بدأ الدكتور عاطف البنا، أستاذ القانون الدستوري البارز في جامعة القاهرة، كلامه بنبرة غاضبة قائلا: «ألا يكفيهم ما وضعوه من تعديلات دستورية ما أنزل الله بها من سلطان،
ثم يريدون الآن إغتيال السلطة القضائية بمشروع قانون مايسمي مجلس الهيئات القضائية، وهو مشروع أقل ما يوصف به أنه عدوان صريح وصارخ علي الدستور والشرعية القانون والأعراف والتقاليد القضائية المستقرة في العالم أجمع وفي مصر منذ الأربعينيات من القرن الماضي».
أكد الفقيه الدستوري ـ الذي أعد دراسات ورسائل جامعية عن استقلال القضاء والمجالس الإدارية التي تنال من هيبته واستقلاليته ـ أن ما يحدث حاليا من تغول علي السلطة القضائية لايحدث في أشد الدول ديكتاتورية وقمعية».
وأوضح بقوله: «وزير العدل الحالي يسعي من خلال مشروع قانون مجلس الهيئات القضائية الذي أعد داخل وزارته، إلي إلغاء سلطة القضاء أصلا، وإهدار استقلاله وحصانة القضاة»، مشيرا إلي أن «المشروع المعد يحول القضاء إلي جهة تابعة للسلطة التنفيذية، وإلغاء ما يسمي القضاء المستقل».
وقال البنا في اتصال هاتفي مع «المصري اليوم»: «النظام الحاكم كان قد وعد قبل التعديلات الدستورية بإلغاء ما يسمي المجلس الأعلي للهيئات القضائية، وما يحدث الآن هو بمثابة إجهاض ووأد للوعد الرئاسي لأن هذا المجلس الذي أنشئ سنة ١٩٦٩ هو واحد من قوانين مذبحة القضاء الشهيرة، التي ترتب عليها صدور قانون إعادة تشكيل السلطة القضائية وصدور قرارات جمهورية باعادة تعيين رجال القضاء،
ومن لم يعين منهم فقد تم نقله إلي جهات أخري مثل المطاحن والمخابز وغيرهما، كما أن من لم يعين منهم فقد ظل في بيته.. وهذا كان اعتداء علي حصانة واستقلالية القضاء وعدم قابليتهما للعزل وهذا إجراء من إجراءات المذبحة»،
وأضاف: «الإجراء الثاني كان إنشاء ما يسمي المجلس الأعلي للهيئات القضائية، وتضم السلطة القضائية بجميع محاكمها ومجلس الدولة، كما أعتبر هيئتي النيابة الإدارية وما يسمي هيئة قضايا الدولة ـ وهي مع احترامنا الكامل لها ولدورها عبارة عن هيئة محامين عن الحكومة التي تكون طرفا في نزاع،
وهم موظفون قانونيون للدفاع عن الحكومة، وليس كلامي هذا تقليلا من قضايا الدولة، فهذا لا يخل من كونهم محامين محترمين، وأنا محام لكن لا يمكن أن نعتبر قضايا الدولة ـ هيئة قضائية وهم الذين يقفون أمام منصات القضاة كمحامين محترمين،
وهذا خطأ كبير، موجود منذ المذبحة ولايزال قائما إلي الآن، كما لا تعتبر هيئة النيابة الإدارية قضاء رغم أنها تتشابه مع النيابة العامة وليست هيئة قضائية أيضا، رغم أن أعضاءها يقولون إنهم يحضرون الدعاوي أمام مجلس الدولة، وأنها جهة ادعاء واتهام، ودورها التحقيق في المخالفات الإدارية، ورغم احترامنا لكل هذا الكلام فهذا لا يجعل منهم سلطة قضائية.. وليأخذوا اسم هيئات قضائية وليأخذوا لقب مستشار وهناك مستشار طبي وعلمي وهندسي وعسكري، لكنهم لا ولن يكونوا قضاة وسلطة قضائية.
وشدد البنا علي أن القضاة أو رجال السلطة القضائية هم فقط من يفصلون من علي منصاتهم في الدعاوي القضائية، والنيابة العامة جزء من السلطة القضائية لأن أعضاءها تتم ترقيتهم إلي السلك القضائي للجلوس علي المنصة. وتساءل البنا: لماذا يتم وضع النيابة الإدارية وقضايا الدولة في مجلس الهيئات القضائية، والدستور ينص علي أن القضاة مستقلون ولا سلطان عليهم لغير القانون، كما ينص علي «عدم قابليتهم للعزل».
وقال: «نفترض مثلا أن القانون جاء بنص أن أساتذة القانون في الجامعات هم هيئة قضائية، سأقول إن هذا خطأ أيضا ونحن مهمتنا التدريس فقط، ولا أستطيع أن أقول غير ذلك»، مضيفا أن التعديل الدستوري الأخير بإلغاء المجلس الأعلي للهيئات القضائية وانشاء آخر باسم مجلس رؤساء الهيئات القضائية أمر سيئ للغاية، كما أن وضع مشروع قانون جديد لذلك المجلس،
يعطي لوزير العدل ـ وهو ممثل السلطة التنفيذية وجزء منها ـ اختصاصات واسعة كما يسند له رئاسة المجلس في حال عدم حضور رئيس الجمهورية ـ الذي عادة لا يحضر ـ وستكون رئاسته شرفية، ليترأس وزير العدل واقعيا هذا المجلس، ورغم أن الوزير كان مستشارا سابقا فقد يكون أيضا موظفا أو عاملا أو مهندسا أو طبيبا أو خلافه وتم اختياره للوزارة، وبالتالي فلايجوز أن يتحكم في شؤون السلطة القضائية ويترأس شيوخها ورجالها الذين يفصلون في القضايا من علي منصات القضاء.
وشدد البنا علي أن تشكيل المجلس بصورته الموجودة في مشروع القانون، «إخلال واعتداء علي استقلال القضاء»، وقال: «إسناد رئاسة المجلس لوزير العدل خطأ شديد للغاية، وضم رئيسي هيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة إلي المجلس، خطأ أشد وفادح، لأنهم سيناقشون ويفصلون في أمور السلطة القضائية ورجالها وليست شؤون مستقلة،
مثل موازنتها المستقلة وتحديد الدرجات القضائية وبعض أعضاء الدائرة الأولي بالمحكمة الادارية العليا». وأوضح البنا أن الوزير يريد تقنين جميع المسائل والموضوعات ـ التي تثير غضب القضاة واحتقانهم، وتسببت بالفعل مؤخرا في إثارة المشاكل والأزمات بينه وبينهم ـ في قانون جديد يتيح له السيطرة وفرض سطوته علي القضاء.
ولفت البنا إلي أن الوزارة عادت إلي رشدها بإلغاء المادة الخامسة من مشروع القانون، الخاصة بحصانة وضمانات القضاة المكفولة لهم عند التحقيق معهم واتخاذ إجراءات جنائية ضدهم، وقال: «كانت تلك المادة ستجعل القضاة أقل من أعضاء السلطة التشريعية كنواب مجلسي الشعب والشوري، ورغم أن القانون لايحمي أي قاض من أي مساءلة جنائية في حالة ارتكابه جريمة، فإن الحصانة تعني إستئذان سلطته القضائية.
وأكد البنا أنه إذا لم يكن هناك المجلس برمته فهذا يمثل اعتداء علي القضاء ومخالفة الدستور وجميع القوانين والتقاليد والأعراف القضائية المستقرة منذ الأربعينيات من القرن الماضي..
وهذا المشروع أكبر مذبحة للقضاء في تاريخه، باعتبار أن مذبحة القضاء في ستينيات القرن الماضي استهدفت عدداً معيناً من القضاة، لكن هذه السلطة التنفيذية تستهدف ذبح جميع القضاة، وهذا مشروع شاذ وغريب، وإذا تم تمرير مثل هذا المشروع، فلن يكون لدينا قضاء، وسيتم تحويله إلي لجان إدارية تابعة للحكومة للفصل في المنازعات، مؤكدا أن هذه الإجراءات لاتحدث في أكثر الدول ديكتاتورية وقمعية.
وقال: «ألا يكفيهم ما وضعوه في الدستور من تعديلات أخيرة تمثل عدوانا علي القضاء، وتجعل من حق رئيس الجمهورية إحالة قضايا بعينها إلي أي محاكم يراها»، وأضاف البنا: «أتحدث من حرصي علي استقلال القضاء وليس حماية للقضاة بقدر ما هي حماية للشعب، فإستقلال القضاء وحصانة قضاته حق لنا نحن أفراد الشعب»،
وطالب الفقيه الدستوري بإلغاء مجلس الهيئات من الأساس لانه لا حاجة إليه ولامحل له في النظام القضائي حتي لو تطلب تعديل الدستور إلغاء المادة ١٧٣ الخاصة به من الأصل، كما طالب جموع القضاة بالتصدي والوقوف بثبات للذود عن استقلال القضاء والدفاع عن حصانتهم، كما اطالب الرأي العام باتخاذ موقف مؤيد لقضاته، ليس دفاعا عنهم كأفراد، ولكن دفاع عن استقلال القضاء باعتباره الضمانة الحقيقية الباقية لكل أفراد الشعب.