبتلا وإيمانا وزهدا في الدنيا وملاذها.

ولكنهم إذ يردون علينا بذلك لا يتصورون البديل أو البدائل التي يمكن أن تبني على أساسها صورة الحرمين بالجمع بين الميراث الحضاري الفني والمعماري الإسلامي والتطور والحداثة التكنولوجية لتسيير المدن الكبرى. كما لا يدرك معظمهم مبلغ الإساءة الخفية والناعمة (بل الفظة والخادشة واللاحضارية) للإرث الحضاري المعماري الإسلامي في أبهى وأعظم إنجازاته بكل تنوعاته وذلك إذا عرفنا مزاياه وعطاءاته للبشرية في كل من إسبانيا والصين والهند وإيران وتركيا وأوزبكستان وأذربيجان والجزائر ومصر والمغرب ونيجيريا..

إن مما لاحظته في ذلك الانحراف الحضاري المصاحب لحوالي خمسين سنة ونيف من بداية عمليات إعادة تعمير الحرم المكي مثلا، أن آل سعود عمدوا إلى إبدال تقديس أولياء القبور- كما يحلوا لهم تطبيقا للأيديولوجيا السلفية الوهابية- بتقديس أولياء القصور. ومنه، أنهم جعلوا للحرم المكي المحيط بالكعبة ومسعى الصفا والمروة مداخل سموها باب أجياد وباب إبراهيم وباب إسماعيل وباب محمد وباب الملك فهد بن عبد العزيز وباب عبد العزيز آل سعود وباب وباب وباب...

ولكن الملاحظة النبيهة الدقيقة لتسمية وهندسة تلك الأبواب أن أبواب الرسل والأنبياء جاءت في جهات جانبية معزولة نسبيا وبنيت بحجم ضيق لا يتسع معظمها -مثل باب إسماعيل- لمرور حوالي 3 إلى خمس أشخاص في نفس اللحظة والمكان. بينما بنيت أبواب الملوك "خدام الحرمين"، عفوا "خدام مملكة آل سعود" في الواجهات الرئيسية وبحجوم واسعة تمكن المارة من الولوج بأعداد كبيرة. هنا،خبروني بربكم أيها المسلمون النبهاء أيهم أولى بالتعظيم والتبجيل والإكبار -حتى لا نقول بالتقديس، لأن الرسل والأنبياء بشر مثلنا ما أمرنا أن نقدسهم، بل أمرنا أن نقتدي بالهدي الحق الرباني الذي جاؤوا به ونطقوا باسمه وطبقوا أخلاقه وتعاليمه- أيهم أحق بذلك التبجيل والإكبار، الملوك من آل سعود، المتحالفين مع القوى الاستعمارية البريطانية والأمريكية أم الأنبياء والرسل الأصفياء الربانيين؟؟؟

ختاما، على الملاحظة والتعليق، أقول: إنني لم أشعر وأنا أتعبد بأني في الحرم المكي للعبادة وإنما لأزداد إكبارا لآل سعود على صنيعهم لحجيج بيت الله. علما بأن الحجة والعمرة بالدينار الجزائري مثلا أضحت مكلفة للغاية خاصة على أمثالي من "متوسطي الدخل" من المعتمرين والحجاج القادمين من الأقطار البعيدة عن منطقة الشرق الأوسط. علما بأن تلك الإتاوات والرسوم والنفقات الباهضة تدخل في جيوب الكثير من السماسرة من آل سعود وآل... وآل... داخل الجزائر وفي كل قطر إسلامي، إلا من رحم ربي. ثم تتحول بقدرة قادر إلى هندسة معمارية ومشاريع استثمارية تجارية مربحة لآل سعود وحواشيهم، بدعوى خدمة الحرمين.

إن هذه إحدى ملاحظاتي على ذلك الإنجاز السعودي. وهناك الكثير منها عندي وعند أهل الاختصاصات المختلفة حول كيفية إدارة تلك البقاع، الذين نرجو أن يمارسوا عليها نقدهم البناء والبدائلي.

لكن إلى متى يستمر تغيير معالم تلك البقاع بتلك السياسات "المعمارية والعمرانية" غير الحضارية.متى تفتح تلك السلطات السعودية صدور وعقول مقرريها لسماع استشارات آلاف المعماريين المسلمين المرموقين ومكاتب دراستهم المنتشرة هنا وهناك عبر العالم الإسلامي. بل متى يفتح العقلاء المتخصصون ملف إدارة البقاع المقدسة كلها، عسى يأتي ذلك اليوم الذي تجرى فيه إصلاحات متقاسمة مرشدة بالأفكار النيرة والتقنيات الراقية، تمنح لتلك الأماكن ذات المكانة الروحية والرمزية والحضارية نصيبها اللائق من الرعاية والخدمة لزوارها. وفي هذا القدر كفاية. والسلام عليكم.

اجمالي القراءات 11458