.
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها

نبيل هلال في الأحد ٢٦ - أغسطس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

في العصر الفاطمي كانت أراضي البلاد كلها ملكا خالصا للخليفة ولا سبيل لأحد من العامة إلى امتلاك قطعة أرض إلا أن يشتريها ممن أقطعه السلطان في القديم ( انظر شمس الدين أبو عبد الله المقدسي - أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ) . وكانت تُجبى ضريبة مقدارها ديناران عن كل من يَغرق في النيل, ويُطالَب أهل الغريق بسداد هذه الضريبة قبل تسليم جثته إليهم (انظر المختار عز الملك المسبحي- أخبار مصر) . وكان الخليفة يمتلك في القاهرة وحدها عشرة آلاف دكان يؤجر الكثير منها بأجرة تتراوح بين دينارين وعشرة دنانير مغربية في الشهر وكذلك الأربطة والحمامات وأبنية كثيرة لا حصر لها , كما كان يملك حوالي ثمانية آلاف بيت ( ناصر خسرو - سفر نامة ) . ذلك كان بعض حال خليفة كان الناس يقدسونه إلى حد السجود وتقبيل الأرض تحت قدميه . إن أموال بيت المال مِلك حلال للأمة كلها , فلا أحد إلا وله فيها حق , ولا يصح أن يزيد نصيب السلطان فيها عن نصيب أدنى مواطن في الأمة , فهو مال لم يكدح فيه بيمين , وله أن يتقاضى أجرا يناسب أداء وظيفته كحاكم تستأجره الأمة للقيام على مصالحها . لما تولى أبو بكر الخلافة ذهب إلى السوق كعادته حاملا أثواب القماش على عاتقه , فلقيه عمر وأبو عبيدة وسألاه : أين تريد يا خليفة رسول الله ؟ قال السوق , قالا : تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين ؟ قال : فمن أين أطعم عيالي ؟ قالا له : انطلق حتى نفرض لك شيئا".  كان ذلك قبل أن يظن السلاطين أن بيت مال المسلمين هو مصرفهم الخاص لهم أن ينهبوه ما شاء لهم النهب . ويظن السلطان أن سكوت الناس عن أموالهم المسلوبة إنما هي إقرار منهم بأحقيته فيها , وهو يقاتل من أجلها بضراوة ويبطش بلا رحمة بمن يفكر في استعادة حقوقه . ولما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة عهَد إلى غيلان الدمشقي ببيع ما تمت مصادرته مما نهبه بنو أمية من نفائس وتحف وأشياء ثمينة ( ليس من بينها طن ونصف الطن من الذهب والمجوهرات التي سرقها أحد الرؤساء المعاصرين ) , وكان غيلان يدعو الناس إليها قائلا :" تعالوا إلى متاع الخونة , تعالوا إلى متاع الظلمة , تعالوا إلى متاع من خَلَفَ الرسولَ في أمته بغير سنته وسيرته ..... من يعذرني ممن يزعم أن هؤلاء كانوا أئمة هدى , وهذا يأكل والناس يموتون من الجوع . ....وكان الخليفة الأموي هشام صغيرا عندما سمع غيلان يسب أسلافه وهو ينادي على "متاع الظلمة" في زمن عمر بن عبد العزيز , فقال يومها :" هذا يعيبني ويعيب أجدادي , والله إن ظفرت به لأقطعن يديه ورجليه . فلما ولي الحكم قبضوا عليه وسجنوه مع صاحب له, وكانت بطانة الخليفة حافلة بالعلماء من أصحاب الحديث , فأفتوه بقتل غيلان وصاحبه , فأمر به وبصاحبه فرفعا على الصليب عند "باب كيسان" بدمشق , ثم قطعت أيديهما , ثم أرجلهما , ثم لسانيهما حتى فارقا الحياة . ولما احتُضِر أبو بكر قال لعائشة : يا بنية إنا ولينا أمر المسلمين فلم نأخذ لنا دينارا ولا درهما , ولكننا أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا , ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا , وإنه لم يبق عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير , إلا هذا العبد الحبشي , وهذا البعير الناضح , وجرد هذه القطيفة , فإذا مت فابعثي بهم إلى عمر". واسمع رأي عمر في ما يحل له من مال الأمة , يقول : يحل لى حُلتان حلة في الشتاء , وحلة في القيظ , وما أحج عليه واعتمر, وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم , ثم أنا بعد , رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم" . ومرض عمر ووصفوا له شربة عسل يتداوى بها , وكان في بيت المال قدر منه , فصعد عمر على المنبر وقال للناس : إن أذنتم لي فيها أخذتها , وإلا فهي علىّ حرام , فأذن الناس له . وعمر- رضي الله عنه -هو الذي فرض نصيبا مقسوما من بيت المال لكل فرد من أفراد الأمة . وإن شئت أن تعرف نظافة اليد , فليكن هذا , وإلا فَدَعْ . وذلك هو جواب من يسأل عن أسباب انحطاط المسلمين وهوانهم على أنفسهم والناس .

اجمالي القراءات 9502