الخاطِرة الثَّانيَة والعشرُون: أيُّها الأصل؟ جِهادُ السَّيف أم جِهاد القُرآن؟!
يقُول الله سُبحانَه وتَعالى في الأنفال: (َإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)).
هذه الآيات تُؤكِّدُ مرَّة أُخرَى "سلميَّة" المَنهج الإلهي وتعشُّقِه ورُنوِّه لمعاني الرَّحمَة والرَّأفَة، وسعيِه لاحتواءِ الخلقِ جَميعا تَحت ظِلالِه الوارِفة!
إن جنحُوا للسَّلمِ فاجنَح لَها وتوكَّل على الله! أينَ هذا الحَنان الدَّافِق ممَّا يُروِّجُ لَهُ أعداءُ الإسلام مِن أنَّ دينَ اللَّهِ لا يقُوم إلا على كَومَةٍ مِن الأشلاءِ والدِّماء وعاصِفَةٍ مِن المذابِح والمقاصِف؟!
طبعا لا نلُوم هؤلاءِ الحاقِدين بِقدرِ ما نلُوم أناسًا مِن بني جلدتِنا لَم يفهمُوا مِن الدِّين إلا حديثًا منسوبا للرَّسُول (صلى الله عليه وسلَّم) الله أعلَم بسياقِه الذي قالَه فيه - إن صحَّ عَنه - جاءَ فيه: (بعثت بالسيف حتى يعبد الله لا شريك له وجُعل رزقي تحت ظل رُمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري...)!! وعشَوا في المُقابِل عَن مِثلِ قوله تعالى في سُورة التَّوبَة: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) [التوبة : 6].
سُبحان الله لماذا يا رب؟! ألَم تحلَّ لنا أعراضهم وأموالهُم وسبي نسائِهم وذراريهِم؟! لِم قبول جِوارِ هذا المُستجيرِ إذن؟! السِّرُّ في الأَمر: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ)!!
لعلَّ شُعاع هِدايَة يُلامس شِغافَ قَلبِه فيكُونُ عَونًا لدين الله بدَل أن يكُونَ مِعوَل هَدم لَه؛ وينجوا بجلدتِه مِن العذاب الأكبَر يَوم القيامَة؟! أهذا أفضَل وأليَق أم نُصرُّ – برعوناتنا - رُغمَ كُلِّ شَيء على قَطع الرؤوس وإزهاقِ الأرواح؛ مُهدرين عظائِم قيَمِ ديننا الحَنيف؛ وقبلَ ذَلك نُحطِّم كُلَّ ما فطرَه الله فينا مِن إنسانيَّة وشفقَة ورَأفَة!
بالله على مَن يحمِل هذا الفِكر الأَعوج الأَخرق في جنبات العالَم الإسلامي؛ أصحاب التَّكفير والتَّفجير والعُنف والإرهاب؛ كَم كانت نسبَة جِهاد النبي (صلى الله عليه وسلَّم) بالسَّيف والسِّنان، إلى جِهاده بالحجَّة والبُرهان، والبيِّنات ونُورٍ مِن الفُرقان؟! أَم كَم نسبَة آياتِ الجِهاد القِتالي إلى مَجمُوع آيات الكتاب مكِّيِّه ومدنيِّه؟! وهَل بَدأ الجِهادُ في المَدينَة بقيامِ الدَّولَة أم أنَّه شُرِع مُنذُ فَجر الرِّسالَة في مكَّة؟! وهَل رُويَ لَنا – تاريخيًّا- أنَّ الرسول الكَريم كانَ يُقيمُ محاكِم تفتيشٍ لأهل قُريش، ثُمَّ ينصِبُ لَهُم المشانِق والخوازيق؟!
هَل أصبَح بعضُ أنصافِ المُتديِّنين – إن لَم يكُونوا خِلوًا مِن الدِّين - يَفهمُون القُرآن حسبَ أمزجتهم ومعاييرِهم الكاسِدة العاطِلة؟! تالله لقَد أوتيَ دينُ الله أعظَم ما أوتيَ مِن الخَلل الفِكري والعَقدي لبَعض أتباعِه والمُنتسبين إليه؛ وما ذَلك إلا للفَهم الإديولوجي الانتقائي المُتأثِّر ببعض روايات مبتُورة مِن سياقِها وبعضُها مكذُوب مصنُوع لا خُطُم لَها ولا أزمَّة؛ في غيابِ الفِكر الشُّمولي المُحيط بأسرارِ الكِتاب وقَوانينِه؛ والفاقِه لرسالَة الباري عزَّ وجل على التَّمام والكَمال!
الله الله على العَودَة إلى القُرآن!! الله الله على الأخذِ بِه بقُوَّةٍ ونبذِ الخُرافات والأساطير!
(وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً) [الكهف : 27].
(قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [يونس :35- 36].
* نعُود إلى الآيات الكَريمات لنلفَى في مضامينِها حِرصا وتأكيدًا عجيبين مِن قِبل الباري عزَّ وجل على وُجوبِ قبُول "حالة السِّلم" فَور جُنوحِ الآخَر المُعادي إليها مِن غيرِ مَثنويَّات ولا شُروط! وإن قُدِّر في عِلم الله أنَّهُم بيَّتُوا نيَّة خيانَة وغَدر وخِداع فالله هُو الذي سيتولَّى مؤُونتَهُم؛ وهُو وَحدَه الوليُّ والنَّاصِر! اللهُمَّ إلاَّ في حالَة تكرُّر نَقضِ العُهودِ مِنهُم في كُلِّ مرَّة؛ فهؤلاءِ لا يُؤمَنُ جانبُهم؛ فحينئذٍ - فقَط – يحقُّ للرَّسُول الكَريم (صلوات الله وسلامُه عليه) أن يُنابِذهُم على سَواء؛ أي يجعَل نفسَه في حلٍّ من مُعاهدتِهم حتَّى يَدهمُهُم في أيِّ وَقتٍ شاءَ بِما تقتضيه المَصلَحة والمَشُورة! فالمُؤمِن لا يُلدَغ مِن جُحر مرَّتين كَما يقُولون!
أليسَ هذا إخواني مُنتَهى العَدل والرَّحمَة في ديننا العَظيم؟! أتيقَّنا الآن أنَّ جِهاد السَّيف لا يُمثِّل إلا حالَة استثنائيَّة ظَرفيَّة مُؤقَّتة مِن مجمُوعِ ما أُمرنا بِه مِن جِهاد في سبيلِ الله؛ وأنَّ الأصل هُو الشَّفقَة على عبادِ الله والسَّعي لإيصالِهم لخالِقهم الذي شردوا وتاهُوا عَنه؟!
أَأدركنا أنَّ أعظَم الجِهادِ مُجاهَدة النَّفسِ مِن حُمَّى الشَّهوات وباطِل الشُّبهات؛ ثُمَّ المُجاهَدة في النَّاسِ بالقُرآن بالمالِ والنَّفسِ – بعد ذَلك - جِهادًا كبيرا في مشارِقِ الأَرض ومغارِبها؟!
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات : 15].
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)[آل عمران : 142].
* اللهم اجعلنا مِن الصَّادِقين واكتبنا مع الصَّابرين يا أرحَم الرَّاحمين ويا خالق النَّاس أجمعين! فإنَّه لا حَول لَنا ولا قُوَّة إلاَّ بِك!
- يختتم هذا المَقطَع مِن هذه السُّورة الكَريمَة بتذكيرِ الرَّسُول (صلَّى الله عليه وسلَّم) بنِعمَة تَوليفِ قُلوبِ أصحابِه لَه وتثبيتِهِم حَوالَيه؛ بِحيثُ لَو أنفقَ ما في الأرضِ جَميعا ما استَطاع أن يُؤلِّفَ بينَ قُلوبِهم؛ ولكنَّ الله وَحدَه الذي ألَّف بينهُم! وهذه نِعمَةٌ لا يُدرِكُها إلا القادَة والمسؤُولون، ورؤساءُ الجَماعات!
فَكَم مِن أوقاتٍ تُهدَر وأموالٍ تُصرَف، وأعصابٍ تُستَنزَف في رصِّ الصَّف الدَّاخِلي؛ وجلسات الصُّلح، وإرجاعِ القُلوبِ إلى بعضِها؛ والتَّقريبِ بينَ الرُّؤى ووجهات النَّظر المُتنافِرة المُتناقِضة أحيانًا؛ كانَ حريًّا بِها أن تُوجَّه نَحو تحقيقِ مقاصِد تلك الجَماعَة وأهدافِها! فانظُروا رَحمكم الله إلى عجائبِ ألطافِ الله سُبحانَه بحاملي ألويتِه المُخلصين الرَّبانيِّين وكَم يُوفِّرُ لَهُم مِن الأوقاتِ والجُهود؛ وطالعُوا واقِع الأحزاب والجمعيَّات المَرير في المُقابِل – إلا مَن رحِم ربِّي- لتَروا مَكر الله بأصحابِ المآرب وعُبَّاد الزَّعامَة والمَناصِب والكراسيِّ!
يقُول سيِّد قُطب مُعلِّقًا على هذه الآيَة الكَريمَة: (حسبكالله , فهو كافيك , وهو الذي أيدك بنصره أول مرة , وأيدك بالمؤمنين الذينصدقواما عاهدوا الله عليه ; وجعل منهم قوة موحدة , بعد أن كانت قلوبهم شتى ,وعداواتهمجاهرة وبأسهم بينهم شديداً . سواء كان المقصود هم الأوس والخزرج - وهمالأنصار- فقد كان بينهم في الجاهلية من الثارات والدماء والمنازعات ما يستحيل معهالالتئامفضلاً على هذا الإخاء الذي لم تعرف له الأرض نظيراً ولا شبيهاً . . أو كانالمقصودهم المهاجرون , وهم كانوا كالأنصار في الجاهلية . . أو كان الجميع مقصودين, فقد كانت هذه هي حالة عرب الجزيرة جميعاً !
ولقدوقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله , والتي لا تصنعها إلا هذهالعقيدة; فاستحالت هذه القلوب النافرة , وهذه الطباع الشموس , إلى هذه الكتلةالمتراصةالمتآخية الذلول بعضها لبعض , المحب بعضها لبعض , المتآلف بعضها مع بعض ,بهذاالمستوى الذي لم يعرفه التاريخ ; والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة -أويمهد لحياة الجنة وسمتها البارزة -: ونزعنا ما في قلوبهم من غل إخواناً على سررمتقابلين.
إنهذه العقيدة عجيبة فعلاً . إنها حين تخالط القلوب , تستحيل إلى مزاج من الحبوالألفةومودات القلوب , التي تلين جاسيها , وترقق حواشيها , وتندي جفافها , وتربطبينهابرباط وثيق عميق رفيق . فإذا نظرة العين . ولمسة اليد , ونطق الجارحة , وخفقةالقلب, ترانيم من التعارف والتعاطف , والولاء والتناصر , والسماحة والهوادة , لايعرفسرها إلا من ألف بين هذه القلوب ; ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب !
* فاللهم ارزُقنا حقيقَة الجُهد في سبيلِك كَما ترتضي؛ واسلُك بِنا مَنهَج الأنبياءِ والمُرسلين، واجمَعنا بِهم في جِنانِك على سُرُرٍ مُتقابلين؛ وانفِ عَن دينِك ما غلِثَ بِه مِن تحريفِ المُبطلين وتأويل الجاهِلين؛ وأعده إلى منابِعه الأُولى غضًّا طريًّا كما أنزِل على حضرَة نبيِّك المُصطفى صلوات الله عليه في الخافِقَين، والحَمد لله ربِّ العالَمين.