الفصل السابع: الشعر والقرآن
الفصل السابع: الشعر والقرآن

محمود علي مراد في السبت ٠٨ - سبتمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الفصل السابع

الشعر والقرآن

( أ ) الشعر

كل ما ورد من شعر عن هذه السنة المدنية الأولى لا يتجاوز الخمسين بيتا، وهي موزعة كالآتي:

1- قال قائلٌ من المسلمين:

لئن قعدنــا والنبــيُّ يعمــلُ                لَــذَاك منــا العمــلُ المضــلَّلُ(1)

ملحوظة

كان بناء المسجد، كما أوضحنا، إنجازاً من أهم إنجازات الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، إنْ لم يكن أهمها. ولابد أنه كان موضوعاً للعديد من القصائد. وحقيقة أن بيتاً واحداً من الشعر الذي تغنَّى فيه شعراء المسلمين بهذا الحدث الجليل هو كل ما سجلته "السيرة" لا يمكن أن يفَسَّر إلا بأنه منحى عند مؤلفها إلى تجاهل أعمال الرسول الكبرى. 

2- ارتجز المسلمون وهم يبنون المسجد يقولون:

لا عـيش إلا عيــش الآخـــرة       اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة(2)

ملحوظة

وصفا "المهاجرون" و "الأنصار"، في رأينا، اختراع عباسي يستند إلى تحيز أساسي. إن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجرين، طبقاً للتعريف القرآني لكلمة "الأنصار"، ولأنهم قدَّموا الأدلة اللازمة، كانوا في الواقع يستحقون وصف "الأنصار" مثل بل أكثر من معظم أهل المدينة ممن ينعم عليهم نص ابن إسحاق بهذا اللقب دون تفريق. وفي رأينا أن هذا البيت منحول، وأنه نُحل لتكريس هذا التفريق الجائر والمجحف.

ونود هنا أن نلفت النظر إلى حيلة بارعة احتال بها المؤلف لتسهيل "ابتلاع" هذين الوصفين. إنه يضيف إلى البيت هذا التعليق: "فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار."إنه إذ يضع هذين الوصفين على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم يجعله يعتمد مبناها التفضيلي لأهل المدينة (:كل أهل المدينة أنصار) ومبناها الذي يغض من قدر أهل مكة (:لم يكن في مكة من المسلمين سوى أولئك الذين هاجروا؛ وهؤلاء ليسوا أنصاراً).

3- رجز لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:

لا يستوي من يعمر المساجدا       يدأب فيه قائمــا وقاعــدا

                   ومن يُرى عن الغبار حائدا(3)

ملحوظة

قال ابن هشام: سألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرجز فقالوا: بلغنا أن علياً بن أبي طالب ارتجز به، فلا يُدرى: أهو قائله أم غيره.

4- لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، كلمه أبو أحمد (من بني جحش بن رئاب) في دارهم التي عدا عليها أبو سفيان بن حرب، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس لأبي أحمد: يا أبا أحمد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن ترجعوا في شيء من أموالكم أصيب منكم في الله عزَّ وجلَّ، فأمسك عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لأبي سفيان:

أبلــغ أبـا ســـــفيان عــــــن               أمــــرٍ عواقـــــبه ندامـــــــة

دار ابـن عمـــــك  بعتهـــــا               تقضي بهــا عنك الغرامــــــة

وحليفكــــــــــــم بالله رب               النــاس مجتهـــد القســـــــامة

اذهــــب بهــــا، اذهــب بهـا                 طوَّقتهــا طــوق الحمامــــــة(4)

ملحوظة

إذاً، كان أبو معاوية، الذي سيتولى الخلافة فيما بعد، لصَّاً خرب الذمة.

5- أبو قيس صرمة بن أبي أنس، أخو بني عدي بن النجار كان رجلاً قد ترهَّب في الجاهلية، ولبس المسوح، وفارق الأوثان، واغتسل من الجنابة وتطهر من الحائض من النساء، وهمَّ بالنصرانية، ثم أمسك عنها، دخل بيتاً له، فاتخذه مسجداً لا تدخل عليه فيه طامث ولا جُنُب، وقال: أعبد رب إبراهيم، حين فارق الأوثان وكرهها، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأسلم وحسن إسلامه، وهو شيخ كبير، وكان قوَّالاً بالحق معَظماً لله عزَّ وجلَّ في جاهليته، يقول أشعاراً في ذلك حسانا - وهو الذي يقول:   

يقول أبو قيس وأصـــــبح غاديـــــــا:                 ألا ما اسـتطعتم من وصاتـي فافعلـوا

فأوصيكـــم بالله والبـــــر والتقـــــــى                 وأعراضكـــــــم، والبــــــر بالله أوّل

وإن قومكـــم سادوا فـلا تحسـدنّهـم                  وإن كنتــم أهل الرياسـة فاعدلــــوا

وإن نزلت إحدى الدواهي بقومكــم                   فأنفســــكم دون العشـــيرة فاجعلـــــوا

وإن ناب غرم فــادح فارفقوهـــــــم                   وما حمَّلوكــــم فــي الملمـات فاحملــوا

وإن أنتــــــم أمعرتـــــــم فتعففــــــوا                 وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلـوا

(أمعرتم: افتقرتم)

6- وقال أبو قيس صرمة أيضاً:

ســبحوا الله شـــرق كـــل صبــــاح                                طلعــــــت شمــسـه وكــــل هـــلال

عــالـــم الســـر والبـــــيان لــــدينــــا                                ليـــــس ما قـال ربنــــا بضـــــــلال

وله الطــــير تســـــــتريد وتـــــأوي                               في وكور مـن آمنـــات الجبــــــــال

ولـــه الوحش في الفـــلاة تراهـــــا                                في حقـاف وفي ظــلال الرمـــــال

ولــه هــــودت يهـــــــود ودانـــت                                 كل دين إذا ذكـــرت عضــــــــال

ولــه شمّس النصــــارى وقامـــــوا                                  كل عـــــــيد لـربهــم واحتفـــــــال

وله الراهـب الحبيــــــس تــــــراه                                رهـن بؤس وكان ناعـــــم بــــــال

يا بنيّ، الأرحام لا تقطعــوهــــــا                                  وصلـوها قصـــيرة مـن طـــــــــوال

واتقوا الله في ضعاف اليتامــــــى                                ربمـا يُســــتحل غـــــير الحـــــــلال

واعلمــــوا أن لليتيـــــــم وليـــــاً                                 عالمــا يهـــــــتدي بغـــير الســــؤال

ثـم مالَ اليتيــــــــم لا تأكلـــــــوه                                إن مــــال اليتيــــــم يرعــــــاه والٍ

يا بنيَّ، التخــــــــوم لا تخزلوهــــا                                  إن خزل التخـــــوم ذو عقـــــــال

يا بنـــيَّ، الأيـــام لا تأمنــــوهــــا                                   واحــذروا مكـرهــا ومـرّ الليالـــي

واعلمــوا أن مــرها لنـفـــاذ الـــ                                                خلــق ما كان مـن جــــديد وبالـي

واجمعـوا أمركـم على البر والتقـ                                               وى وترك الخنـــــا وأخــذ الحــلال

(التخوم: الحدود بين الأرضين. وتخزلوها: تقطعوها. والعقال: ما يمنع الرجل من المشي، ويعقلها يريد أن الظلم يخلف صاحبه ويعقله عن السباق)

7- وقال أبو قيس صرمة أيضاً، يذكر ما أكرمهم الله تبارك وتعالى به من الإسلام، وما خصَّهم الله به من نـزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم:

ثوي في قريش بضع عشـــرة حجـــــة                 يذكِّر لـــــو يلقى صــــديقـا مواتيــــا

ويعرض في أهـــــل المواســم نفســــه                 فلم يـــر من يؤوي ولم يـر داعيـــا

فلما أتانــــا أظهـــــــر الله  دينـــــــــه                 فأصبح مســــروراً بطيبـة راضيـــا

وألفى صديقا واطمــأنت به النـــوى                   وكان لـه عونـــــــاً مـن الله باديــــا

يقـص لنا ما قــال نـــــوح لقومـــــــه                 وما قـال موسـى إذ أجاب المناديا

فأصبح لا يخشى من الناس واحـدا                   قريبـا ولا يخشــى من الناس نائيـا

بذلنا له الأمــوال من حـــــل مالنـــا                  وأنفسـنا عند الوغـى والتآســــــيا

ونعلـــم أن الله لا شــيء غــــــــيره                               ونعلـــم أن الله أفضـل هاديـــــــــا

نعادي الذي عادى من الناس كلهم                               جميعــــا وإن كان الحبيب المصافيــــا

أقــول إذا أدعــوك في كــل بيعــــة:                   تباركت قد أكثرت لاسـمك داعيـا

أقول إذا جـاوزت أرضــا مخوفـــــة       حنانيك لا تظهـــر عــليّ الأعاديــــا

فطأ معرضــا إن الحــتوف كثيـــــرة       وإنـك لا تبقـــــى لنفســــك باقيــــا

فوالله ما يدري الفتـى كيف يتَّقــي                   إذا هــــو لم يجعــل لــــه الله واقيا

ولا تحفل النخـل المعيمـــة ربهـــــــا                    إذا أصـبحت ريا وأصــــبح ثاويـــا

(البيت 10: يريد بالبيعة : "المسجد"؛ البيت 12: فطأ معرضا: أي متسعا؛ البيت 14: المعيمة: العاطشة، وثاويا: أي مقيما)

ملحوظة

ليس من الواضح ما إذا كانت القصيدتان 5 و 6 ترجعان إلى ما قبل أو إلى ما بعد إسلام الشاعر، ولكن الاستعارات من القرآن الكريم التي وردت فيهما تجعل من الصعب تصور أن تكونا قد نظمتا قبل إسلامه. أما القصيدة الثالثة، فهي تصور حرفياً فلسفة مؤلف "السيرة" التي عبَّر عنها صراحة حين حكى، في حديث الفترة المكية، قصة أول لقاء بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل المدينة، وفي وصف موقف قريش وحجاج الجزيرة السلبي إزاءه. ومن الأسباب الإضافية التي تعزِّز قرينة النحل في هذه القصائد أن "السيرة" ليس فيها أي قصائد أخرى لهذا الشاعر.

8- تحت عنوان "من اجتمع إلى يهود من منافقي الأنصار"، قال ابن إسحاق: ولم يكن في بني عبد الأشهل منافق ولا منافقة يُعلم، إلا أن الضحّاك بن ثابت، أحد بني كعب، قد كان يُتَّهم بالنفاق وحب يهود. قال حسان بن ثابت:

من مبلغ الضحّاك أن عروقـــــــه                     أعيت على الإسلام أن تتمجّــدا

أتحب يُهدان الحجـاز ودينهـــــــم                     كبـــــد الحمـــار، ولا تحــــب محمدا

دينا لعمـري لا يوافــق ديننـــــــا                     ما اســتن آل في الفضاء وخوّدا

ملحوظة

من الغريب أن حسان بن ثابت، أحد شاعري المدينة الكبيرين، الذي كان يسمى بشاعر النبي لم يقل، خلال فترة هامة بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم وبالنسبة للإسلام كالسنة الأولى بعد الهجرة، سوى هذه الأبيات الثلاثة ضد أحد المنافقين. ويزيد من غرابة ذلك أن "السيرة"، في حديث الفترة المكية، وهي فترة لم يكن حسان قد اعتنق فيها الإسلام، أوردت له ثلاث قصائد: واحدة من ثمانية أبيات يمدح فيها رجلاً سعى في نقض صحيفة مقاطعة قريش لبني عبد المطلب، وثانية من ثلاثة أبيات ضد أحد بني أمية، وثالثة من خمسة أبيات يتهم فيها أبا سفيان بالجبن ويعيِّر ابنته لأنها لم تمنع خزي والدها. والنص حين لا يُسند إلى حسان سوى أبيات ثلاثة في السنة المدنية الأولى يدخله في منظور ابن إسحاق الذي كان يعتبر أن هذه الفترة فترة عادية، لا تقاس بالفترة التي تلتها والتي شهدت سرايا وغزوات عسكرية. ومما يستحق الذكر في هذا المضمار أن "السيرة" تسجل لحسان عن غزوة بدر وحدها ثماني قصائد عدد أبياتها واحد وسبعون بيتاً. 

9- قال أبو قيس بن الأسلت:

على أن فُجعت بذي حفـــاظ             فعـــاودنـــــي له حزن رصــين

فإمــا تقتلــوه فــإن عمـــــــراً                         أعـــض برأسه عضب سنين

وقد أوردت "السيرة" هذين البيتين في حديث يوم بعاث، ومن المحتمل أن "عمراً" في البيت الثاني هو عمرو بن النعمان البياض زعيم الخزرج، الذي قُتل في المعركة كما قُتل زعيم الأوس حضير بن سماك الأشهلي.

ملحوظة

هذا الشاعر المدني محير بعض الشيء. إن حديث الفترة المكية يجعله مسئولاً عن عدم إسلام أربع أسر من أهل المدينة. وهو يظهره أيضاً كصاحب قصيدة من خمسة وثلاثين بيتاً ينهي قريشاً فيها عن الحرب ويعظم فيها البيت الحرام ويهيب بقريش أن يقيموا للعرب ديناً حنيفاً، ثم كصاحب قصيدة في ستة أبيات نظمها بعد إسلامه يقول فيها "فلولا ربنا كنا يهودا … ولولا ربنا كنا نصارى". ثم هاهو ذا في الفترة المدنية لا يقول شيئاً من هذا، ولا شيئاً عن الإسلام، ولا شيئاً عن محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما يتحدث ببساطة عن حرب سابقة للإسلام، وفي بيتين معناهما غامض يبدو أنه ينحاز فيهما إلى الأوس ضد الخزرج.

10- قال كعب بن مالك لأبي عامر:

معــــــاذ الله من عمـلٍ خبيث                       كسعيك في العشيرة عبد عمرو

فإما قلــــــت لي شرف ونخل                        فقِد ما بعــت إيمانــــــا بكفــر(5)

وأبو عامر هو أبو عامر بن عبد عمرو بن الصيفي سيد الأوس وشريفها المطاع، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، وكان يقال له الراهب، وقد أبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام فخرج منهم إلى مكة ببضعة عشر رجلاً، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا: الراهب، ولكن قولوا: الفاسق وقد أماته الله طريداً غريباً وحيداً بعد أن فرَّ من مكة إلى الطائف لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، ولما أسلم أهل الطائف لحق بالشام.

ملحوظة

الوقائع الخاصة بأبي عامر مهمة لسببين: أولاً لكونه سيد الأوس، ثم لأنه، مع نفر من قومه، كان من الأشخاص القليلين جداً الذين رفضوا الإسلام في المدينة فيما يقوله المؤلف. لذلك تعتبر هجرته العكسية مع بعض رهطه من المدينة إلى مكة حدثاً غير عادي: نوع الأحداث الذي تكتب فيه أشعار كثيرة من جانب الرافضين أنفسهم وقبائلهم ومن جانب مسلمي المدينة ومن جانب مشركي مكة. والحاصل أن كل ما يرويه النص عن هذا الحدث هو البيتان المتقدمان، علماً بأن حديث الفترة المكية ينقل لنا قصيدة من تأليفه تتكون من أربعة عشر بيتاً يهاجم فيها أبا سفيان وشخصاً آخر. ويلاحظ أن هذا الشاعر الكبير من أهل المدينة نظم في غزوة بدر أربع قصائد من خمسة وثلاثين بيتاً أوردها ابن إسحاق. والملحوظة التي أبديناها عن حسان بن ثابت، الذي لا يظهر في حديث الفترة المدنية إلا وهو ينظم شعراً عن الحرب، تصْدُق أيضاً على كعب بن مالك.

11- بيت لأبي بكر يرد فيه على عائشة حين سألته: كيف تجدك يا أبت، حين أصابته الحمى في المدينة، قال فيه:

كل أمـرئ مُصَبَّــح فـــي أهلــــه                      والموت أدنى من شـــراك فعله

12- وقال عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر، رداً على السؤال ذاته:

لقد وجدت الموت قبــل ذوقــه                        إن الجبان حتفــــه من فوقـــــه

كل أمــرئ مجاهـــد بطوقـــــــه                       كالثـــور يحمــــي جلده بروقــــه

(بطوقه: أي بطاقته، والروق هو القرن)

13- وكان بلال، مولى أبي بكر، الذي أصابته الحمى هو الآخر، إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال:

ألا ليت شــعري هل أبيتن ليلة                       بفــــخٍ وحولـــي إذخـرٌ وجليل

وهل أردن يومـاً ميــــــاه مجـنّة                       وهــل يبدون لي شامة وطفيل

(الفخ: موضع خارج مكة. والإذخر: نبات طيب الرائحة. والجليل: النمام. والمجنة: اسم سوق للعرب في الجاهلية، وهي بأسفل مكة. وشامة وطفيل: جبلان بمكة). 

ملحوظة

هذه الأبيات الخمسة، في نظرنا، جزء من "الهدايا" الصغيرة التي يقدمها المؤلف من وقت لآخر لأبي بكر ليخفي تحيُّزه (وتحيُّز الخليفة العباسي) ضد الخلفاء الذين لا ينحدرون من عشيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ملحوظات عامة

شعر الفترة، في مجمله، يثير الملحوظات الآتية:

 أ ) هذا الشعر، إن صح فيه هذا الوصف، لا يحمل تسجيلاً شعرياً للأثر الذي أحدثه في المدينة وفي مكة وفي شبه الجزيرة العربية نـزول القرآن الكريم، وهو أهم حدث في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي حياة المجتمع العربي وأفراده.

ب) هذا الشعر لا يصور كمية الشعر الحقيقية في بلد كان الشعراء فيه هم الناطقون باسم قبائلهم وكان الشعر فيه يلعب الدور الذي تقوم به اليوم الخطب السياسية ومقالات الصحف. وفيما عدا قصائد أبي قيس بن صرمة الثلاث، فإن الشعر المذكور لا يمكن أن يسمى بهذا الاسم.

ج ) الصلة تكاد تكون منعدمة بين الشعر المنقول لنا وبين عناصر "السيرة" التي ذكرها المؤلف. فما من شعر ورد عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهجرة أصحابه المكيين وعن الآثار التي ترتبت عليها: إقامة المهاجرين في المدينة، المؤاخاة، إسلام أهل المدينة شبه الكامل، الصحيفة التي وضعت أحكاماً تشريعية تسري على سكان المدينة.

د ) الذي نراه هو أن الفترة التي نحن بصددها عرفت إنتاجاً شعرياً غزيراً إذ أن الأحداث التي وقعت فيها لابد قد أهاجت عند الشعراء مشاعر قوية عبروا عنها في قصائدهم. والمؤكد أن شعراً كثيراً قد نظم في جميع المعسكرات:

– عند خصوم الإسلام من أهل الشرك أولاً. ولابد أن شعرهم كان من نوع الشعر الذي نظمه الشعراء الذين اشتركوا، خلال الفترة المكية، في حملة الهجوم على محمد صلى الله عليه وسلم ومن اتبعوه. على أن اتجاهاً جديداً لابد قد ظهر في شعر المدينة هو الاتجاه الذي يمكن أن يطلق عليه مع شيء من التجاوز وصف الاتجاه "الوطني"، الذي كان يتهم محمداً صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأنهم "غزوا" المدينة وأثاروا عدداً من المشكلات لأهلها. ولابد أنهم اتهموا أيضاً بانتهاك قواعد الضيافة، فبدلاً من احترام البلد الذي آواهم، هاهم ينشرون فيه الفوضى، وهم يريدون أن يرغموا الناس على اتباع دينهم، وإذا لقوا مقاومة انتقموا، وهم يتصرفون كما لو كانوا أصحاب البلد، كما أن بعضهم اتُّهم ولابد بارتكاب أعمال إجرامية أو شائنة.

– وفي معسكر اليهود (والنصارى) لابد أن الشعراء كانوا يرددون ما يذكره شعراء المشركين، مع إضافة مآخذ وانتقادات هم وحدهم القادرون عليها: انتقادات تتعلق بالدين. وما كانوا يقولونه في محادثاتهم مع حلفائهم المشركين، ومع محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، كانوا يرددونه في قصائدهم: محمد نبي كاذب؛ وقد ألف ديناً جديداً وكتاباً مما تعلمه من النصارى واليهود الذين اتصل بهم خلال رحلات التجارة المختلفة التي قام بها في شبابه في بلاد الشام؛ ومقارنة بسيطة بين القرآن الذي أتى به والكتاب المقدس خير شاهد على ذلك؛ هو لم يأت بجديد؛ وكل ما ورد في كتابه موجود في الكتابات السابقة. هو ليس إلا ناقلاً، وهو ناقل سيئ فقد ارتكب هذا الخطأ، وذاك وذاك؛ دينه ليس سيئاً كله، وفيه ما هو حسن؛ لو أنه قال عن نفسه إنه مصلح لوافقنا. أما أن يكون نبياً، فدون ذلك خرط القتاد!

– وفي معسكر مسلمي المدينة كان الشعراء - حسان بن ثابت وكعب بن مالك وغيرهما - يدافعون عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن دينهم ضد هجوم خصومهم: كانوا يعيبون على عشائر المدينة تنكيلها بمسلميها؛ ويشيدون بفضائل دينهم العليا البنَّاءة؛ ويعرِّفون بالإسلام ويحوِّلون مبادئه إلى شعر؛ ويمدحون نبيهم ويطرون خصاله السامية؛ ويثبتون بطلان الاتهامات الموجهة إلى إخوانهم المهاجرين؛ ويبرزون المزايا التي عادت على المدينة من قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وزوار المدينة من مسلمي الجزيرة، هذه المزايا التي عادت على يثرب بالخير العميم وجعلتها تتمتع بين العرب بمكانة تنافس بها مكة؛ ويشكرون العلي القدير على نعمائه ببعث نبيه الكريم؛ ويدعون مواطنيهم واليهود للإيمان به وبدينه.

– في معسكر المهاجرين، كان الشعراء ينظمون الشعر في الأغراض التي كان إخوانهم مسلمو المدينة يتناولونها في قصائدهم: هم بدورهم كانوا يحمدون الله ويشكرونه على هدايتهم للإسلام ويثنون عاطر الثناء على رسوله الذي عرفوه منذ سنوات وكانوا يعتبرونه خير أسوة للناس. وكانوا، علاوة على هذا، يعبرون عن عرفانهم بالجميل لمسلمي المدينة الذين كانوا يعاملونهم معاملة الأخ لأخيه وأعانوهم على الإقامة بين ظهرانيهم. وكانوا يدفعون عن أنفسهم ما يوجه إليهم من افتراءات ويعلنون تمسكهم بقيم دينهم، ويدفعون بالحسنة السيئة عملاً بتعاليم القرآن. وأخيراً كان في شعر هؤلاء المهاجرين غرض مستوحى من ظروفهم الخاصة، وهو الحنين إلى البيت الحرام وإلى مكة وإلى الأسر والخلان الذين خلَّفوهم وراءهم وعتاب لرؤساء قبائلهم الذين أخرجوهم من ديارهم ونفوهم من بلدهم.

– وفي مكة واصل الشعراء الذين كانوا يهاجمون الإسلام إنتاجهم الشعري ضد محمد صلى الله عليه وسلم ودينه وشرحوا الأسباب التي استوجبت إبعادهم. ومن ناحية أخرى عبَّر الشعراء المسلمون - فقد كان في مكة مسلمون - عن مشاعر كتلك التي كانت ترد في شعر أقاربهم المهاجرين وعن شوقهم لرؤية هؤلاء ورؤية رسولهم الحبيب.

– وأخيراً كان شعراء الجزيرة بدورهم يسهمون في إنتاج الفترة الشعري ويتناولون في قصائدهم المعاني العامة التي عبَّر عنها باقي الشعراء المسلمين مع إضافة أغراض مستلهمة من تجاربهم الخاصة.

كل هذا الشعر كان يتداول بالتأكيد في المدينة وكان جانب كبير منه ينتقل من جيل إلى جيل حتى عصر ابن إسحاق، ولكن سيرته خالية منها.

المحصِّــلة

النص في رأينا:

1- لم يورد شعر خصوم الإسلام من المشركين، لأنه كان يقيم الدليل على وجودهم في المدينة، وعلى أنهم كانوا يضطهدون المسلمين من عشائرهم (ومن المحتمل أيضاً أن هذا الشعر لم ينقل لأنه يؤذي مشاعر المسلمين).

2- لم يورد شعر المسلمين في المدينة، لأنه كان يكشف عن وجود المشركين وعن تنكيلهم بالمسلمين، وكذلك لأنه كان يوضح الحقيقة التاريخية التي عمل المؤلف على إخفائها أو على تشويهها.

3- الأشعار القليلة التي أوردها النص عن الفترة منحولة ومغرضة، وليس فيها شئ عما قاله شعراء اليهود والنصارى وشعراء مكة.

4- الشعر المروي لا يسجل الموضوعات والأحداث التي أوردتها "السيرة" عن الفترة موضوع البحث. 

(ب) القرآن

كون ابن إسحاق أكثر من الاقتباسات القرآنية بشأن المنافقين، ونصارى نجران، واليهود، وكون هذه الاقتباسات والتعليقات عليها تشغل الجزء الأكبر من المساحة المخصصة في سيرته لسنة المدنية الأولى لا يبدد في شيء انطباع الفراغ الذي يتسم به حديث هذه الفترة. وواقع الأمر أن الآيات التي تتضمنها هذه الاقتباسات نـزلت معظمها خلال الفترة المدنية بأكملها، ولو قسمنا مجموعها على عدد السنوات التي تتكون منها هذه الفترة، لكان ناتج القسمة بالنسبة للسنة الأولى من الهجرة أقل من عشرة اقتباسات، وهو شيء قليل.

وهناك اعتبار آخر يزيد من انطباع الفراغ المذكور، هو أن قرآن السنة المدنية الأولى لم يقتصر على بعض الإشارات إلى المنافقين والأعداء من اليهود والنصارى (نصارى نجران). لقد تناول القرآن المدني، بالإضافة إلى المساحة التي خصصها لموضوعه الرئيسي وهو دعوة الناس للإيمان بالله وبرسوله وقصص الأنبياء السابقين، موضوعات جديدة ترمي إلى التعريف بالإطار التعبدي والتشريعي للمسلمين. والفترة المدنية هي التي نـزلت فيها الأحكام القرآنية الخاصة بالمحرمات من الطعام (الميتة والدم ولحم الخنـزير)، والصوم، والزكاة، وتغيير القِبلة، والحج، وأحكام العقود، والأهلية القانونية، وأحكام الأحوال الشخصية (الزواج، والطلاق، والنفقة، وحقوق المرأة والطفل)، والشهادة، والوصايا والمواريث، وتحريم الربا. ونـزلت فيها أيضاً أحكام قانون العقوبات، أي الحدود والقصاص في مسائل القتل والإصابات الجسدية، والسرقة، والزنا، …الخ فيما يتعلق بالأحرار وبالعبيد (الذين تخفض العقوبة الموقعة عليهم بمقدار النصف). أيّ من هذه الأحكام نـزل خلال السنة المدنية الأولى، وماذا كانت الآثار التي نتجت عنها بالنسبة لسكان المدينة من مسلمين وغير مسلمين؟ سؤالان أساسيان ليس من المسموح لمؤرخ جاد أن يهملهما. لأن هذا التشريع كان يمس حياة الناس وسلوكهم ومصالحهم والتزاماتهم، وحياة المجتمع كله. وبعض الأحكام القانونية التي تضمنها هذا التشريع أحدثت ولا شك تغييرات جذرية في عادات الناس وأعرافهم التي توارثوها جيلاً بعد جيل. وفيما يلي ثلاثة أمثلة على ذلك:

1- صوم رمضان: إذا كان الحج عبادة مارسها العرب منذ عصور بعيدة، فليس في "السيرة" معلومات تفيد أن العرب كانوا يتعبدون بالصوم فترة من كل عام. لذلك كان فرض الصيام لشهر في السنة عبادة لم يألفها العرب. وإذا عرفنا شدة الحر في الجزيرة العربية معظم العام وخاصة في فصل الصيف، أدركنا مدى المشقة التي يعاني منها الصائمون في يوم قائظ. ولابد أن قضاء ثلاثين يوماً في هذا الجو، دون طعام ولا شراب إلا بعد غروب الشمس لم يكن بالأمر الهين. متى نـزلت الآيات التي فرضت هذا التكليف كواحد من أعمدة الإسلام الخمسة؟ ماذا كان رد فعل المسلمين حين علموا به؟ هل كان منهم من اعترض؟ ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الفريضة في خطبة الجمعة التالية لنـزول الآيات؟ هل قال أهل الكتاب في هذا الصدد أيضاً إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بجديد وأنه نقل فقط تكليفاً مقرراً عندهم؟ الشيء المؤكد هو أن الصيام فرض بعد شهور قليلة من هجرة الرسول إلى المدينة، فالسيرة تخبرنا أن غزوة بدر حدثت في شهر رمضان. لقد كان نـزول آيات الصيام حدثاً بكل معنى الكلمة فماذا قالت "السيرة" بشأنه؟ لا شيء، في الوقت الذي أفسحت فيه قريباً من صفحة لقصة أبي أمامة سيد بني النجار، المشكوك في صحتها. 

2- في مسألة الزواج، فرض القرآن الكريم أحكاماً في غاية الدقة والتفصيل بشأن حالات التحريم وحالات الجواز: فقد حرم مثلاً على المسلم الزواج من زوجة الأب المتوفى أو الجمع بين الأختين أو الزواج من الأخت بالرضاعة أو من بنت الأخ أو بأكثر من أربع. وقد أدت هذه الأحكام قطعاً إلى عديد من حالات الطلاق في المجتمع المدني ونشأت عنها مشكلات كثيرة للزوجات المطلقات ولأولادهن. هل نـزلت هذه الأحكام خلال الفترة التي تعنينا؟ كيف تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم في حل المشكلات المذكورة؟ هل حدثت زيجات بين بعض النساء المطلقات ونفر من المهاجرين العُزَّاب؟ ماذا كان عدد هذه الزيجات؟ وهل سهلت هذه الزيجات عملية اندماج الأزواج المهاجرين في المجتمع المدني؟ من كان هؤلاء الأزواج؟ هل حدثت بينهم خلافات؟ ماذا كان أثر هذه الزيجات في المجتمع المدني؟ أسئلة لا يزودنا النص بأي رد عليها.

3- النص لا يذكر لنا ما إذا كان الحظر القرآني للربا قد  فُرض خلال السنة التي نحن بصددها. ولو أنه فُرض خلالها لكانت له آثار لا تحصى على الحياة الاقتصادية في المدينة. لدى المسلمين أولاً. لقد كان الإقراض بالربا في مكة وقتها - كما هو الحال الآن في جميع أنحاء العالم - شيئاً جارياً في المعاملات التجارية، سواءً في تجارة الاستيراد والتصدير، أو في تجارة الجملة أو في تجارة "القطَّاعي"، أو بين الأشخاص. وكان أساس النشاط الاقتصادي ذاته. وكان في مكة في ذلك الوقت من أصحاب الثروة من كانوا يمارسون مهنة الصيارفة والبنوك، ويلعبون دوراً مركزياً في الحياة الاقتصادية والتجارية لبلدتهم. ومن المحتمل أن بعض رجال المال اليهود كانوا يقومون بهذا الدور في المدينة.

ولو أن الربا حُرِّم منذ السنة الأولى للهجرة - والاحتمال كبير في أن يكون هذا ما حدث - فلابد أن تحريمه تسبب للمسلمين في مشكلة كبرى، فقد كان على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، الذين تعلموا التجارة في "المدرسة" المكية، إن جاز هذا التعبير، أن يستحدثوا نظاماً اقتصادياً جديداً، خالياً من كل أثر للربا. ولم يكن هذا بالشيء الهين، سيما وأن المهاجرين، في ظنّنا، بدأوا يشكلون القوافل ويمارسون تجارة الاستيراد والتصدير منذ بداية استقرارهم في المدينة، وأن الأسواق الأجنبية التي كانوا يبيعون لها ويشترون منها البضائع كانت تتعامل بالربا. كيف دبَّر مسلمو المدينة أمرهم لوضع هذا النهي موضع التنفيذ، وما الأثر الذي ترتب على ذلك بالنسبة لمستويات أسعار الشراء وأسعار البيع للمستهلك المحلي وللتاجر الأجنبي؟ حبذا لو عرفنا، ولكن النص لا يتحدث عن هذا الموضوع.

وكان من المهم كذلك أن نعرف الأثر الذي أحدثه هذا التغير الكبير في العرف التجاري على الوضع التنافسي للتجار المسلمين حيال تجار المدينة ورجال المال فيها من اليهود وتجار مكة ورجال المال فيها. ولكن هنا أيضاً لا يفيدنا نص ابن إسحاق بشيء.

إسلام أهل  الكتاب

بعض الآيات التي سقناها في القرآن غير المقتبس بشأن أهل الكتاب توحي بأنه كان في المدينة يهود ونصارى لم يقفوا موقفاً عدائياً أو سلبياً حيال الإسلام. كانوا يعرفون أن القرآن الكريم كتاب منـزل ككتبهم. وكانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، بل كانوا يفرحون بتنـزيله. هؤلاء اليهود والنصارى، هل دخلوا في الإسلام أم بقوا على دينهم وأظهروا في الوقت ذاته للمسلمين مشاعر تنطوي على مودة وتعاطف؟

كان المنتظر من كاتب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد على هذا السؤال، ولكن ابن إسحاق لم يقل لنا شيئاً عن هذا الموضوع. على أن من الممكن افتراض أن جزءاً على الأقل من هؤلاء اليهود والنصارى أسلموا. وكان هذا الجزء، في رأينا، يتكون من الشبان خصوصاً.

فمن المحتمل جداً أنه كان هناك بين الشبان اليهود والنصارى في المدينة نفر ابتعد عن ديانة آبائه، إما لعدم اهتمامه بالمسائل الدينية، وإما لعدم رضاه عن جالية لا يشغلها إلا نفسها، دون رسالة للآخرين، أو، لدى من كان له منهم اهتمامات فكرية، لأن تاريخ قومه كان حافلاً بالحروب والمظالم. أو أيضاً لأن أشياءً في أصول دينهم أو في الطريقة التي كان قومهم يمارسونه بها أشياء تنفّرهم أو لا تحرك مشاعرهم أو يأباها المثل الأعلى في الدين الذي تصوروه.

هؤلاء الشبان، الذين كانت الأوضاع القائمة لا تشفي غليلهم، من الجائز أنهم اهتموا بالإسلام قبل وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بوقت طويل. ونظراً إلى أن العربية كانت لغتهم فقد كان الذي لفت نظرهم في البداية هو لغة ما وصل إليهم من مقتطفات هذا الكتاب الذي كان مكيٌ اسمه محمد يقول أنه يتلقاه وحياً من الله عن طريق مَلَك سمعوا عنه في دينهم. لقد كانت بلاغة هذه اللغة تخلب الألباب، ولم يكن من السهل على من يسمعها أن يقاوم سحرها. وكان هذا الكلام يتسرب في كيان الشخص الذي يتلقاه كالموسيقى العذبة ويحدث في نفسه نوعاً من الغبطة لا يمكن وصفه. ثم إن هذا القرآن - الذي كان قد نـزل منه ما يقرب من ثلاثة أرباعه - يتحدث عن أشياء لم تكن غريبة عليهم: الله، الملائكة، تاريخ الأنبياء السابقين، حب الآخر، الدعوة إلى الخير، الرحمة بالفقير واليتيم، الدعوة إلى الأمانة والعفَّة، ومثل ذلك. وهو ينهى عن عبادة الأصنام وعن القتل وعن السرقة وعن الزنا وعن البخل، وكلها قيم تعلموها في صباهم. والحسنة في هذا الدين تُكافأ بعشرة أمثالها والحسنات فيه تذهبن السيئات.

هؤلاء الشبان، فتية وفتيات، وآخرون أكبر منهم سناً، لابد أنهم تابعوا باهتمام مراحل خلاف محمد صلى الله عليه وسلم مع عشيرته المكية المشركة. وكانت قريش تقول لمحمد أنه مدَّع، وكاذب، وساحر. وكان ذلك يضع قبيلته في موقف حرج. وكانت قريش تكلف شعراءها وخطباءها بذمه والتشنيع عليه. وكانت قصائدهم وخطبهم تصل إلى المدينة. كان الحجاج والتجار والمترددون على مكة ينقلونها إلى المدينة هي وبعض سور القرآن. وكانت تعقد مقارنات. ولم يكن هناك مجال للمقارنة. قرآن محمد كان أفضل بكثير مما يقولون. كانوا يقولون لمحمد: "أنت أميٌ؛ وأنت تقول إن ملاكاً ينـزل عليك به؛ أرنا هذا الملاك، وإلا فإن الذي يعلمه لك بشر!". ماذا كان محمد يفعل؟ كان يتحداهم ويقول: "أنتم لا تصدقونني؟ اذهبوا إذاً وابحثوا عن هذا الشخص، اجلسوا معه وألِّفوا نصاً يشبه ما جئتكم به. ولنجمع بعض الناس ولنعرض عليهم بعض سور القرآن وما تؤلفون من نصوص ولنحكِّمهم في الأمر!" وقد حاولوا ذلك، ولكن النتيجة لم تكن في مصلحتهم. في هذه المباراة لم تكن أمامهم أدنى فرصة للفوز. ولكن القرآن لا يتركهم في حالهم. محمد يهاجم! هو لا يخاف. يالشجاعته! واحد في مواجهة الكل! محمد، على الأقل، يحرك المياه الراكدة! إنه يحيلهم جميعاً إلى محكمة بعد الموت. الأقوياء، والمتكبرون، والأغنياء يجرَّدون وقتها من كل جاههم ووجاهتهم. ساعتها لن يرفع أحدٌ منهم رأسه. هناك نارٌ رهيبة في انتظارهم. شيٌ ليس في كتب اليهود والنصارى شبيه له. ولأن سهام قريش كانت تتحطم على قرآنه، اضطهدته قريش واضطهدت من اتبعوه. حبسوهم وضربوهم وعذبوهم ليعدلوا عن دينهم وقضى بعض المسلمين نحبهم تحت التعذيب. أبناءهم وإخوانهم! وقد نفوا بعضهم إلى خارج البلاد. محمد وأصحابه ثوار حقيقيون! ما الذي يجعلهم يعرِّضون أنفسهم لمثل هذه الأخطار؟ لأن الإسلام أخذ بألبابهم، ولأن المسلمين يحبون نبيهم، ولأن دينهم يعدهم بسعادة أبدية في جنة تجري من تحتها الأنهار، يتحقق فيها كل ما تتمناه النفس، وليس فيها خوف ولا حزن. جنة رائعة!

شبان اليهود والنصارى في المدينة لم يكن بوسعهم، في رأينا، ألاَّ يكترثوا لأخبار ظهور الإسلام في مكة، وللقرآن وللمعركة التي كانت تدور في تلك البلدة بين المسلمين ومعارضيهم. ولم يكن بوسعهم ألاَّ يشعروا حيال محمد صلى الله عليه وسلم بفضول أولاً ثم بتعاطف وإعجاب. وكان هناك إغراء قوي بالنسبة لهم لاتباع هذا النبي الثوري الذي يريد أن يحسِّن العالم. يضاف إلى ذلك إدراكهم أن الانتقال من اليهودية أو النصرانية إلى الدين الجديد لم يكن يمثل قطيعة حقيقية. على العكس. فإن الشخص لكي يصبح مسلماً كان لابد أن يؤمن برسالات الأنبياء السابقين، وبرسالتَي موسى وعيسى بنوعٍ خاص. صحيح أنه كانت هناك اختلافات بين محتوى القرآن وما جاء في التوراة والأناجيل، ولكن الكتب واحدة في معانيها الأساسية. وحين كان هؤلاء الشبان يحدثون آباءهم في الأمر لم يكونوا يجدون لديهم نفس الحماس. كان هؤلاء الآباء يقولون إن كتبهم تحدثهم عن الأنبياء الكذبة وإن محمداً أحدهم، وإن الأنبياء الكذبة لكي يخدعوا الناس كانت لهم عُدَّة، لاسيما من الكلام الجميل. وكان الآباء اليهود والنصارى يشرحون لأولادهم اعتراضاتهم على محمد وينصحونهم بعدم الافتتان به.

ولكن نصح الآباء لا يكفي دائماً لإقناع الأبناء. والأرجح أن عدداً من هؤلاء انجذبوا إلى الإسلام خلال الفترة المدنية التي أتيحت لهم فيها الفرصة للقاء الرسول صلى الله عليه وسلم والتحدث إليه. كذلك فإن شخصية الرسول القوية، وخصائله الإنسانية، والنموذج الطيب الذي كان يعطيه المسلمون عن الإسلام، وحبهم للرسول عوامل كان لها دخل كبير في القرار الذي اتخذوه باعتناق الإسلام. كم كان عدد هؤلاء اليهود والنصارى الذين تحولوا إلى الإسلام؟ هل كانوا يُعدّون بالعشرات أو بالمئات؟ النص لا يسعفنا في هذا الموضوع. إنه يتحدث عن تسعة من اليهود أسلموا نفاقاً، ولكنه لا يقول شيئاً يذكر عن اليهود الذين أسلموا عن اقتناع. والذين تحدث عنهم أربعة أو خمسة، وقد أسلموا كلهم نـزولاً على نبوءة قديمة ببعث الرسول صلى الله عليه وسلم، لا لأن أحداً منهم أعجب بالقرآن الكريم ولا لأن الإسلام كان يستجيب عند كل منهم لتطلعات نفس تصبو إلى مثل أعلى.

الأمان في المدينة

أربع آيات على الأقل في القرآن الكريم الذي نـزل في المدينة تحمل على الظن بأن إقامة الرسول صلى الله عليه وسلم في البلد الذي هاجر إليه لم تكن آمنة تماماً. وهذه الآيات هي:

وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴿76﴾[الإسراء]

أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ﴿13﴾قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴿14﴾  [التوبة]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ …﴿11﴾[المائدة]

وأول آية من هذه الآيات الكريمة واردة في سورة تحمل رقم 74 في تصنيف بلاشير، فهي إذاً سورة مكية. ومع ذلك فإن بلاشير، في تقديمه لترجمة هذه السورة، يقول إن تاريخها غير يقيني وإن المفسرين المسلمين يرون أن معظمها نـزل في مكة مع إضافات مدنية. والآية (76)، في رأينا، من هذه الآيات المدنية الكريمة التي أضيفت إلى السورة المكية. والذي يحملنا على هذا الرأي هو أنها تتحدث عن حالة لم تكن حالة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، فإن عبارة: "وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا" تشير إلى محاولة أجهضت، إلى شروع في فعل، إلى شيء أريد القيام به ولم يتم. ولم تكن هذه هي حالة إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة، فإن هذا الإخراج قد تم كأمر واقع. وقد سجل القرآن الكريم ذلك بعبارات واضحة جداً في الآيتين التاليتين:

وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ﴿13﴾[محمد]

إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنـزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿40﴾[التوبة]

إن الجملة الأولى في هذه الآية من سورة التوبة، وهي السورة قبل الأخيرة من سور القرآن من حيث ترتيب النـزول، تنطوي على تقريع موجه لمسلمي المدينة. والقرآن الكريم يلومهم فيها على عدم حماسهم للقيام بواجبهم في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو لوم لم يكن له معنى لو أن الرسول كان آمناً في المدينة، حتى وهو في المرحلة الأخيرة من حياته.

والآيتان الكريمتان (13) و(14) من سورة التوبة تتحدثان عن أمور أكثر خطورة من هذا: عن أيمانٍ نكثت وعن هجوم على المسلمين وعن خطة وضعت لإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا الانتهاكات للأيمان، وهذا الهجوم، وهذه الخطة لم تكن عمل شخص أو مجموعة من الأشخاص، فلو كانت كذلك لما استخدم القرآن الكريم أمراً صارماً مثل "قاتلوهم" موجهاً إلى جماعة المسلمين، ولَمَا لامهم في الآية (13) على تقاعسهم عن القتال. والآية (11) من سورة المائدة تتحدث بدورها عن وضع في منتهى الخطورة، فهي تتحدث عن "قوم"، والاتهام الموجه إلى هؤلاء القوم هو أنهم تجاوزوا مرحلة النوايا واستعدوا لبسط أيديهم إلى المسلمين. وبسط اليد في هذا السياق معناه استخدام السلاح.

فترة المدينة إذاً، لم تكن سمتها بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وبالنسبة لأصحابه رضي الله عنهم، الهدوء والجو الجميل الدائم، كما يصورها مؤلفنا، بل كانت فترة تخللتها العواصف والأنواء. ولم يكن اليهود أعداءهم الوحيدين. وما كان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يواجهه لم يكن مؤامرات صغيرة فحسب، بل أيضاً حركات واسعة النطاق من الكراهية والعداء.

وفي الإمكان أن نضيف هنا، بالمناسبة، حجة إلى الحجج التي سنسوقها لإثبات أن صحيفة المدينة لم تكن وثيقة صحيحة: إن المادة 52 من هذه الصحيفة التي تقول: "ومن قعد آمن بالمدينة" تعطي عن الإقامة في المدينة صورة لا تتفق البتة مع تلك التي تعطيها الآيات (76) من سورة الإسراء، و(13 - 14) من سورة التوبة، و (11) من سورة المائدة.

ماذا كانت الأحوال التي تسببت في نـزول هذه الآيات؟ النص لا يرد على هذا السؤال، رغم أن الموضوع هنا موضوع على أكبر قدر من الأهمية، يتناول مجموعة من الوقائع المتصلة بعلاقات الرسول عليه الصلاة والسلام بخصومه، من جهة، وبالمسلمين المحيطين به من جهة أخرى.

ومن الآيات الأخرى الملفتة للنظر والمحيرة في هذا السياق، الآية (69) من سورة الأحزاب (التي تحمل رقم 105 في ترتيب بلاشير) التي يقول فيها الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا".

نحن هنا أمام أمر في غاية الخطورة: مسلمون يؤذون الرسول صلى الله عليه وسلم كاليهود الذين آذوا موسى. ماذا كانت طبيعة هذا الأذى الذي أوذي به الرسول وماذا كانت ظروفه؟ والشيء المحير هنا هو أن هذه الآية موجهة في عبارات عامة للذين آمنوا لا إلى المنافقين. والسؤال هو: لماذا لم يعلق ابن إسحاق على هذه الآية ولماذا لم يذكر أسماء من صدرت منهم هذه الكبيرة كما ذكر أسماء اليهود في تعليقه على اقتباساته القرآنية؟

وهناك آيات قرآنية أخرى نـزلت خلال الفترة المدنية تتحدث عن أفعال ارتكبت ضد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت بحاجة إلى شرح لقارئ السيرة. آيات مثل:

وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴿58﴾…وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿61﴾…أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ﴿63﴾[التوبة]

هذه أيضاً أشياء في منتهى الخطورة مادام جزاء من ارتكبوها هو العذاب الأليم، ونار جهنم، والخزي العظيم. ماذا كان إذاً هذا اللمز، وهذا الأذى، وهذه المحادة الموجهة إلى الله وإلى رسوله؟



(
1) "السيرة"، ص 496.

(2) ص 496.

(3) ص 497.

(4) ص 500.

(5) ص 586.

اجمالي القراءات 16773