"الكيت كات" فوق أنه اسم حي شعبي بالقاهرة هو عنوان فيلم سينمائي أخرجه عام 1991 الرائع "داود عبد السيد" من وحي رواية "إبراهيم أصلان" "مالك الحزين"، والفيلم بطولة الفنان/ محمود عبد العزيز لعب فيه دور "الشيخ حسني"، وهو رجل ضرير خفيف الدم، ومصدر خفة دمه ومحور أحداث الفيلم هو عدم قدرة "الشيخ حسني" على استيعاب أنه أعمى، مما اضطر ابنه لأن يقسم له أيماناً مغلظة على أنه أعمى. . هكذا وجدناه يقود موتوسيكلاً يندفع به وسط الناس والباعة مثيراً للذعر والدمار، كما يقوم بخداع شيخ ضرير آخر، ويوهمه بأنه يدله على الطريق، بل ويأخذه ويذهب به لمشاهدة فيلمم سينمائي ويتولى وصف المشاهد له، بالطبع من وحي خياله المنقطع الصلة بمشاهد الفيلم الحقيقية!!
سواء كان مخرج الفيلم قد قصد فقط المعنى المباشر لأحداث فيلم كوميدي، أو كان يرمي بما قدمه لنا لما هو أبعد، فإن شخصية "الشيخ حسني" تكاد تكون تجسيداً لشخصية الشعب المصري وصفوته، بل وحكامه في بعض الأحيان وبالأخص في الفترة الناصرية، فما واقعية السادات التي عدها الكثيرون - ولن أقول الجميع – استسلاماً وانبطاحاً إلا إدراكاً لحقيقة الإمكانيات المصرية والظروف المحيطة بنا في المجال الدولي، لذا لا بأس من استعراض بعضاً من ملامح فيلم "الكيت كات" المصري الواقعي الموسع، وإن كان العرض لن يكون كوميدياً كما كان الفيلم السينمائي.
بداية نحن نأبى استيعاب أن مصر دولة فقيرة الموارد الطبيعية، فلا ثروات معدنية أو أمطار لدينا، هو فقط نهر النيل محدود الموارد، مما يجعل الإنتاج الزراعي محدوداً مرتفع التكلفة مقارنة بالزراعات المطرية، ولا مراع طبيعية لدينا تكون ركيزة للإنتاج الحيواني قليل أو حتى عديم التكلفة مثلما نرى في المناطق المطيرة، أيضاً الشواطئ الطويلة بامتداد البحر الأحمر والمتوسط تكاد تكون خالية من التجمعات السمكية، مما يضطر العاملون بالصيد إلى الذهاب إلى أعالي البحار أو حدود الدول المجاورة للصيد. . لدينا فقط قناة السويس والقليل من البترول، بالإضافة للآثار الفرعونية والشمس المشرقة، والتي يمكن أن تكون مورداً في حالة قدرتنا على استغلالها سياحياً بالطريقى المثلى، أي أنها ليست من مصادر الثورة الريعية المطلقة، والتي نستطيع أن ننام بجوار الحائط معتمدين على ريعها. . رغم هذا نحن جميعاً مصممون أن "مصر كلها خير والحرامية سارقينها"، وعندما تجرأ د. حازم الببلاوي أخيراً إبان توليه وزارة المالية بعد الثورة في برنامج تليفزيوني على قول أن "مصر بلد فقير"، انهالت عليه مكالمات المعلقين التليفونية تشجب ما قال، بل وقال أحدهم أنه لا يسمح لأحد أن يقول أن "مصر بلد فقيرة"!!
لم يكن مطلوباً من "الشيخ حسني" لكي لا يكون محلاً للتندر أن يدرك إعاقته بمعنى أن يجلس في بيته أو على الرصيف ليتسول لقمته، بل العكس هو الصحيح، فإدراك الإعاقة والتوافق معها يدفع الإنسان للبحث عن عناصر القوة الأخرى الموجودة لديه، ليبدأ في تنميتها واستغلالها، والكف عن أي مغامرات فاشلة ترتكز على ما يعد فيه عاجزاً أو معوقاً.
من المذهل أنني استمعت منذ عدة سنوات لعبارة "مصر كلها خير" هذه في محاضرة لوزير اقتصاد مصري سابق (د. سلطان أبو علي)، وأدى ذهولي مما تفوه به وهو الوزير المتخصص إلى قيامي في مداخلة لي "بالنط في كرشه" حسب التعبير الدارج، ويبدو أن ذهولي قد انتقل للرجل من كلامي الذي ربما طرق أذن معالي وزير الاقتصاد لأول مرة، فتساءل بضيق وضجر ماذا أريد من كلامي، وكانت إجابتي التي يذهلني أن مثله لا يرددها ليل نهار، هي أن الثروة المصرية الأعظم هي الثروة البشرية، والتي مصدرها الكفاءة المذهلة للمصريين في التناسل، وأن هذه ستكون ثروة حقيقية فقط إذا ما حولناها بالتعليم الجيد والتدريب من "أفواه وأرانب" إلى "ثروة بشرية" حقيقية، وهذا بالتحديد ما فعلته اليابان، وتفعله الآن الهند وسائر بلاد جنوب شرق آسيا.
هذه الحقيقة لا يريد أحد في مصر أن يسمعها، ولا يجرؤ المنافقون المدغدغون لمشاعر البسطاء على ذكرها، لأنها تعني أن علينا بذل الجهد لإنتاج الغذاء والكساء، وأن إعدام "الحرامية" لن يؤثر في مستوى معيشتنا كثيراً، وإن "عدالة اقتسام الكعكة الوطنية" وحده لن يؤدي لأكثر من اقتسام الفقر بين الجميع، ما لم يتم تنمية هذه الكعكة عبر العمل والجهد المضني.
ما نشهده الآن من تظاهرات واعتصامات نسميها فئوية، وتكاد تشل العديد من مواقع الإنتاج والخدمات المصرية، هي نتيجة لترسيخ فكرة أن "مصر كلها خير"، وأن العدل في التوزيع فقط هو المطلوب لا أكثر ولا أقل، ومن الطبيعي والوضع هكذا أن لا يصبر الناس على عدم تحسن الأحوال، ريثما يتم إعداد وتنفيذ خطط للعمل المنتج، ليبدأ هؤلاء المطالبين بتحسين أحوالهم في بذل الدم والعرق من أجل إنتاج وفير وعالي الجودة، يجنون من عائده الحياة الكريمة أو الرفاهية التي ينشدونها. . ففي الذهنية العامة أن إقرار العدل يتم بقرار أو "جرة قلم" كما يقولون، ولا يستدعي الأمر خاصة بعد الثورة إلا إصدار عدد من القرارات الإدارية تكفل عدالة توزيع "الخير الكثير". . هكذا تتوالى الإضرابات وتتفاقم الأحوال تدهوراً، في غياب الوعي بالارتباط بين القدرة على الإنتاج وبين مستوى المعيشة الذي يمكن تحقيقه في سائر بلاد العالم، بغض النظر عن مدى توافر المصادر الطبيعية للثروة، اللهم في بلاد النفط المجاورة، والتي تسعى الآن لتنويع مصارد دخلها عن طريق إقامة مشاريع إنتاجية تكفل لها دوام ما ترفل فيه من رفاهية إذا ما نضبت موارد النفط، فمن المحوري أن يستقر في أذهان العامة والخاصة أن السواعد والعقول المبدعة هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق حياة كريمة جديرة بأن تعاش، ليترافق معها بالطبع عدالة وتكافوء الفرص، وحسن إدارة مؤسسات الإنتاج والخدمات، وعدالة الحصول على الأجر المرتبط بحجم العمل وجودته، وتطهير الساحة من الكائنات الطفيلية والفاسدة!!
لكي يتم تحويل "الكتلة البشرية" إلى "مورد بشري" نحتاج بداية للإيمان بقيمة العمل والإنتاج ومحوريته، مودعين مفهوم الرزق الذي يهبط من السماء، بعدها نحتاج لنظام تعليمي ننخرط في تفعيله بجدية، بدلاً من "النظام التجهيلي التهريجي" الحالي، تجهيلي لأنه ينجح خلال سنوات الدراسة الأولى في قتل المواهب والملكات العقلية لدى الأطفال، ويأخذهم إلى الاستظهار والإيقاف التام لإعمال العقل، وتهريجي لأن أولياء أمور الطلاب لا يرسلونهم للمدارس للتعلم، ولكن للحصول على ورقة رسمية بأنهم متعلمون، ومن هنا تبدأ سلسلة من الجرائم في حق العملية التعليمية يشارك فيها الجميع، بداية من أولياء أمور الطلاب وصولاً إلى رئيس الجمهورية، الذي يحول نتائج المراحل الدراسية والقبول بالجامعات إلى عملية نفاق سياسي لجماهير ناقمة على أدائه في سائر المجالات.
مما يشبه ممارسات "الشيخ حسني" العاجز عن الاقتناع أنه أعمى، ما يحاوله في مصر منذ سنوات د. أحمد زويل صاحب جائزة نوبل، فيبدو أقرب لمحاولة "الشيخ حسني" قيادة موتوسيكل، فيما هو غير قادر على مجرد المشي على قدميه منفرداً في عرض الطريق أو عبوره. . أي بحث علمي يريد سيادته تأسيسه في بلاد لها مثل نظامنا التعليمي، ولها مثل طبيعة نظامنا الاقتصادي والصناعي، والذي يعتمد على استيراد فانوس رمضان وسجادة الصلاة من الصين، فمن سيشتري أو يمول أبحاثه العلمية التي لا يحتاجها أحد في بلادنا، وكيف يتجاهل صاحب نوبل أن البحث العلمي ينتمي لعالم "صناعة المعرفة"، تلك الصناعة التي تقوم على قاعدة علمية واقتصادية وثقافية وسياسية خاصة، تكونت عبر تراكم وتوالي المراحل الحضارية، وأن منهج "القص واللزق" لا يفيد هنا، فالبحث العلمي ليس "دكان بقالة" أو "كارفور" يسهل افتتاح فروع له هنا وهناك!!. . ألم يكن الأجدر بالشيخ حسني أن يحاول استخدام عصا أليكترونية من تلك التي تعين العميان على تلمس الطريق، الموازية لتخريج طلاب مؤهلين بحق من كافة مراحل التعليم، أفضل من محاولة قيادة موتوسيكل، وهي المناظرة لإدارة مؤسسة أبحاث علمية مصرية؟!
يبدو أن د. أحمد زويل بحاجة إلى من يعطيه دروساً في تاريخ البحث العلمي وتطور مسيرته، فلم يعد البحث العلمي كما كان في البداية يعتمد على الجهد الشخصي لأفراد رواد كتوماس أديسون وماري وبيير كوري وهنري بريستد وأمثالهم، حين كانت المبادرة العلمية البحثية تأتي من أفراد، لكي يأخذ المجتمع بعد ذلك نتائج اكتشافاتهم ليوظفها في تطبيقات تكنولوجية تفيد الناس، فالبحث العلمي الآن صار من جهة عملاً مؤسسياً جماعياً لفرق عمل، ومن جهة أخرى صار مجرد "رد فعل" أو "استجابة" لاحتياجات السوق، لذا نجد مكونات هذا السوق هي من تقوم بتمويل تلك الأبحاث، والتي صارت الآن باهظة التكاليف، بخلاف البدايات البسيطة الأولى للبحث العلمي في المرحلة الفردية. . ما نستمتع به الآن من تقدم هائل في تكنولوجيا الاتصالات هو نتيجة ما أنفق على أبحاث غزو الفضاء، فكانت تطبيقاتها الحياتية استغلالاً لما تم بالفعل الإنفاق عليه، ومن قبل شركات قادرة على تنفيذ هذه التطبيقات أو تصنيع هذه التكنولوجيا على مستوى تجاري، فأين هي هذه العوامل في مصر هزيلة الصناعة، ومن يمول أبحاث مؤسسة سيادته بجانب تمويل دعم رغيف العيش وسائر قائمة الدعم التي لا نهاية لها، وماذا سنفعل بهذه الأبحاث إن استطعنا بالفعل إنتاجها، ولا أظننا بمؤهلين لتصديرها، مادام بيننا وبين عصر تكنولوجيا المعرفة أميالاً يصعب حصرها؟!!. . يجب مع هذا أن نلتفت إلى أن الاعتماد على الشراكة مع جهات خارجية أو على المعونات هي مجرد عوامل مساعدة، تفيد في دعم حالة تتوفر لها المقومات الأساسية خاصتها، لكنها لا يمكن أبداً أن تحل محل هذه المقومات في حالة غيابها.
يدفع الشعور بالنقص المصاحب للعجز عن استيعاب حقيقة الإعاقة والتوافق معها إلى الإقدام على طلب أمور أعلى مما اعتاد الطبيعيون من الناس طلبها، فليس جميع الأصحاء المبصرين اشتاقوا مثلاً لقيادة موتوسيكل كما "الشيخ حسني"، ومثلها الهوس لدى النخبة المصرية والحكام بما يسمونه "الدور الريادي لمصر". . لقد مارسنا بالفعل الدور الريادي في العهد الناصري، كما مارسه "الشيخ حسني" بقيادة الشيخ الضرير الآخر لعبور الطريق، وتولي وصف مشاهد الفيلم السينمائي له، وكانت النتيجة وبالاً علينا وعلى من قمنا بقيادتهم، في حين أن الإنسان السوي والأمة السوية لا تتطلع لدور ريادي لذاته، ولرغبة في تعظيم الذات المحاصرة بعقدة الدونية، بل تسعى لتنمية ذاتية تكفل لها القوة والاحترام من الجميع، مما قد يترتب عليه بعد ذلك اضطرارها (وليس سعيها) للعب دور عالمي أو إقليمي بالقدر الذي يكفل حماية مصالحها لا أكثر ولا أقل، كما يمكن مد يد العون القوية القادرة لمن يحتاج لمساعدة مستطاعة وممكنة، وليس توريط المحتاج في مغامرات مثيلة لتلك التي خاضها الشيخ الضرير الذي أسلم قياده للدور الريادي الرشيد "للشيخ حسني"، أو تلك التي أفقدت الفلسطينيين كامل أراضيهم ومعها أجزاء من ثلاث دول عربية!!
هل سيأتي يوم ندرك ونتقبل فيه حقيقة قدراتنا، فنتجنب عناصر الضعف، ونركز على نقاط القوة لننميها ونحسن توظيفها واستغلالها، وننتقل من حالة سيكولوجية مرضية تثير الشفقة أو السخرية، إلى حالة صحية سوية قادرة على مواجهة متطلبات الحياة وتكاليفها؟. . هل هذا في مقدور الشعب المصري ونخبته عالية الصوت عديمة أو سلبية الفاعلية؟!!