شريعة التعذيب فى عصر قايتباى

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ١٤ - أغسطس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى):دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

الباب الأول : طوائف المجتمع المصري في ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى

الفصل الرابع : شريعة التعذيب فى عصر قايتباى  

 السلطان الورع قايتباى كان هو القائم على تطبيق الشريعة السّنية ، وبها كان ينهب أموال الناس ، وبها أيضا كان يتم تعذيب الناس . وكل ذلك تحت لافتة الشريعة ( السنية ) وبمؤازرة فقهائها ، ولم يكن عصر قايتباى هو العصر الوحيد فى التعذيب والظلم والنهب، هو فقط كان المشهور بالورع والتقوى بين سلاطين المماليك ، ولكن التعذيب كان لازمة من لوازم الحكم العسكرى المملوكى ، وكل حكم عسكرى يستأثر بالثروة والسلطة ويقهر المواطنين بالتعذيب حتى لا يثوروا ، ويستخدم الدين ( الأرضى ) وفقهاءه لاسكات الناس ، بل يحضهم على الدعاء للسلطان الظالم بالنصر (على الشعب ) . ولا ننسى أن من فقهاء العصر المملوكى عصر التعذيب من لا يزالون يتمتعون بالتقديس حتى الآن ، ومنهم ابن تيمية وابن كثير وابن القيم وابن حجر. وكان منهم فى عصر قايتباى السخاوى والسيوطى والبقاعى والبلقينى..( وشيخ الاسلام وقتها ) زكريا الأنصارى ...وعلماء الأزهر. جميعهم سكتوا عن التعذيب ولم يعترضوا عليه إذ رأوه حقا للسلطان الراعى ، وله حق التصرف فى الرعية كيف شاء. بل كان بعضهم يتعرض للتعذيب فلا يشكو بل يسكت ويجتهد فى إرضاء السلطان والاستمرار فى عمله معاونا لدولة الظلم . ولا ننسى أننا ننقل وقائع التسجيل العملى لتطبيق الشريعة السنية عن مؤرخ قاض هو ابن الصيرفى. ونتجول الآن بين سطور تاريخه ( إنباء الهصر ) لنتسمع آهات ضحايا التعذيب .

إستخدام التعذيب لاستخلاص الأموال:

1 ـ وقد ترتبط مصادرة الأموال بتعذيب الضحية حتى يعترف بما لديه من كنوز مخبأة. وربما كان الأمير يحيي بن عبد الرازق الاستادار ت 874 أفظع مثل للضحايا من اكابر الموظفين.  فقد صودرت أمواله أكثر من مرة وتولى الاستادارية عدة مرات، وحين يعزلونه ويولون غيره فيعجز عن الوظيفة فيعيدون الأمير يحيى هذا لمنصبه . ثم يعزلونه ، وعندما يعزلونه كانوا يصادرون أمواله ويعذبونه، يقول عن مؤرخنا ابن الصيرفي "أذكر من لفظه ( أى من لسانه ومن كلماته ) أنه صودر تسع عشرة مرة ، وأحتاج حتى باع حوائج بيته وقماش خيوله بعد بيع أملاكه.. واستمر على ذلك إلى أن صادرة الملك الأشرف أبو النصر قايتباى- عز نصره- أول مرة وثانية ، وهو معذور فيه ، فإنه يدعى فقراً..". أى إنّ قايتباى صادر ذلك الشيخ الفقير بعد أن بلغ الثمانين من عمره وبعد أن استهلكته المصادرات السابقة قبل قايتباى ، ولم يترفق به قايتباى في هذا السن ولا في هذا الفقر بل أوقع عليه العذاب الشديد حتى مات تحت العذاب .!  ويقول ابن الصيرفي عن حبسه وتعذيبه حين صادر قايتباى أمواله فى المرة الثانية والأخيرة : ( وفي المرة الثانية حبسه بالبرج من القلعة وطلب المال فلم يوزن- أى لم يدفع- شيئاً ، فأجرى عليه العقوبة إلى أن أشرف على التلف- أى الموت – وحمل إلى البرج المذكور فدام عليلاً يتداوى إلى أن مات في يوم الخميس ثامن شهر من شهر ربيع الأول وقد جاوز الثمانين من العمر".). ويقول ابن الصيرفي عن نهايته تحت التعذيب : ( وضرب ضرباً فظيعاً حتى طار لحم جسده عن بدنه،  ونزلوا به من القلعة في تابوت وعلى رأسه طاقية كشف، وتوجهوا به إلى منزله ، فغسلوه وكفنوه ، وصلوا عليه ..).

2 ـ وابن الصيرفي يجد العذر للسلطان قايتباى في مصادرته لهذا الشيخ وتعذيبه وقتله ، فيقول "(..إلى أن صادره الملك الأشرف أبو النصر قايتباى- عز نصره- أول مرة وثانية ، وهو معذور فيه، فإنه يدعى فقراً .) أى يستحق هذا المسكين القتل بالتعذيب لأنه يزعم الفقر. ولا عذر له ، ولكن العذر كل العذر للسلطان الورع قايتباى .!!

العزل عن الوظيفة مع المصادرة والتعذيب:

1 ـ وواضح أن العزل كان يرتبط بالمصادرة لأموال المعزول مثل ارتباط المصادرة أحياناً بتعذيب الضحية.. ورأينا ذلك في قصة أو مأساة يحي بن عبد الرازق الاستادار الذى بلغ أوج الرفعة ثم نزل إلى حضيض السجن والنكال مرات متتالية. ولم يكن هو المثل الوحيد.

2 ـ في يوم السبت 13 ربيع الأول 873 غضب السلطان قايتباى على قاضى قضاة دمشق ابن الصابوني وضربه بين يديه بقاعة الدهيشة بالقلعة، لأنه لم يدفع للسلطان المال الذى طلبه منه وهو مائة ألف دينار، ولم يزل يضربه حتى أذعن، فحملوه إلى الحبس ليدبر أمره في الدفع.ـ وفي يوم الثلاثاء 14 ربيع الثاني 873 سافر القاضى ابن الصابوني إلى دمشق بعد عزله ومصادرته وحبسه بعد أن التزم للسلطان بدفع المائة ألف دينار، وسافر معه السيفي جانبك الخاصكي ليحرسه ويرافقه حتى يسدد ما التزم به.

3 ـ وفي يوم السبت15 جمادى الثانية 873 أمر السلطان باعتقال ابن العينى بالبرج في القلعة بسبب ما تأخر عليه من المال وظل محبوساً بذلك البرج إلى يوم الأربعاء 19 جمادى الثانية ، ثم أطلقه السلطان بعد أن حمل المال، فأكرمه السلطان وألبسه التشريفة ورجع لداره مكرماً معظماً.!! أى على رأى المطرب فريد الأطرش : ( مرّة يهنّينى ..ومرّة يبكّينى ..)  4 ـ وفي شوال 876 تولى الحافظ القطب الخيضرى قضاء القضاه بدمشق وكتابه السر بها بعد أن قاسى أهوالاً من التعذيب، وقرر عليه السلطان ثلاثين ألف دينار، فدفع بعضها والتزم بدفع الباقى، وأعاده السلطان للولاية بعد ما فرضه عليه ، وأكرمه السلطان فأنزله ضيفاً في داره التى كان بها حين كان أميراً ، وزاره السلطان في تلك الدار فوجده نائماً فما أراد أيقاظه،، وحين استيقظ وعلم بزيارة السلطان إليه وهو نائم أرسل هدية للسلطان، فلم يقبلها السلطان وأخبر أنه ما حضر إلا ليزوره . وهكذا تغير حال السلطان معه من التعذيب إلى الإكرام والحنان ، بعد أن دفع له المال. مرة أخرى أى على رأى المطرب فريد الأطرش : ( مرّة يهنّينى ..ومرّة يبكّينى ..)

5 ـ وقد سبق للسلطان في شهر رجب من نفس العام أن أصدر مرسوماً للشام بإعادة القاضى الحنفي إليها عوضاً عن القاضى الحلاوى المعزول عن القضاء وأمر بأن يدفع غرامة عشرة آلاف دينار فإن امتنع فلابد من إرساله مسجوناً للقعلة . فأذعن القاضى الحنفى . وأرسل السلطان بالكشف عن القطب الخيضري قاضى القضاة بدمشق وكاتب السر بها ومصادرة ما لديه، فلم يوجد لديه شيء .وعزموا على القبض عليه وإرساله للقلعة، ولكنه اختفي وحضر للقاهرة سراً، وكان من أمره أن قبض عليه السلطان ولاقي أهوالاً عاد بعدها لمنصبه مكرماً بعد أن دفع للسلطان ما أرضاه عنه .لا رضى الله عنه ولا رضى عن السلطان .!!

6 ـ جدير بالذكر أن أولئك القضاة والموظفين كانوا يتسلطون على الناس بنفوذهم ينهبون الأموال ويأخذون الرشاوى والاتاوات بعلم السلطان ، وحين يوكل اليهم مصادرة زملائهم وغيرهم كانوا يسلبون لأنفسهم جزءا من الأموال المصادرة وينهبون بعض الأشياء العينية ويخفونها عن عيون السلطان، ولكن كان كل ذلك بعلم السلطان. لذا كان يلزمهم بأن يأخذ نصيبه بطرق متعددة ، منها أن يعزل الموظف ويعيده بعد أن يدفع رشوة للسلطان ، أو أن يعزله ويصادر أمواله ، أو أن يفرض عليه غرامة . وقد يستخدم التعذيب معه ليعترف بالمخبأ من أمواله . والعادة أن يصمد القاضى أو الموظف للتعذيب فلا يعترف بكل ما لديه لأن أمواله هى سبيله للنجاة إذ يستطيع بها فيما بعد شراء نفس المنصب أو منصب آخر وتعويض ما فات بنهب الناس . وهكذا دارت طاحون التعذيب تلتهم الظالمين ، وهم بدورهم يلتهمون الشعب المسكين ، وفوقهم جميعا السلطان الورع الذى يمسك بيده اليسرى آلات التعذيب ليستزيد من المال السحت ، ويمسك بيده اليمنى شعار الشريعة السنية يحتمى بها .

خوف الموظفين من مقابلة قايتباى:

1 ـ لذا كان خوف موظفي السلطان عظيماً حين يستدعيهم للحساب، وكان خوفهم أعظم حين يعزلهم عن الوظيفة،وما يعنيه العزل من إحتمال السجن والمصادرة والتعذيب حسب السّنة السائدة . وقد هرب القاضى تاج الدين بن المقسى ناظر الأملاك السلطانية (ناظر الخاص) والسبب أن السلطان عزله، فبادر بالهرب خوفاً من المصادرة والتعذيب، وعيّن السلطان بدلاً منه ابن الكويز في يوم الخميس 12 شعبان 874.

2 ـ وفي يوم الاثنين 9 ربيع الآخر في نفس العام 874 مات القاضى المشهور فى عصره : عبد الرحيم ابن البارزي، مات خوفاً من السلطان.فقد جاء من الشام لمصر ، وأرسل هدية للسلطان فردها السلطان عليه غاضباً، وبلغه أن السلطان توعده قائلاً : ("عند من يهرب منى ؟ هذا هو وقع في القفص ). هلع المسكين مما سمع،يقول ابن الصيرفى:( واشتد مرضه بالصرع فمات.).مات خوفاًورعبا من السلطان الورع قايتباى .!!

تفنن المماليك في التعذيب:

1 ـ وعلينا أن نعذر الشيخ عبد الرحيم ابن البارزي حين مات خوفا ، فالشيخ عبد الرحيم يعى تماماً تفنن المماليك في التعذيب والعقوبات.ولعل الشيخ عبد الرحيم في أيامه الأخيرة كان يتذكر وهو يرتجف كلمة السلطان "عند من يهرب منى؟ هذا هو وقع في القفص" ولعل الشيخ عبد الرحيم كان له فهمه الخاص لعبارة السلطان "هذا هو وقع في القفص" وربما أدى تفكره في هذه العبارة إلى أن قضى نحبه..

2 ـ فالشيخ عبد الرحيم شهد ما حدث للوزير الأهناسي في ربيع الأول 873 بعد أن صادره السلطان ( وأجرى  عليه العقوبة) على حدّ قول مؤرخنا ابن الصيرفى الذى أورد وصفا لما حدث لهذا الوزير ، إذ علّقه السلطان في شباك أو قفص حديد ( بأصابع يديه ، فما تحمل وأذعن ، ودفع للسلطان ألفى دينار".)

التعذيب بالضرب:

1 ـ ولا ريب أن الشيخ عبد الرحيم ابن البازري حين قدم القاهرة عرف أن يحيي بن عبد الرازق صادره السلطان للمرة الثانية وظل يعذبه حتى طار لحم جسده ومات في 18 ربيع الأول 874 وكان تذكره لمأساة يحيي بن عبد الرازق مما عجل به إلى الموت في الشهر التالى يوم 9 ربيع الآخر 874 أى أن الشيخ عبد الرحيم "أخذها من قصيرها ومات".

2 ـ وكان الضرب هو الوسيلة المثلى للتفاهم مع المتهم في أى جناية حتى لو كان بريئاً مظلوماً، ففي يوم السبت 21 صفر 886 ضربوا الشريف الأكفاني المتهم بقتل زوجته ضرباً مبرحاً نحو خمسمائة مقرعة وعصياً.. ثم أمر قايتباى بحبسه في سجن المقشرة. ولم تثبت عليه التهمة .

3 ـ وكان الضرب أحياناً يفيد، ففي يوم الاثنين 20 صفر 877 شكوا تاجراً إلى الداودار الكبير يشبك من  مهدي أنه أخذ من التجار بضائع إلى أجل، وحين جاء الأجل رفض أن يدفع ما عليه بسبب ما عليه من ديون، فأمر الداودار بضربه، ولما ذاق الضرب المملوكي ( صار يصرخ ويقول: ادفع الحق..) فأمر الداودار أن يعمل أجيرا في الحفير ويدفعوا أجرته لمن له في ذمته شيء.

4 ـ وشهدنا نماذج للضرب كإحدي العقوبات فيما كان يفعله المحتسب مع التجار وفيما يفعله السلطان وبقية الأمراء مع الناس وأرباب الوظائف. ولكن لم يكن الضرب هو العقوبة الوحيدة، فالتكنولوجيا المملوكية في التعذيب كانت رهيبة..

عقوبة كشف الرأس:

1 ـ وفي العصر المملوكي كان كشف الرأس عيباً كبيراً وعارا فظيعا، وكان من العادات الاجتماعية فى العصر المملوكى أن يكشف أحدهم رأسه عند المصيبة الكبري التى لا يستطيع تحملها. لذا كان من العقوبات والإهانة الفظيعة الهائلة أن يرغم أحدهم أحدهم على كشف رأسه فيراها الناس .!!

2 ـ ونرجع للوراء مائتى عام. حين مات ابن السلطان المملوكي المنصور قلاوون ليلة الجمعة 4 شعبان 679هـ، وكان المتوفي وهو على بن قلاوون أثيراً لدي أبيه فحزن عليه حزناً شديداً، وكان من مظاهر ذلك الحزن الهائل أن رمي السلطان كلوتته- أى عمامته- من على رأسه. ونذكر النص التاريخي الذى ذكره المقريزى في هذا الشأن لنعرف دلالة كشف الرأس:( أظهر السلطان لموته جزعاً مفرطاً، وصرخ بأعلى صوته وا ولداه..!! ورمى كلوتته من رأسه للأرض، وبقي مكشوف الرأس، إلى أن دخل الأمراء إليه وهو مكشوف الرأس يصرخ وا ولداه!! فعندما عاينوه كذلك ألقوا كلوتاتهم عن رؤوسهم وبكوا ساعة، ثم أخذ الأمير طرنطاى النائب شاش ( أى عمامة ) السلطان من الأرض وناوله للأمير سنقر الأشقر فأخذه ومشى وهو مكشوف الرأس وباس الأرض وناول الشاش للسلطان ، فدفعه ، وقال: أيش أعمل بالملك بعد ولدى.! وامتنع من لبسه ، فقبّل الأمراء الأرض يسألون السلطان في لبس شاشه، ويخضعون له في السؤال ساعة، حتى أجابهم وغطي رأسه.) . أى كانت عمامة السلطان الملقاة ورأسه المكشوفة هما الدليل على الحزن الشديد.

3 ـ ونرجع إلى خمسين عاماً تقريباً قبل عصر قايتباى.. في سلطنة الأشرف برسباى، وفي يوم السبت 25 شعبان830هـ يقول المقريزى "وفيه اتفق حادث فظيع" ونتأهب بعد هذه المقدمة إلى الاستماع إلى كارثة مما كان يحدث في العصر من أوبئة ومجاعات وحرب مهلكه.. ولكن نفاجأ بشيء طريف.. يقول المقريزى "وفيه اتفق حادث فظيع وهو أن بعض المماليك السلطانية الجراكسة انكشف رأسه بين يدى السلطان ..!!".يا خبر وقع الهرم الأكبر.. وانكشف رأس الرجال الصالح..!! وبعض المسلسلات التليفزيونية عن العصر المملوكي تظهرهم مكشوفي الرأس أحياناً. وآه لو خرج المماليك من قبورهم وشاهدوا ذلك الافتراء.ما علينا...نرجع للمقريزي.. يقول "وفيه اتفق حادث فظيع وهو أن بعض المماليك السلطانية الجراكسة انكشف رأسه بين يدى السلطان فإذا هو أقرع".ملحوظة: في ذلك العصر الذى كان الناس فيه يغطون رؤوسهم لم يكن الفارق كبيراً بين الأقرع والأصلع.. هذا للعلم... ونرجع للمقريزي..يقول:( إنكشف رأسه بين يدى السلطان فإذا هو أقرع ، فسخر منه من هنالك من الجراكسة، فسأل السلطان أن يجعله كبير القرعان ويوليه عليهم ، فأجابه إلى ذلك ورسم (أى أصدر مرسوما ) أن يكتب له به مرسوم سلطانى، وخلع عليه،( أى ألبسه تشريفة ) ، فنزل وشق القاهرة بالخلعة في يوم الاثنين سابع عشرينه (27 شعبان)، وصار يأمر كل أحد أن يكشف رأسه حتى ينظر أن كان أقرع الرأس أو لا، وجعل على ذلك فرائض من المال، فعلى اليهودي مبلغ.. وعلى النصراني مبلغ وعلى المسلم مبلغ بحسب حاله ورتبته، ولم يتحاش من فعل ذلك مع أحد، حتى لقد فرض على الأمير الأقرع عشرة دنانير، وتجاوز حتى جعل الأصلع والأجلح في حكم الأقرع ليجبيه مالا . فكان هذا من شنائع القبائح وقبائح الشنائع.  فلما فحش أمره نودي بالقاهرة: معاشر القرعان لكم الأمان ...)

ماذا لو عاد هذا الأمير الأقرع إلى عصرنا، وفرض رسوما على كل أقرع وأصلع؟ وما مقدار ما كان يجبيه  من ضرائب.أغلب الظن أننا سنصلح ميزان المدفوعات ونسدد ديون مصر وما نهبه منها مبارك وعصابته .. ولا بأس بعدها أن ينادى بالقاهرة: معاشر القرعان لكم الأمان.

المهم أن المقريزي اعتبر كشف رؤوس الناس من شنائع القبائح وقبائح الشنائع.حلمك يا شيخ مقريزي.. ليس الأمر بهذه الشناعة.ولكنه ذوق العصر المملوكي.

4 ـ وجاء المحتسب يشبك الجمالى وجعل كشف الرأس من بنود العقوبات التى كان ينزلها بالتجار المساكين الذين لا يستطيعون دفع الرشوة لأعوانه. يقول ابن الصيرفي عنه : ( بل تحضر أعوانه له بمن لا يعطونهم المعلوم المعهود عندهم، فيضربه ثلاث علقات ، واحدة على مقاعده وأخرى على رجليه وأخرى على أكتافه، ويشهرونه بلا طرطور ، بل يكشفون رأسه . وهو الذى أحدث كشف الرأس . مع أن جماعة كثيرين ممن فعل بهم ذلك عميوا وطرشوا ، فإن الواحد يكون ضعيف البصر أو به نزلة فيكشفون رأسه ويدورون به القاهرة فلا يرجع إلا بضر،أو أمثال ذلك.).وابن الصيرفي يعتقد أن كشف الرأس جعل أولئك الضحايا المساكين يصابون بالعمي والصمم، لأنه لا يتخيل أن يسير واحد مكشوف الرأس ويرجع إلى بيته معافي وفي صحة جيدة.

5 ـ وصارت عادة سيئة أن يكون التشهير مرتبطاً بكشف رأس الضحية ليزداد إيلامه. فهذا المحتسب المتدين الظالم ضرب جماعة من التجار وأشهرهم بالقاهرة بنفس الطريقة، وحدث ذلك في المحرم 874، وأمر الداودار الكبير بتشهير شاهدي زور (ومروا بهما في شوارع القاهرة مكشوفى الرؤوس) وحدث ذلك يوم الأربعاء 7 ربيع الأول 877. وابن الصيرفي الذى عهدناه في كتابه رقيقاً في نقده للمماليك كان أكثر كراهية للمحتسب يشبك، وربما يرجع ذلك إلى ما أحدثه من كشف الرؤوس. ولنفترض أن ابن الصيرفي رجح حياً وسار في شوارع القاهرة الآن وشاهد رؤوسنا الجرداء تعكس أشعة الشمس لتنير الطريق أمام الحيارى.. ترى ماذا كان سيفعل؟ أغلب الظن أنه سيعتقد أن المحتسب يشبك صار سلطاناً على القاهرة المحروسة.!!

عقوبة الشي بالنار والسلخ والتشهير:

1 ـونقفز من كشف الرأس إلى ما هو أفظع،وهو التعذيب بالشى بالنار ( أو الشوى بالنار ) والسلخ والتشهير.

فالداودار يشبك من مهدي ظفر بأحد مشايخ الأعراب من بنى عدي فضربه بالمقارع وأمر بأن يشوى بين يديه بالنار وهو حى فصار يستغيث ولا يغاث، وأخر الأمر أطلقه ،بعد أن قيل للأمير الداودار: (لا يعذب بالنار إلى خالقها.) . وحدث ذلك يوم الخميس 14 ربيع الأول 874.

2 ـ ومن الشي بالنار إلى السلخ للأحياء.سلخ جلد الضحية وهو حىّ .!!. وكان الضحايا من زعماء الأعراب الثائرين على الدولة. في يوم الأربعاء 18 ذى الحجة 873 أمر السلطان قايتباى بسلخ ابن سعدان أحد مشايخ الأعراب من مدينة فوّة. وفي يوم الخميس 5 جمادى الآخر 875 قبض الداودار الكبير على عيسى ابن بقر أحد مشايخ الأعراب وأمر بسلخه، ثم أمر السلطان بالتشفع فيه إذا دفع عشرة آلاف دينار، وجاء البشير إلى الضحية وهم يسلخونه فوجده قد قطعوا من رأسه قطعة فقال: أنا أوزن- أى أدفع الدنانير وأنقذ نفسه.

3 ـ وأحياناً كان السلخ مرتبطاً بالتشهير، أى يطاف بالمسلوخين المساكين في شوارع القاهرة ليتفرج عليهم الناس وينادى عليهم المشاعلى هذا جزاء من يفعل كذا، وفي النهاية يتم صلبهم حتى يموتوا أمام أعين الناس. وربما جاء تخويف الأطفال من ( ابو رجل مسلوخة ) من مشهد أولئك المسلوخين وهم يطاف بهم على أعين الناس ، ومنهم أطفال . وفي يوم السبت 29 ذى الحجة 876 طافوا في شوارع القاهرة بثلاثة مسلوخين من أكابر أعراب بنى حرام ، كان قد قبض عليهم الأمير قنصوه من جوار غيط الشيخ إبراهيم المتبولى فسلخهم وجهزهم- على حد قول مؤرخنا- وبعد أن طيف بهم في القاهرة أرسلوا إلى خارجها ليصلبوا أياماً ويرتدع المفسدون من قطاع الطرق من الأعراب.

4 ـ وتفنن المماليك في جريمة السلخ، فأحيانا كانوا يسلخون الضحية المسكين ثم يحشدون جلده تبناً أو قطناً يطوفون به في الشوارع جنبا الى جنب مع الضحية المسلوخ . ففى أواخر جمادى الأول  875 وصل ابن زوين كاشف الغربية وصحبته رجل من العريان يسمى عبد القادر حمزة مسلوخاً وقد حشي جلده قطناً ومعه عدة رؤوس آدميين مقطوعة ، وصار يشهرهم فى شوارع القاهرة ، إلى أن وصل به إلى بيت الداودار الكبير، وتصادف أن الأمير تمراز الشمسي رأى الضحية المسلوخ عبد القادر حمزة فعرفه، وكان تمراز كاشفاً للغربية قبل ابن زوين ، وكان يحمى عبد القادر حمزة وصديقا له ، فعندما رآه في ذلك الحال هجم على ابن زوين وضربه.

القتل بالتوسيط:

1 ـ والجبروت المملوكى إستخدم التعذيب حتى فى تنفيذ عقوبة القتل ، فلم يكتف في القتل بقطع الرقبة وإنما ابتدع التوسيط وهو قطع الضحية نصفين. وتلك إحدى منجزات الشريعة السنية فى العصر المملوكى .وهى تعبر عن رغبة المماليك فى أن ينفردوا وحدهم بالسلب والنهب ، لذا إستعملوا أفظع طريقة فى القتل لارهاب قطّاع الطرق من الأعراب وغيرهم لأنهم ينافسون المماليك فى نهب الناس .

2 ـ وشريعة التوسيط لها طقوسها : أن يعرى المحكوم عليه بالإعدام من الثياب ثم يثبتون أطرافه بالمسامير فى  خشبتين على شكل صليب ويطرح مصلوبا عليها ، ويوضع على ظهر جمل .وتسمى هذه العملية بالتسمير. وربما يطاف به في شوارع القاهرة على هذا الحال وهذا هو التشهير . ثم يأتى السياف فيضرب المحكوم عليه بقوة تحت السرة فيقسم الجسم قسمين من وسطه فتنهار أمعاؤه إلى الأرض.

3 ـ في يوم السبت 13 ذى القعدة 875 أمر السلطان بتسمير ستة أشخاص من قطاع الطرق وأن يتم توسيطهم بقليوب، فأشهروهم على الجمال تحت قيادة الأمير يشبك بن حيدر صاحب الشرطة، وطبقا لما أورده ابن الصيرفى فقد ذكر  صاحب الشرطة عنهم "أنهم قتلوا رجلاً بقليوب وأخذ ماله وحرقوه بمستوقد . وأمثال ذلك من التهجم والقتل وقطع الطرق" ويستطرد مؤرخنا قائلاً "وذاك ذنب عقابه فيه، ووسطوا بقليوب أو قربها وعلقت جثثهم ليرتدع أمثالهم عن هذه الأفعال المنكرة . ) ويختم مؤرخنا بقوله ( ..رب سلّم !!.)

4 ـ وفي اليوم التالى وهو 14 من ذى القعدة 876 أمر السلطان بتسمير أربعة من العربان والمفسدين على الجمال، اثنان بالجيزة واثنان من غيرها، وأشهروهم بالبلد، ووسّطوا منهم اثنين بباب النصر بالقاهرة لقربهم من أعراب بنى حرام ووسطوا اثنين بمصر لقربهم من الجيزة.

5 ـ وحيكت أساطير عن موضوع التوسيط، يقول مؤرخنا "وبلغني أن شخصاً من العريان يسمى ابن زعازع قبض عليه الداودار الكبير لما بلغه من الجرائم والمفاسد، وأمر بتوسيطه، فضربه المشاعلى بين يديه نحو سبع عشرة مرة ، فلم يقطع فيه السيف بل ينقلب" وزعموا أنه معه حرزا يحميه من التوسيط.

6 ـ وحمل التاريخ المملوكي بعض المآسي الدرامية للمحكوم عليهم بالإعدام. قبل عصرنا بقرنين، أى في شهر جمادى الأول 680هـ يروى المقريزى أنهم قبضوا على قاطع طريق مشهور اسمه الكريدى، فسمّروه على جمل ، وأقاموا عليه أياماً يطوفون به في أسواق مصر والقاهرة ، وتعاطف معه الحارس الموكل به فقطع عنه الطعام والشراب، فلما جاع وطلب الطعام(قال له الحارس :إنما أردت أن أهون عليك لتموت سريعاً حتى تستريح مما أنت فيه، فقال له: لا تقل كذا فإن شر الحياة خير من الموت!! فناوله الطعام والشراب، فأتفق أنه شفعوا فيه ، فأطلقوه وسجنوه فعاش أياماً في السجن ثم مات). وأغلب الظن أنه مات بعد أن تسممت جراحه.

عقوبة قطع الخصيتين:

1 ـ وتفنن المماليك في التعذيب وإيقاع العقوبة ووصل إلى مناطق لا تخطر على البال.

في سنة879 أمر قايتباى بقطع خصيتى مملوك يقال له شاهين ، كان خازندار الأمير اينال الأشقر، لارتكابه جريمة خلقية، وصادفت هذه العقوبة وجود شخص يهودي خبير بالإخصاء بمصر العتيقة.

2 ـ والأتراك- ومنهم كان أكثرية المماليك- كانت لهم معرفة بهذه النوعية العجيبة من القتل والتعذيب، وبدأ ذلك قبل عصرنا بستة قرون. إذ يذكر الطبرى أن الأتراك المتغلبين على الخلافة العباسية ثاروا على الخليفة المهتدي وقتلوه، ويحكي الطبرى كيفية قتله فيقول" أمروا من عصر خصيته حتى مات" وذلك سنة 256.

3 ـ وأحيت الدولة المملوكية ذلك التقليد العجيب في القتل فمات بهذه الطريقة أول سلطان مملوكي وهو عز الدين أيبك. فقد بدأ العداء بين أيبك وزوجته السلطانة السابقة شجرة الدر، وعزم أيبك على أن يتزوج عليها إحدى الأميرات، وأعاد المياه إلى مجاريها بينه وبين زوجته الأولى أم على، مما جعل شجرة الدر تخطط لاغتياله، فبدأت تراسله وتبعث له من يصلح بينه وبينها ويحلف عليه ليعيد الحب المفقود بينه وبينها مما ألان قلبه وجاء للقاء زوجته شجرة الدر في القلعة. ولأن الأكياس البلاستيك التى كانت المرأة المصرية فى أوائل التسعينيات تعلّب فيها زوجها المفترى لم تكن قد اخترعت بعد فإن شجرة الدر خططت لقتله بالطريقة التركية. وفي ليلة الثلاثاء 24 من ربيع الأول 654 ترك المعز أيبك باب اللوق ودخل القلعة آخر النهار وبعد الهجر والخصام قضى ليلة من ليالى العمر مع زوجته الجميلة، ثم دخل الحمام ليغتسل فوجد مفاجأة سيئة. كانت شجرة الدر قد أعدت لقتله في الحمام خمسة من القتلة منهم محسن الجوجري ونصر العزيزى والمملوك سنجر، ويصف المقريزي ما حدث في الحمام فيقول"( ودخل إلى الحمام ليلاً فأغلق عليه الباب محسن الجوجرى وغلام عنده شديد القوة ، ومعهما جماعة ، وقتلوه بأن أخذ بعضهم بأنثييه وبعضهم بخناقه ،  فاستغاث المعز بشجرة الدر ، فقالت: أتركوه ! ، فأغلظ لها محسن الجوجرى في القول وقال لها : متى تركناه لا يبقي علينا ولا عليك. ثم قتلوه.). إستغاث المسكين من شياطين الظلام الذين أخذوا بخناقة من هنا وهناك، فأضاعوا عليه ذكريات الحلم  الجميل الذى كان يعيش في خياله.. واستيقظت السلطانة الجميلة من ذكريات اللحظات الجميلة على صوت حبيبها يستغيث بها.. وكانت في هذه اللحظة تعيش مشاعرها كامرأة عاشقة لا تزال تجتر ذكرياتها الممتعة.. وحين استغاث بها كان قلبها خالياً من الحقد والكراهية وفنون المؤامرات فأمرت بأن يكفوا عنه.ولكن القتلة لا شأن لهم بكل هذه المشاعر الجميلة، وهم يعلمون أن هذه المشاعر مهما بلغ جمالها فهي إلى نهاية، نهاية الموت لهم بعد أن يعود الزوج الولهان سلطاناً متحكماً، لذا أمر قائد القتلة بأن يجهزا على الضحية قبل أن يقتلهم، وشخط في شجرة الدر.. فكتموا أنفاسه من هنا وهناك. وبهذه الطريقة قتلت السلطانة الفاتنة زوجها أول سلطان مملوكي . وذاق السلطان أيبك قبيل موته أمتع اللحظات وأشدها عذاباً.

لا رأيتم عندكم مكروها في عزيز لديكم. والعاقبة عندكم في المسرات.. فقط.

ولا عزاء للسيدات.

اجمالي القراءات 15063